يخوض العراق انتخابات مبكرة في العاشر من أكتوبر 2021، وسط ظروف محلية وإقليمية ودولية معقدة وصعبة للغاية، واستحقاقات كثيرة في هذا المشهد الذي تبلور على مدى ثمانية عشر عاما منذ أن تشكلت هذه العملية السياسية من المعارضة التي كانت في الخارج بعد احتلال بغداد في العام 2003، والتي تحمل توجهات وأجندات مختلفة وغير متجانسة تماما ويغلب عليها طابع الإسلام السياسي والتي أوصلت العراق في النهاية إلى احتجاجات غاضبة في بغداد والمحافظات الجنوبية في العاشر من أكتوبر من العام 2019.
وقد ذهب ضحية هذه الاحتجاجات مئات الشهداء وآلاف الجرحى، واستهدفت هذه الاحتجاجات، القنصليات الإيرانية، وحرقتها بالإضافة إلى مقرات الأحزاب الموالية لإيران.
تحت وطأة هذه الظروف استقالت حكومة عادل عبد المهدي في نوفمبر 2019، بعد أن دخلت البلاد في شلل تام وتراجع كبير في مستوى الخدمات والأمن والوضع الاقتصادي كان على حافة الانهيار، مع تراجع حاد لأسعار النفط.
في تلك الأثناء كان لاستهداف الولايات المتحدة في الثالث من يناير 2020، للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني وأبو مهدي المهندس مسؤول الحشد الشعبي وقتلهما قرب مطار بغداد الأثر البالغ في تدهور الأوضاع في الداخل العراقي مع تصاعد حدة التوتر بين إيران وبين الولايات المتحدة نتيجة هذا الاستهداف، وعلى إثرها تعرضت السفارة الأمريكية والمصالح الأمريكية في العراق إلى هجمات بالصواريخ من قبل الفصائل الموالية لإيران لكن لم تكن هناك خسائر تذكر.
في يونيو 2020، تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي والذي أصبح رئيساً للوزراء، علما بأنه لم يكن معروفاً على المستوى السياسي ولكنه كان يشغل منصب مدير جهاز المخابرات العراقي منذ العام 2016، وكان قليل الحضور إعلامياً، كما أنه لم يكن ينتمي إلى أحد الأحزاب السياسية.
يعتبر الكاظمي أول رئيس وزراء للعراق يأتي من خارج الأحزاب التي شكلت العملية السياسية في العراق منذ العام 2003. وكان عليه أن يتعاطى مع الاحتجاجات وأن يقوم بتهدئة مخاوف الشارع العراقي وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها، كما توجب عليه مواجهة تفشي كورونا، وانتشال البلاد من الوضع الاقتصادي المتردي وكذلك مكافحة الفساد، كما توجب عليه أن يخفض حدة التوتر بين الولايات المتحدة وبين إيران على خلفية تصفية قاسم سليماني.
إبان تلك الفترة حاول الكاظمي كسب الشارع من خلال الوعود التي أطلقها عند تسلمه رئاسة الوزراء وكانت في مقدمتها محاكمة قتلة المتظاهرين والقيام بإجراء انتخابات مبكرة، وحصر السلاح بيد الدولة وتوفير فرص للعاملين ومكافحة الفساد المستشري في مرافق الدولة، بالإضافة إلى الحد من تدخلات دول الجوار في الملف العراقي.
الواقع أن الكاظمي نجح إلى حد ما في حلحلة بعض الملفات وكسب ثقة الشارع والحد من سلطة الفصائل المسلحة وضرب رؤوس بعض الفاسدين، كما أنه استطاع أن يحدد موعدا للانتخابات المبكرة برعاية دولية وتشرف عليها الأمم المتحدة، وهي سابقة جديدة لم تحدث في الانتخابات الماضية وذلك بعد أن شابها الكثير من عمليات التزوير والتلاعب خلال السنوات الماضية، علماً أن لم يكن مرشحاً فيها أو يدعم حزبا بعينه، كما أنه استطاع أن يحد من تدخلات إيران وحجم أذرعها داخل مؤسسات الدولة من خلال إلقاء القبض على بعض عناصرها المتنفذين.
في هذه الانتخابات تتنافس الأحزاب السياسية وبعض المستقلين من أجل الظفر بتشكيل الحكومة القادمة وأهمها القوى الشيعية والتي سادت المشهد السياسي منذ أن تشكلت أول حكومة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لكن هذه القوى الشيعية ولاسيما التي ترتبط بأجندات مع إيران قد تلقت ضربات قوية في أثناء الاحتجاجات واتهمت عناصرها بتصفية المتظاهرين وأحرقت مقراتها في وسط وجنوبي العراق في أثناء تلك الاحتجاجات.
