تساهم المنطلقات الفكرية للدول والحاكمة لمبادئ السياسة الخارجية الخاصة بكل منها في ترسيخ التباعد والتقارب فيما بينها، وذلك إلى جانب تأثير العوامل الدولية ومراكز القوى الدولية والإقليمية والدوافع الاقتصادية الحاكمة لكل دولة في محيطها التي تتخذ قراراتها في ضوء توازنات القوى والمصالح المختلفة القائمة على الساحة الدولية.
العوامل الحاكمة للعلاقات بين الصين وبين إيران
عند الحديث عن الصعود الصيني والنفوذ الإيراني، يمكن القول إنهما يشتركان في عدد من السمات لا يمكن إغفالها، والتي ساهمت بقدر كبير في إحداث التقارب السياسي فيما بينهما، وهي كالتالي:
1 ـ يمثل كل من المشروع السياسي الإيراني (إذا جاز التعبير ) والصعود الصيني المستند إلى قوة اقتصادية لا يستهان بها، تحدياً سافراً للوضع القائم المستند إلى الدور السياسي البارز الذي تمارسه الولايات المتحدة في المحيط الدولي وفي الشرق الأوسط.
2 ـ يُعد الدور الصيني على الساحة الدولية واحدا من الأسس التي يستند إليها المحللون في توقعاتهم لشكل النظام الدولي في المستقبل الذي يتجه نحو هيمنة الاقتصاد بالأساس على كل العوامل الحاكمة لحركة العلاقات الدولية، كذلك تمثل إيران نموذجاً “للدولة الإقليمية ذات التأثير العابر للحدود” فهي لا تقتصر في نمط علاقتها بالدول الكبرى والإقليمية المجاورة على الأنماط التقليدية للعلاقات التعاونية أو النزاعات المحدودة، ولكنها تطرح نفسها بقوة على الساحة الدولية وما لاشك فيه أن الملف النووي الإيراني لا يشكل في حد ذاته “مصدر خطورة على الولايات المتحدة والقوى الكبرى” بقدر ما يكمن مصدر القلق الرئيس من التداعيات المستقبلية لامتلاك إيران للسلاح النووي على وضعها الاستراتيجي إقليمياً ودولياً.
3 ـ تًشكل العلاقة بين إيران وبين الصين، نموذجاً للتحالف المستند إلى منطلقات فكرية متقاربة من حيث نظرة كل منهما لما ينبغي أن يكون عليه شكل النظام الدولي في المستقبل، ما يعطي ثقلاً لا يستهان به عند النظر إلى دلالات وانعكاسات العلاقات الثنائية فيما بينهما، فهي نمط من العلاقات “بعيدة المدى والتأثير” وليست بمثابة توثيق عارض للعلاقات نتيجة ظروف دولية طارئة قد تخالفها معطيات الواقع في المستقبل القريب، الأمر الذي يفاقم من المخاوف الأمريكية والدولية بوجه عام من دلالات التقارب الصيني ـ الإيراني، خاصة في ضوء الرفض الصيني الرسمي لاستراتيجية الضغط الأمريكية لتعديل سلوك النظام الإيراني ورفض بكين للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وعودة العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران.
4 ـ يستند الموقف المشترك بين إيران والصين تجاه الولايات المتحدة إلى واقع ملموس تعايشه الدولتان، وبالتالي يعتبر عاملاً رئيسا في تقريب وجهات النظر والمنطلقات الحاكمة لسلوكهما المشترك، فإيران تواجه عقوبات أمريكية وغربية تهدف إلى تغيير موقفها من الملف النووي وتعطيل محاولاتها الرامية إلى تطوير صواريخ باليستية وصناعات عسكرية متقدمة بينما تواجه الصين حرباً تجارية مع الولايات المتحدة على اعتبار أنها الدولة المنافسة للغرب خاصة على المستوى الاقتصادي.
دلالات الاتفاق الصيني ـ الإيراني
اتصالاً بما سبق، رأى العديد من المتابعين لمسار العلاقات الثنائية بين البلدين أن الاتفاق الذي جرت صياغته بين الحكومتين الصينية والإيرانية والمتضمن شراكة اقتصادية وأمنية شاملة يمكن أن يمهد الطريق أمام استثمارات صينية بأكثر من 400 مليار دولار في البني التحتية الإيرانية وقطاع الطاقة والصناعات العسكرية وغيرها.
في المقابل تحصل الصين على الإمدادات النفطية الإيرانية بأسعار مناسبة لمدة زمنية قد تمتد إلى 25 عاماً، وبالتالى تم الحديث عن الاتفاق المشار إليه على أنه سيكون بمثابة طريق حرير معاكس بين إيران وبين الصين.
