اعتادت إيران على استخدام سلاح «الصبر الاستراتيجي» في علاقاتها الخارجية عموما، وفي جولاتها التفاوضية مع القوى الكبرى على وجه الخصوص، وكذلك في العديد من الأزمات التي واجهتها على مدار تاريخها الطويل، وهي كذلك تعيش في الظرف الراهن حالة من الصبر ذاته أمام أمريكا تلك الراغبة في التفاوض حول برنامجها النووي ومنظومتها الباليستية الصاروخية ونشاطها في الإقليم، وفي خضم تلك الأجزاء تعمل طهران بصبر على نسج مفاوضتها المرتقبة مع واشنطن تماما كما يعمل ناسج السجاد الصبور في تبريز وكاشان وأصفهان.
خبرة إيران التاريخية
تدل وقائع التاريخ على أن إيران تلجأ في الغالب إلى خيار «الصبر الاستراتيجي» إذا تعاظمت الأزمات لديها في الداخل والخارج، اعتمادًا كذلك على ما لدى المواطن الإيراني من صبر وتحمل شديدين في مواجهة الأزمات المتلاحقة جراء العقوبات التي فرضتها واشنطن مؤخرًا.
وقد سبقت تلك العقوبات الأمريكية عقوبات فرضها المجتمع الدولي على إيران منذ حادث اقتحام السفارة الأمريكية في طهران في أعقاب الثورة الإيرانية، حتى وصلت إيران أخيرًا إلى اتفاق 2015 واعتبرته انتصارًا غير مسبوق جاء مترتبًا على حالة الصبر تلك.
لقد كان من أبرز وقائع ذلك الصبر هو استمرار إيران في حرب امتدت لثماني سنوات بينها وبين العراق، وهي حرب لم يكن فيها خاسرًا أو فائزا، لكن الحالة الإيرانية باتت أمرًا محيرًا للكثير من المتابعين لاستمرار حالة بقاء ثيوقراطية الدولة بهذا الآداء اللافت للأنظار، وهو ما يدفع إلى التعمق في تحليل طبيعة الشخصية الإيرانية على مدار تلك السنوات.
الشخصية الإيرانية
إن البحث في إشكالية مصطلع “الشخصية الإيرانية” يدفع للغوص في أعماق تلك الشخصية المحيرة، وهو المصطلح الذي يمكن أن يكون أطروحة دكتوراه في منتهى الصعوبة، ما يجعل الباحث أمامه في منتهى الحيرة من ذلك الشعب الصبور الذي نال من الوجع الكفاية وما فوق الكفاية.
لكن ما يزيل اللبس والغموض عن ذلك الوضع المثير للريبة في نظر الباحثين المتابعين للأوضاع داخل إيران، أو أوضاع إيران في الإقليم، هو ما تعبر عنه واقعتان مهمتان قد تكونان مفتاحًا لسبر أغوار هذه الأمور العصية على الفهم.
يروي الواقعة الأولى رياض نجيب الريس في كتابه مصاحف وسيوف، وفيها أن سياسيًا عربيًا قال لسياسي عراقي عام 1980 عند بدء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وكان العراق يعيش حالة من نشوة النصر في بداية الحرب:
“لا تفرحوا كثيرًا للتقدم الذي تحرزونه على جبهة القتال فالحرب مع إيران ستكون حربًا طويلة المدى، ولا يمكن تحقيق انتصار سريع فيها. والسبب لا علاقة له بالتوازن العسكري، بل لأن الشعب الإيراني صبور وطويل البال، وأكبر مثال على ذلك صناعة السجاد”.
وأضاف السياسي العربي قوله: “تصور يا صديقي أن السجادة الواحدة التي يعمل فيها العشرات تأخذ حوالي 10 سنوات لينتهي العمل فيها، فالشعب الذي يصرف سنوات لينتج سجادة واحدة سيصبر سنوات أطول لينتصر في الحرب، لا تستخفوا بصبر الإيرانيين وطول بالهم فتاريخ بلاد العجم مليء بالأحداث التي أنتجت انتصارات بقدر ما انتجت إيران سجادًا”.