ولعل هذا ما أفقدها قاعدتها الشعبية التي كانت تمثل رأس الرمح في دعم المشروع الإيراني داخل العراق وخارجه، يضاف إليه الانقسامات الحادة فيما بينها والصراع من أجل الظفر برئاسة الوزراء وخاصة بعد أن أكد التيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر بأن رئاسة الوزراء هذه المرة سوف تكون صدرية بامتياز.
بطبيعة الحال يجعل هذا الوضع بقية الأحزاب الشيعية في حالة تخوف من الأجندات التي يحملها هذا التيار، والذي يتهم كثيرا من هذه الأحزاب بمشاركة حكومة نوري المالكي في تصفية عناصره في أثناء المواجهات مع القوات الحكومية والأمريكية في بداية العام 2008.
وبالرغم من هذا المشهد إلا أن حالة الانتخابات الراهنة يصاحبها عزوف من القاعدة الجماهيرية عن المشاركة؛ بسبب خيبة الأمل التي خلفتها تلك الأحزاب طيلة الفترة الماضية.
أما الأكراد فإن الحزب الديمقراطي بقيادة البارزاني يسعى من أجل الحصول على رئاسة الجمهورية بعد الانقسامات الحادة التي حصلت في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وجبهة التغيير الكردية، وكذلك حجم الاختلافات داخل قيادته الحزبية، ومن المتوقع أن يتحسن شكل التمثيل الكردي في البرلمان الاتحادي.
وبالنسبة العرب السنة فهناك توجه كبير بين فئاتها من أجل المشاركة في الانتخابات بعد أن تم تغيير قانون الانتخابات، وربما هذه المرة قد يخدمهم الحظ في الحصول على مقاعد أكثر بكثير من السنوات الماضية، على خلفية الاضطهاد والتهميش الذي يشعرون به.
وتتنافس قائمتان رئيستان لدى هذا المكون، الأولى: بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان. والثانية: قائمة عزم بقيادة خميس الخنجر ومحمد الكربولي، لكن الحلبوسي الأوفر حظاً في الحصول على أغلبية مقاعد المكون وذلك من خلال اختياره الشخصيات المؤثرة في مناطقها وحسن التنظيم، هذا على المستوى المحلي.
أما على المستوى الاقليمي حاول الكاظمي في هذه المرة إعادة التوازن في علاقات العراق مع دول الجوار ومحيطه العربي من خلال عقد المؤتمرات في بغداد وبحضور قادة عرب، والانفتاح على هذه الدول ولاسيما العربية منها وفي مقدمتهم مصر صاحبة الثقل في القرار العربي.
إن هذه العلاقات في الحكومات السابقة كانت تعتبر من المحرمات ولم تكن العلاقات تقام بين العراق وبين الدول العربية أو دول الجوار إلا على أساس المصالح التي تخدم الهيمنة الإيرانية، كما أنه استطاع تقريب وجهات النظر بين الإيرانيين وبين السعوديين من خلال الجولات التي عقدت في بغداد بين ممثلين عن هاتين الحكومتين.
كذلك حاول الكاظمي إنهاء الاحتكار الايراني في مجال الطاقة وتحرير إنتاج الطاقة الكهربائية من خلال اتفاقية الربط الكهربائي مع دول الخليج وكذلك توقيع عقد مع الشركات الإمارتية من أجل إنتاج الطاقة الشمسية بواقع خمس محطات تتوزع في المحافظات العراقية.
هنالك أيضاً مباحثات من أجل استثمار حقول الغاز وتقليل الطلب على الغاز الإيراني.
أما إيران فقد تعرضت علاقاتها مع المكون الشيعي الذي يحكم البلاد منذ بداية الاحتلال الأمريكي إلى هزات قوية بسبب النخب الحاكمة التي تساندها إيران في المشهد السياسي العراقي وتقدم الدعم الكامل لها، وهذه النخب يشوبها الكثير من ملفات الفساد وسوء الإدارة وانعدام الأمن والخدمات.
وتعتقد القاعدة الجماهيرية الشيعية أن الوضع الذي وصل إلى أسوأ الأحوال هو نتيجة الدعم الإيراني لهذه الأحزاب الفاسدة، لذلك تعرضت بعثاتها الدبلوماسية والقنصلية ومصالحها في العراق إلى هجمات قوية ومن قبل قاعدتها الشعبية التي كانت من خلالها تتحكم بالمشهد السياسي العراقي.
