في كثير من أحاديثه ومقالاته اعتقد المفكر المصري الذائع جلال أمين أن الولايات المتحدة الأمريكية ساعدت وأيدت حركة آية الله الخميني التي شنها لإثارة الشعب الإيراني على حكم الشاه محمد رضا بهلوي والتي أدت إلى نشوب الثورة الإيرانية لعام 1979 وإسقاط الشاه، ويمكن للمتبع لفكر جلال أمين تحري هذا الاتجاه التحليلي بكل وضوح من خلال مقالته “الإخوان والأمريكان” المنشورة في جريدة الشروق يوم 14 ديسمبر 2012 حين تحدث عن مقابلته مع جون كيري الذي كان في ذلك الوقت رئيسا للجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكى.
وتحاول السطور التالية الاقتراب قدر الإمكان من فكر جلال أمين وتتبع طريقة تقييمه لعلاقات الأفراد والمجتمعات وتداخل القيم الدينية والموروثات الثقافية فيها.
مدخل
تعد إشكالية التقدم والتأخر من أبرز القضايا المطروحة بصفة مستمرة فيما يخص الدول النامية في العالم الثالث، والتي تتصل في جزء مهم منها بإشكالية أخرى وهي أزمة الثقافة في عصر التكنولوجيا الرقمية وعولمة الاتصالات، وجدلية أخرى تكمن في جذور المجتمع وتمتد عبر العصور وهي “الأصالة والمعاصرة”.
يُعتبر المفكر المصري الراحل جلال أمين من أبرز من تناولوا تلك الإشكاليات في مؤلفاته والتي تسعي تلك المقالة إلى القاء الضوء عليها من خلال محاور رئيسة بهدف عرض التوجه الحاكم لفكره والذي يلخص ببلاغة فكرية واضحة الوضع الفكري والثقافي المعاصر.
ملامح فكر جلال أمين
المفكر جلال أمين أستاذ اقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو نجل المفكر الكبير المنتمي لعصر الرواد أحمد أمين، وهو ينتمي للتيار الفكري المستقل الذي لا يساير الأجواء والتيارات العامة علي المستوى السياسي والاقتصادي والفكري، ومن أبرز أعماله ماذا حدث للمصريين؟، خرافة التقدم والتأخر، العولمة، عصر الجماهير الغفيرة، ماذا حدث للثقافة، التنوير الزائف، علاوة علي ذكرياته التي تتسم بشمولية موضوعاتها والتي نشرها علي عدة أجزاء منها رحيق العمر، وماذا علمتني الحياة.
وفي السطور التالية نستعرض الملامح الفكرية الرئيسة في فكر جلال أمين.
أولا: خرافة التقدم
حيث يتم الترويج لهذا المفهوم علي نحو مطلق، فالواقع أنه كما يتقدم العالم في أشياء فهو يتراجع في جوانب أخرى، فالاقتصاد قد ينمو بالمقارنة بالسابق علي حساب الثقافة والمستوى الفكري السائد، وقد تتحرر المرأة لكن تتغير الظروف الاجتماعية وأنماط العلاقات السائدة على نحو ينعكس بالسلب على المجال الأسري والعائلي، والدولة قد تقطع أشواطا لا يستهان بها على مستوى نقل التكنولوجيا وتطوير أنماط الحياة المادية ولكنها لا تعدو أن تكون ربحت العالم وخسرت نفسها على مستوى الجوانب الفكرية والروحية والإنسانية، ومن ثم لا يوجد ما يعرف بالخط المطرد المستقيم للتقدم يتم تصنيف الدول وفقاً له.
ثانيا: مفهوم الجماهير الغفيرة
وقد أدى إلى تحكم تيار مجاراة الذوق السائد وتملق أنصاف المتعلمين ومتواضعي الثقافة، مما أنتج مستويات في الفكر والفن والصحافة ربما تعود في جذور انحدارها إلى عقود من الزمن ولكنها استفحلت وانتشرت عبر الوقت، وذلك من منطلق الاهتمام بالكم وجذب أكبر عدد ممكن إلى المنتجات الفنية والثقافية، ما يستدعي بالضرورة في أغلب الأحوال أن تتملق “ما هو عادي في الطبيعة البشرية” ولا تسعي أن تخاطب إلا “المستويات الأدنى في الفكر والغرائز البشرية التي يستجيب لها الكل بصرف النظر عن انتمائهم الاجتماعي والطبقي”.