والمؤكد أن شراكة الصين مع إيران تندرج في إطار أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للصين استناداً إلى الطلب الهائل لديها على نفط هذه المنطقة لدعم صناعاتها التحويلية، ومن ثم لا يمكن إغفال البعد الاقتصادي الاستراتيجي في مسار العلاقات الثنائية بين الدولتين، خاصة في إطار الاتفاقات التي وقعها الرئيسان الصيني والإيراني خلال زيارة الرئيس الصيني للشرق الأوسط عام 2016 والتي أشارت التوقعات إلى إمكانية أن تساهم تلك الاتفاقيات حال تنفيذها على نحو متكامل في توسيع نطاق العلاقات الاقتصادية بين البلدين بمعدل قد يصل إلى 600 مليار دولار بالإضافة إلى تعزيز التعاون العسكري المتبادل فيما بينهما.
وقد أشار المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده إلى أن الوثيقة الشاملة للتعاون بين طهران وبين بكين تتضمن خارطة طريق متكاملة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية حيث تركز على الأبعاد الاقتصادية التي تعد المحور الأساسي لها.
ولعل مشاركة إيران في مبادرة الحزام والطريق، تربط الاتفاقية بالخطة الصينية العملاقة لمشروعات البنية التحتية التي تهدف لدعم العلاقات الصينية التجارية مع الدول الأسيوية، والأوروبية والإفريقية على حد سواء، كما تدعم الاتفاقية التبادلات السياحية والثقافية وتأتي في الذكري الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وبين إيران.
تجدر الإشارة إلى أن حجم التجارة بين إيران وبين الصين بلغ حوالي 20 مليار دولار سنوياً في السنوات الأخيرة.
بالتالي تمت الإشارة إلى هذا الاتفاق من جانب المحللين على أنه سيغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط ويكون بمثابة “مخلب استراتيجي” جديد نحو الولايات المتحدة وتجاه مصالحها في المنطقة.
بالإضافة إلى التأكيد على أن الاتفاقية ترقي في بعض جوانبها إلى مستوى المعاهدة من حيث أبعادها السياسية من منطلق تأمين المصالح الصينية وفتح المنافذ لها على سواحل الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي.
الخلاف الاستراتيجي الصيني ـ الأمريكي
في المجمل لا يمكن إغفال دلالات الاتفاقية الصينية ـ الإيرانية في سياق الخلاف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ الاقتصادي في فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (2017 ـ 2021) وكذلك الموقف الأمريكي المشابه من الصين في ظل الرئيس الحالي جو بايدن، وبذلك تعتبر العلاقات الصينية مع إيران “ورقة إستراتيجية رابحة بعيدة المدى” في يد الصين في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
كما تجدر الإشارة إلى موقف دول الخليج “صاحبة التحفظ الدائم تجاه الدور الإيراني في المنطقة” إزاء ما قيل بشأن السماح بوجود قوات أمن صينية على الأراضي الإيرانية من دون توضيح مهمة القوات الصينية أو أسباب السماح بوجودها ونوع الأسلحة التي من المقرر أن تحملها.
أيا كان ما ستسفر عنه التطورات المقبلة والحقائق في مسار العلاقات المتشابكة بين الصين وبين الولايات المتحدة وبين إيران في المستقبل، يدعم الواقع أسس تدشين عصر لا تملك فيه الولايات المتحدة مفاتيح السيطرة الرئيسة على الشرق الأوسط على النحو الذي ساد في الماضي.
فمع دخول لاعبين رئيسيين ومحوريين كالصين على سبيل المثال، تكتسب التعددية القطبية أبعادا واقعية ملموسة ربما ستتفاقم في المستقبل بدرجة قد تسمح بالتأثير السياسي للصين في مقدرات الشرق الأوسط في مواجهة الولايات المتحدة وهو الأمر الذي لا يظهر بوضوح حالياً في ظل الأطروحة التقليدية والواقعية “في آن واحد” التي تدعم فكرة أن الولايات المتحدة هي الفاعل السياسي المهيمن في المنطقة.
مع ذلك لا يمكن الجزم بالتطورات المقبلة المتلاحقة خاصة أن توجهات النظام الدولي بصفة عامة تدفع في اتجاه أن يقود الاقتصاد قاطرة التطور ومسار العلاقات وأنه سيصبح “بشكل متزايد” بمثابة المحدد الأقوى والذي تتم على أساسه صياغة شكل العلاقات السياسية بين الدول سواء المتكافئة في القوى أو تلك المتباينة فيما بينها على الصعيدين السياسي والعسكري.