استمر الرئيس المنتخب، حجة الإسلام والمسلمين، إبراهيم رئيسي، في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي بالعاصمة النمساوية فيينا، وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية خطيب زاده أن الرئيس لن يترك مفاوضات فيينا، ولن يتردد في السعي لرفع الحظر عن طهران، ما قد فهم منه أن خيار الذهاب إلى فيينا ليس من صلاحيات الرئيس، غير أن هذا الرئيس مسؤول عن التكتيكات التي من شأنها تعظيم مكاسب إيران من تلك الطاولة، وهو ما يمكن قراءته من خلال تصريح الخارجية الإيرانية التي قالت: “طهران لن ترضى بأقل من بنود الاتفاق النووي لعام 2015”.[1]
وقد قرر رئيسي الذهاب إلى تلك المفاوضات اتكاءً على عاملين، أولا: أن هذا التوجه هو الخط السياسي الذي رسمه المرشد الأعلى علي خامنئي، وبالتالي فإنه ملزم بالمضي قدما في هذا المسار، كما أن أي اتفاق لن يواجه معارضة داخلية ذات شأن، خاصة من القوى الكبرى التقليدية في البلاد (الحرس الثوري + رجال الحوزة الفقهية). ثانيا: الأمل في أن يؤدي رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن بلاده إلى إنعاش الاقتصاد المتردي، لاسيما أنه التزم في خطاب تسلمه “حكم رئاسة الجمهورية” يوم الثلاثاء 3 أغسطس 2021 برفع العقوبات وهو الأمر الذي لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال طاولة فيينا.[2]
ولئن كان المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي هو الذي يضع السياسات الخارجية للبلاد ويحدد أطرها([3]) إلا أن لرئيسي دافعين براجماتيين من وراء إتمام هذا الاتفاق. أولا: الدافع الشخصي المتمثل في رفع العقوبات الموقعة عليه هو شخصيا وعلى نائبه محمد مخبر.([4]) ثانيا: الدافع الداخلي المتمثل في تقوية مركزه السياسي إزاء مواجهة جبهة الإصلاحيين التي اعتبرت أن خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” لعام 2015 هي الإنجاز الأكبر لحكومة إصلاحية قادها رئيس معتدل لثماني سنوات (2013 ـ 2021).
اقرأ أيضا:
ولرئيسي مواقفه المؤيده لسياسة الجمهورية الإسلامية فيما يتعلق بالإتفاق النووي، على النقيض من معارضته لأداء حكومة روحاني، التي وصفها بالضعف ولاسيما في الملف النووي. هذا وقد سبق له خلال مشاركته في الجولة الانتخابية الرئاسية لعام 2017، انتقاد حسن روحاني والتشكيك في وعوده حول رفع العقوبات بعد توقيع خطة العمل المشتركة الشاملة، والتي لم يتحقق منها شيئا، على حد قوله.[5]
المواقف الداخلية من مفاوضات فيينا
يمكن القول إنه ليس ثمة اختلاف محتمل من أي تسوية مرتقبة في فيينا، إذ تعتبر جبهة الإصلاحيين أن أي اتفاق مع الغرب هو الحل الأنجع لإخراج البلاد من كبوتها الاقتصادية، وبالتالي لن تواجه رئيسي معارضة داخلية من توقيع اتفاق من تلك الجبهة كما أنه ليس من المتوقع تسجيل العسكريين ورجال الدين اعتراض على التسوية السياسية، خاصة أن هناك مواقف معلنة لكل التيارات تدعم الاتفاق مع الغرب شريطة ألا يتم المساس بمسلمات الأمن القومي للبلاد وهي البرنامج الصاروخي الباليستي على وجه التحديد.