ثالثا: الحراك الاجتماعي سلاح ذو حدين
حقق التوسع في التعليم وتوسيع نطاق مشاركة مختلف الطبقات الاجتماعية في جني ثمار التقدم وفرص الترقي، انجازات اجتماعية لا يستهان بها، بحيث تحركت الطبقات على السلم الاجتماعي ما أدى إلى تقليص ظاهرة الانقسام الحديدي بين فئات المجتمع (علي نحو نسبي بالطبع بالنظر إلى حقيقة تفاوت مستويات الدخل والمعيشة في كل زمن يعيشه الإنسان) ولكن من ناحية أخرى يمكن القول إن ظاهرة الحراك الاجتماعي تضافرت مع ظاهرة تملق الجماهير الغفيرة لتنتج تدهوراً نوعياً في “الإنتاج الثقافي والممارسات الاجتماعية السائدة والخطاب الديني السائد وغيره من المظاهر الحياتية” ما أدى إلى انتشار دعوات للعودة إلى طبقية الثقافة إنقاذاً للوضع الراهن.
رابعا: تنميط القيم عبر الدول
فمما لا شك فيه أن العولمة بما حققته من ترويج للتكنولوجيا قامت بما يشبه عملية تنميط العقول وخلق توجهات متشابهة في الفكر والعقائد، ولكن مكمن الخطورة لا يقتصر على ذلك، لكنه يمتد إلى السيطرة علي الدول من خلال وضع قواعد عامة للسلوك الدولي وأنماط موحدة لمراحل النمو الاقتصادي وإصدار تقارير التنمية الإنسانية والبشرية التي تقيم سلوك الدول وفقاً لمعايير موحدة بصرف النظر عن التفاوت في الظروف الاقتصادية والمعيشية بين دول العالم المتقدم والعالم النامي وداخل العالم النامي ذاته.
خامسا: إحداث شرخ في جدار نفسية الإنسان العربي
يتم ذلك من خلال تضافر الأزمات السياسية العربية التي جعلته مع مرور الوقت “يقبل ويعتاد علي كل شيء” وذلك بالإضافة إلى الدور الذي يشهد له الجميع بالنجاح والذي تقوم به التكنولوجيا ووسائل الاتصالات والتي جعلت الجميع يتوحدون نفسيا وعقليا مع “الشاشات والهواتف بمستويات نسبية” بحيث تصبح المعرفة بمثابة جرعات موحدة تقدم للجميع بشكل لا يسمح بتكوين “تيارات فكرية مقاومة وصاحبة توجه فكري جاد”.
عليه تكون النتيجة تراجع في مستوى التوجهات القومية العربية وإنحدارها إلى مستوى الذكريات السياسية التاريخية، وإن حدث نوع من أنواع الحماس فهو علي سبيل الانفعال اللحظي وليس الدائم (سواء بالفكر أو بالعمل)، بحيث يغدو الحماس للقضايا مُشابه لمستوى الموضة السائدة علي وسائل التواصل الاجتماعي.
سادسا: الترويج لفكرة الكم المعرفي وتفوقه على مفهوم الإيجاز
يتم ذلك في عصر “السيول المعلوماتية” الذي نعيشه، بينما يمكن القول إنه كلما زادت المعلومات قلت المعرفة على نحو نسبي، حيث تتجاوز قدرة العقل المنطقية على التحليل والاستيعاب، بحيث يبدأ العقل في إجراء عمليات الاستبعاد بشكل تلقائي لتتاح له القدرة على التركيز الإيجابي.