الصبر الاستراتيجي والسجاد الإيراني
لقد كان السياسي العربي يرمي إلى الربط بين حالة «الصبر الاستراتيجي» في الحرب الإيرانية أمام العراق وبين الصبر أمام نسج بساط عجمي لا يمل صانعوه أمام عوامل الزمن والمجهود الكبير المبذول من أجل إنتاج سجادة واحدة في عقد من الزمان، وكأنه يقول إن العلاقة بين السياسية الإيرانية والسجادة العجمية علاقة عضوية طردية، فالأولى تحذو حذو الثانية، قطبة وراء قطبة وخيطًا وراء خيط، ولونًا وراء لون، وإبرة وراء إبرة وسط جبال من كرات الصوف والحرير، كذلك هي السياسة في إيران.
أما عن مدى نجاح تلك الاستراتيجية في تعاملات إيران مع الآخرين، فإن رواية أخرى قد تحل ذلك التشابك وهي الرواية التي أوردها محمد صادق الحسيني في كتابه “إيران: سباق الإصلاح من الرئاسة للبرلمان” وفيها أن أحد رجال السياسة في إيران سُئل ذات مرة عن كيفية تحقيق الانتصارات في حروبه ضد خصمه قال:
“إنني كنت أخوض الحرب ضده بطريقة أكون فيها أنا ونفسه عليه، فتكون عملية الاصطفاف الميدانية بمثابة اثنين ضد واحد، بالإضافة إلى أن الخصم يكون منشغلا بذاته قبل أن يعد العدة لرد الضربة لخصمه”.
تحليل الروايتين
إن هاتين الروايتين فيهما شرح كبير ومبسط للحالة الإيرانية في تعاملها مع الأزمات، فصبر المواطن قبل السياسي على صناعة السجادة ومواجهة الخصوم تربط بينهما علاقة طردية لا فكاك منها، وقد تكون تلك الطريقة هي الطريقة الوحيدة أمام ساسة إيران للخروج من عنق الزجاجة كلما ضاقت عليهم.
وبالرغم من أن تلك الاستراتيجية سار عليها خاتمي عقب توليه السلطة في إيران عام 1998، في محاولاته للخروج من أزمة العقوبات وانعزال إيران عن العالم، فإن خاتمي في تلك الفترة تبنى خطابًا إصلاحيًا بعيدًا عن التوجه المتشدد السائد، كان يهدف من خلاله لفتح قنوات اتصال مع المثقفين والمفكرين في أمريكا، وبالتالي فقد أصبح خاتمي هو ومثقفي ومفكري أمريكا ضد ساسة أمريكا، فرجحت كفة إيران في ذلك الوقت.
أما في الوقت الحالي فإن الجميع يترقب ما ستؤول إليه الأيام المقبلة، في ظل اعتماد إيران على الصبر الاستراتيجي نفسه، اللائق استخدامه في كل من صناعة السجاد وصناعة السياسة، في ظل الإعلان الدائم من واشنطن وطهران عن استعداد الطرفين للتفاوض، مع العلم أن إيران هي من تطلب البدء برفع العقوبات أولًا قبل الحديث عن تفاوض جديد، والواقع بين الطرفين يترقب عن كثب تطبيق إيران نظرية الصبر السياسي الاستراتيجي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
خاتمة
هنا يكمن طرف الخيط، فنظرية الصبر على صناعة السجاد الإيراني كانت هي الأوقع في عالم السياسة الإيرانية، رغم ما تسبب فيه هذا الصبر من أوجاع اقتصادية وسياسية لناسج السجاد، الذي عانى من تدهور أوضاعه بكل أشكالها، إلا أن فترة الـ10 سنوات اللازمة لصناعة السجادة لم تنقضي بعد، واليوم في بداية العام الفارسي الجديد (1400ش) لم يمر إلا سوى أقل من 3 سنوات فقط منذ بدء تطبيق عقوبات ترامب عام 2018.