على سبيل المثال قال المرشح الرئاسي المنسحب والمستشار العسكري للمرشد اللواء حسين دهقان البالغ من العمر 64 عاماً: “إن أي مفاوضات تجري مع الغرب لا يمكن أن تشمل الصواريخ الباليستية لأنها القوة الرادعة لأعداء إيران وخصومها”.[6]
وأضاف دهقان الذي كان وزيرا للدفاع: “لن تتفاوض الحكومة الإيرانية أبداً حول قوتها الدفاعية، مع أي جهة، وتحت أي ظروف. إن صواريخنا الباليستية رمز الإمكانات الهائلة التي نملكها من خبرائنا وشبابنا ومراكزنا الصناعية الكبرى”.[7]
كما دعم القيادي في الحرس الثوري العميد سعيد محمد الاتفاق مع الغرب لكن باتباع استراتيجية التصعيد النووي، وقد أوصى الحكومة برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 93%، قائلا: “نحن بحاجة إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 93% لحين التزام أمريكا والعالم بوعودهم، كما يجب علينا التحرك نحو تخصيب اليورانيوم بنسبة 93% للاستخدام السلمي. إذا ما انتهجنا هذه الطريقة وقمنا بتقوية أنفسنا في الجانب النووي ومن الداخل، بدلًا من نصب المفاعلات النووية؛ سنرى حينها كيف يتقرب منا الطرف المقابل للاتفاق معنا”.[8]
أما السياسي الأصولي حسين قاضي زاده هاشمي فأعرب عن تأييده لسياسات رئيسي الخارجية خاصة في الملف النووي، وأيد العودة إلى طاولة المفاوضات مع أمريكا مع ضمان بأن تفِ واشنطن بكل تعهداتها. وشدد على ضرورة مواصلة إدارة بلاده رفض مبدأ المساومة مع الإدارة الأمريكية على حساب مصالح الأمة الإيرانية.[9]
اقرأ أيضا:
وهو الأمر نفسه الذي أيده السياسي الإصلاحي وأستاذ الاقتصاد الإسلامي في جامعة طهران حسين سبحاني الذي تبنى هو الآخر فكرة إعادة إحياء الاتفاق النووي وإعلاء المصالح الوطنية والأمن القومي، ومن خلالهما يرى أن بلاده ستتمكن من إرضاء الشعب داخليا والتأثير على الدول الأخرى دوليا، ويرى أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التنمية والتقدم في البلاد.[10]
في الجانب نفسه يلقى اتفاق فيينا المحتمل دعما من السياسي علي لاريجاني رئيس البرلمان السابق، وهو يرى أن المفاوضات مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية خيار لا غنى لرفع العقوبات الاقتصادية على البلاد.[11]
أثر الاتفاق على الأوضاع الداخلية
من المرجح أن تسمح مخرجات اتفاق فيينا للرئيس إبراهيم رئيسي بتعزيز وضعه الداخلية، إذ ستجعل الأموال الإيرانية المحررة في البنوك الغربية بأن تنفق إيران على المشاريع الاجتماعية الداخلية، ومنها على سبيل المثال: بناء الإسكان الشعبي الذي لم يجد اهتماما من إدارة الرئيس حسن روحاني، وهو ما أكده رئيسي في غير مرة منذ نجاحه في الانتخابات يوم 19 يونيو 2021.
فضلا عن ذلك سيؤدي تحرر إيران من العقوبات إلى الإنفاق على المشاريع التي بسببها اتهم رئيسي روحاني بالتقصير في مهام عمله ومنها مسائل الإنفاق على الأسر التي بلا عائل ومناهضة عمالة الأطفال المنتشرة بشدة في البلاد بالسنوات الأخيرة.
إلى جانب كل ما سبق سيؤدي الاتفاق إلى تقوية المركز السياسي لرئيسي على حساب كل الأطراف الأخرى، وسيخرج رئيسي منتصرا من الاتفاق وبالتالي سيحقق الغلبة على كل معارضيه حتى من جبهته نفسها وكذلك الغلبة على الشخصيات المفروضة عليه من بيت القيادة في البلاد.
ولعل الاختلاف بين رئيسي وبين نائبه الأول محمد مخبر دزفولي في اليوم الأول لتعيينه 8 أغسطس 2021 خير دليل على تلك الحالة، فقد اختلف الرجلان على تسمية، زاهد وفا، وزيرا للاقتصاد، فقد رفض دزفولي تعيين وفا من الأساس كما رفض اسمي رئيس منظمة التخطيط والميزانية ومحافظ البنك المركزي اللذين سيعينهما رئيسي[12] واللذين لا يحتاجان إلى موافقة البرلمان الذي من صلاحياته الموافقة على ــ أو رفض ــ أسماء أعضاء الحكومة.[13]
ويمكن القول إن توقيع اتفاق بشروط تفضيلية إيران تعني خروج إبراهيم رئيسي منتصرا من فيينا وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على تموضعه الداخلي على رأس السلطة التنفيذية وسيجعل هذا الاتفاق إبراهيم رئيسي أكثر ارتياحا في معاركه الداخلية التي بدأت منذ اليوم الأول لجلوسه في شارع “الباستور” أو في قصر “سعد آباد”.
سياسة رئيسي إزاء فيينا
يمضي الرئيس إبراهيم رئيسي إلى سيرورة التفاوض مع الغرب محملا بخبرة تاريخية تتمثل في نكوص الولايات المتحدة الأمريكية عن التزاماتها إزاء خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي”، فضلا عن تيقن طهران بأن الموقف الأمريكي المتصلب تجاه إيران يلقى دعما غير معلن من القوى الأوروبية التي تتودد إلى طهران في العلن وتناصر التشدد إزاءها في الغرف المغلقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
اقرأ أيضا:
على هذا الأساس تعاني العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية من فقدان الثقة التام بين الجانبين نظرا للعامل السابق فضلا عن اعتقاد أمريكا أن إيران تجاوزت اتفاق عام 2015 واستثمرته للقيام بأدوار أمنية موسعة في الإقليم حصلت من خلالها على أكبر من حصتها الاستراتيجية، هذا التجاوز يرضي رئيسي ويود الرئيس المحافظ لو استمر عليه.