لكن ما يحدث هو الانتشار الزائد للمعلومات وهي كالعادة سلاح ذو حدين، تتيح المصادر المعرفية في جانبها الإيجابي للباحثين ولكنها في الوقت ذاته تخلط الغث بالسمين، وتقوم بعملية تشويش منظمة على العقل الجمعي العربي إذا جاز التعبير فهو دائم التعرض لها بحيث أصبحت مشابهة “للوجبات السريعة يتحدث عن أضرارها الجميع ويأكلها أغلبهم”.
سابعا: الأصالة والمعاصرة
تُعد تلك القضية من الإشكاليات التي طالما شغلت المفكرين فهي تحمل في جذورها رواسب من عصور الاحتلال والتقليد للغرب من منطلق أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، والتنكر للتراث واعتباره من الرواسب القديمة من منطلق فكري خاطئ قائم على أن الأحدث هو الأفضل دوماً، وذلك ما لا يقبله العقل السليم في كل الأحوال، وربما كانت التيارات التي تعتمد على تخيل حال الحضارات القديمة وإنها ربما كانت على قدر من التقدم قد يفوق ما نحن فيه الآن (كالحضارة الفرعونية) على سبيل المثال، أقرب إلى العقل من التيار الآخر القائم على ما يسمى بعبادة المستقبل، والذي يُعد الوجه الآخر لظاهرة لا تقل عنه سلبية وهي تقديس الماضي.
كما أن هناك خلطا دائما بين التقدم القائم علي الماديات، والحضارة التي تعتمد على التقاليد والموروثات الاجتماعية “الإيجابية” إلى جانب الإنتاج القيم من الأدب والفنون والفكر الذي لا يخضع لعوامل الزمن ولا يُشترط فيه “أولوية الأحدث على الأقدم في التقييم”.
بهذا المعنى فالدول الكبرى مُتقدمة ولكن تكون “الحضارة بمعناها الشامل” محل علامات الاستفهام، وقد يتفوق العالم النامي في جوانب منها رغم اعتراض البعض على ذلك.
ولذلك كان الحل دوما هو الموائمة بين الأصالة والمعاصرة، ولكن تكمن المشكلة في صعوبة التطبيق حاليا بسبب سمات الحياة التكنولوجية المعاصرة والأذواق الاجتماعية السائدة علاوة على الانخفاض الملحوظ في الأنماط الثقافية “الحقيقية” والتي لا تساعد على حسم إشكالية الصراع بين التراث وبين الوافد من الخارج على نحو إيجابي.
ثامنا: التداعيات السلبية لعصر الاقتصاد
وهو شريان الحياة عبر الأزمان ولكن دوما لكل شيء وجهه القبيح كما يقال، وفي هذه الحالة تضاؤل الحجم النسبي للقيم والمبادئ على مستوى الدول والأفراد، بحيث يكاد يختفي “كل ما لا يمكن شراؤه بالمال”.
خاتمة
عليه نجد أن أغلب الظواهر المشار إليها والتي غلبت على إنتاج المفكر جلال أمين كانت من القضايا التي أثارت تخوف الكثيرين من الكتاب والمفكرين عبر العصور وأبرزهم جوستاف لوبون وجورج أورويل وألدوس هكسلي.
لذلك يعد جلال أمين امتداداً قوياً لمفكري العصور الماضية الذين يحملون السمات الفكرية ذاتها، ويُحسب له وهو أستاذ الاقتصاد الحاصل علي الدكتوراه من بريطانيا، أنه أولى اهتماما بالجوانب الاجتماعية والثقافية على الساحة العربية والدولية وذلك في دلالة واضحة على سعة عقله التي لا تنحصر في اتجاه واحد لا يتزحزح عنه.
ولعل هذه السعة العقلية هي سمة المثقف الحقيقي الذي رفض الخضوع لـ”سجن التخصص”، فهو كما تدل عليه كتاباته، قد اتبع النهج السليم في المعرفة، وهو احترام التخصص والتوسع فيه كمجال للإنجاز الشخصي الذي لا يستطيع أحد الانتقاص من أهميته، وفي الوقت ذاته الاهتمام بقضايا الأمة والربط بين كل الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.