بناء عليه من المرجح أن تشهد هذه الانتخابات تراجعا حادا في السطوة الإيرانية وأن تكون القوى المعتدلة هي التي لها كلمة الفصل في المشهد السياسي العراقي المقبل، يضاف إليه ما تعانيه إيران من تغيير في محيطها الإقليمي وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما بعد وصول رئيسي المتشدد إلى سدة الحكم ومنها:
ــ أفغانستان: عودة حركة طالبان إلى حكم أفغانستان وتشكيل إمارة إسلامية سنية على الحدود مع إيران والتي لديها اختلافات عقائدية وجوهرية مع نظام ولاية الفقيه في طهران لاسيما أن حركة طالبان تتهم النظام الإيراني بمساعدة الولايات المتحدة في إسقاط نظامها في العام 2001، كما أن إيران لديها علاقات قوية مع بعض الحركات الشيعية في أفغانستان واستغلالهم في تشكيل فصائل مسلحة تقاتل في سوريا والعراق واليمن، ومنهم الفاطميون والحيدرون، وهو ما يزيد من التوتر بين البلدين.
ــ سوريا: على الرغم من أن إيران كانت الدولة الأولى التي ساعدت نظام بشار الأسد على الصمود بوجه الاحتجاجات في العام 2011، وقدمت الكثير من القتلى في صفوف قواتها هناك بالإضافة إلى آلاف القتلى من الذين جندتهم من العراق ولبنان وأفغانستان لتقاتل بجانب النظام، إلا أن المعادلة بدأت تتغير هناك وخاصة عندما حدث التدخل العسكري المباشر في سوريا والاتفاقيات التي عقدها مع إسرائيل وتركيا في كيفية التعامل مع النفوذ الإيراني المتغلغل في القرار السياسي والأمني السوري، وأصبح القرار الروسي في المشهد السوري يطغى على القرار الإيراني، وهناك أنباء تشير إلى وجود اتفاق دولي على سحب البساط من إيران في سوريا وإخراج الميليشيات التي تتبعها هناك ومنها حزب الله اللبناني والذي غالبا ما يتعرض إلى ضربات إسرائيلية قوية ساعدت في الحد من تحركات إيران داخل الأراضي السورية.
ــ لبنان: القاعدة الأساسية التي تنطلق منها إيران من إجل إدارة الفصائل المسلحة التابعة لها وكذلك إدارة الملفين السوري والعراقي من هناك، إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية فضلا عن انفجار مرفأ بيروت في أغسطس من العام 2020، وخروج التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة اللبنانية وضد حزب الله القوة الإيرانية الضاربة في المنطقة وانهيار الليرة اللبنانية مع سوء الخدمات وفي مقدمتها ملف الكهرباء؛ أضعف موقف إيران في هذا البلد بعد تأثر حلفائها كثيراً وفقدان قاعدته الجماهيرية بعد مشاركته في المشهد السوري وكذلك اتهامات متبادلة بفاجعة مرفأ بيروت، والتي أدت إلى تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي بعد مخاض عسير وقد طالبت تلك الحكومة بالحصول على معونات دولية إلا أنها جوبهت بشروط قاسية قد تضعف قبضة حزب الله على الملف اللبناني، وهذا ما يشير إلى أن الانتخابات المقبلة سوف تضعف كفة إيران في حكم لبنان.
ــ أذريبجان: الخطر المقبل على إيران بسبب التوترات بين البلدين، على خلفية محاولات إيران السيطرة على الأكثرية الشيعة في هذا البلد، لكن شيعة أذربيجان لا يرتبطون بولاية الفقيه في إيران، كما أن هنالك جالية آذرية كبيرة في إيران تسعى للانضمام إلى أذربيجان، وقد حاولت إيران استمالة رجال الدين الشيعة في هذا البلد إلا أنها جوبهت بردات فعل قوية من قبل الحكومة الأذربيجانية، كما أن موقف إيران في أثناء العمليات العسكرية بإقليم ناجورنو كاراباخ التي وقعت بين أرمينيا وأذربيجان ودعم إيران للحكومة الأرمينية أضعف موقفها لدى أذربيجان، وكذلك تتهم إيران أذربيجان بوجود ضباط مخابرات إسرائيلين يدعمون المعارضة الإيرانية من أراضيها وهو ما فاقم الأزمة، إذ تحشدت قوات البلدين على الحدود كما قامت الحكومة الأذرية بغلق مكاتب المرشد الأعلى والحسينيات التي تتبعه في العاصمة باكو.
خاتمة
بناء على ماتقدم فإن كل المؤشرات على الساحة في العراق ومحيطه الإقليمي والدولي تنبئ عن أن إيران ستخسر الكثير من نفوذها داخل العراق في هذه الانتخابات، وقد تنجح الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة في تحجيم إيران وعزلها عن أذرعها واحدة تلو الاخرى بحيث تسهل عملية إسقاطها أولاً من الخارج ثم تأتي الضربة القاضية من الداخل لاسيما أنها تعاني من عقوبات أمريكية هي الأقسى في التاريخ.