عليه يمكن القول إن علاقات رئيسي ــ بايدن ستكون محكومة بحالة من التوتر الذي شاب الأجواء بين بلديهما بعد قرار انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في الثامن من مايو عام 2018، خاصة أن بايدن كان أحد صناع الاتفاق ولم يعد إليه فور توليه السلطة في يناير 2021، كما أنه (أي بايدن) اتفق مع ترامب وأيده في الكثير من الأمور التي أثارت امتعاض إيران وغضبها.
على سبيل المثال أيد بايدن ــ ضمنيا ــ اغتيال اللواء قاسم سليماني في يناير 2020 وهو ما زاد من شحن الأجواء بين الطرفين خلال الفترة الماضية وحتى الآن، في ظل المحاولات التي تجري لرأب الصدع بين الطرفين على مائدة المفاوضات في العاصمة النمساوية فيينا، والتي يقودها المفاوض الأوروبي للشؤون الإيرانية إنريكي مورا.
مع ذلك فإن مستقبل العلاقات بين الرئيسين محكوم بالعديد من المؤثرات التي باتت تمثل عقبات كبرى في سبيل تمهيد الطريق بينهما، إذ تعد أبرز تلك العقبات التباينات الإيرانية ـ الأمريكية في عدد من المسائل ليس أقلها الوضع في أفغانستان والمناصرة الأمريكية لإسرائيل في اتهامها لإيران بالضلوع في حادثة السفينة ميرسر ستريت، فضلا عن الموقف الأمريكي المؤيد للمظاهرات في الإقليم العربي الأحوازي.
خاتمة
على تلك الصورة يبدو أن إبراهيم رئيسي عقد العزم على المضي قدما في مفاوضات فيينا، مدفوعا بالتزام انتخابي داخلي يقضي برفع العقوبات، أكده هو في خطاب استلامه “حكم رئاسة الجمهورية” يوم الثلاثاء 3 أغسطس، وفي خطاب التنصيب الرسمي أمام البرلمان يوم الخميس 5 أغسطس، وهو ما لن يتأتى إلا بالمفاوضات، إلى جانب حزمة من الضغوط الخارجية والداخلية التي تلزمه بذلك، وفي الصورة الكلية ليس من المتوقع أن يواجه أي اتفاق مع الغرب معارضة داخلية وازنة.
ــــــــــــ
نقلا عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ECSS
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إيران: رئيسي لن يترك مفاوضات فيينا ولن يدخر جهداً لرفع العقوبات، العربية، 09 أغسطس 2021. الرابط: https://ara.tv/pw6js
[2] لمزيد من التفاصيل ينظر: د. محمد محسن أبو النور، إبراهيم رئيسي يمسك رسميا كتلا من الجمر المشتعل، المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، الثلاثاء 3 أغسطس 2021. الرابط: https://bit.ly/3rRPY6B
[3] تنص المادة 110 من الدستور الإيراني على أنه من وظائف القائد وصلاحياته: “تعيين السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام”.
[4] في الثاني عشر من يناير 2018، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقوبات على رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي. الرابط: https://sptnkne.ws/BgqH
[5] برجام چکی است که باید رفت ان را نقد کرد، خبرگذاری ایسنا، 15 اردیبهشت 1396، لینک خبر آنلاين: https://bit.ly/3tjjRvG
[6] السابق.
[7] نفسه.
[8] وعده هاي انتخاباتي سعيد محمد – غني سازي اورانيوم را 93 درصد مي كنيم، پایگاه خبری اقتصاد نیوز، 10 اردیبهشت 1400، لینک خبر آنلاين: https://bit.ly/3xOBdnO
[9] قاضي زاده هاشمي: مذاكره يا عدم مذاكره خط قرمز اين دوره از انتخابات باشد، خبرنگار الهه حمیدی کیا – دبیر الهام رییسی، خبرگذاری ایسنا، 10 فروردین 1400، لینک خبر آنلاين: https://bit.ly/3gZjXGf
[10] كانديداى اقتصاددان انتخابات: برجام بايد احيا شود، دنياى اقتصاد، تاریخ انتشار: ۱۴۰۰/۰۲/۱۴، لینک خبر آنلاين: https://bit.ly/3thNJsf
[11] Barbara Slavin, Larijani has credentials but not charisma as Iran’s presidential candidate, Atlantic Council, MAR 16, 2021. Link: https://bit.ly/33eirb8
[12] خلافات مع النائب الأول تطرق باب حكومة رئيسي قبل تشكيلها، العربية نت، 09 أغسطس 2021. الرابط: https://ara.tv/pmufv
[13] تنص المادة السابعة والثمانون من الدستور الإيراني على أنه: “يجب على رئيس الجمهورية بعد تشكيل مجلس الوزراء – وقبل أي خطوة – أن يحصل لهم على ثقة مجلس الشورى الإسلامي، ويستطيع خلال فترة توليه المسؤولية أن يطلب من مجلس الشورى الإسلامي منح مجلس الوزراء الثقة فـي الأمور المهمة، والقضايا المختَلف عليها”.