السيرة الذاتية سلاح ذو حدين، فهي مرآة تنقل الواقع ليس كما حدث فعلا ولكن من منظور الكاتب. وتتفاوت طبيعة السرد والانطباعات وفقاً لموقع الكاتب من الأحداث، فالصحفي والملك والمؤرخ قد يتداولون الحادث الواحد من زوايا يحار فيها القارئ رغم وحدة الموقف.
غير أن السيرة الذاتية تتفوق على السرد التاريخي التقليدي المنقول عن مصادر سابقة والذي يفتقر للروح والحيوية، ولكن لا تؤخذ رواية المعاصر للحدث على علاتها دون تحقق أو النظر لباقي الصورة كما سردها باقي الأطراف الشاهدون على العصر محل الدراسة.
“
ولقد قرأت مذكرات إمبراطورة إيران السابقة “الشهبانو” فرح بهلوي عدة مرات كعادتي في القراءة، ومن ناحية أخرى أستخدم تلك الوسيلة كمؤشر شخصي على التغير في مستوى المدارك العقلية والتذوق في مجالات السياسة والفكر والثقافة بوجه عام، فما تراه اليوم قد تكتشف فيه أشياء لم ترها منذ عامين على سبيل المثال وينطبق الأمر على الثقافة أيضًا.
“
وأهم ما لفت نظري في مذكرات فرح بهلوي هو توافر المزيج الذي يفضله القراء بين الخاص والعام، فالسياسة الصرفة ثقيلة عند قراءة الذكريات لافتقارها للبعد الإنساني وإن كانت وثيقة مهمة ومباشرة عن الأحداث التي تتناولها، ولكن سردت الإمبراطورة السابقة الأحداث كامرأة وإمبراطورة في الوقت ذات.
ففرح بهلوي هنا ليست شاهدة على الأحداث من منطلق متعالي يسعي لإبراز نفسه في صورة نمطية (على الرغم من أن من طبيعة الأشياء عدم رواية كل التفاصيل كما هو معروف للجميع، فاستبعاد بعض الأحداث وارد وتجميل البعض وارد ولكننا نتحدث بوجه عام).
أقول إن رواية التاريخ على هذا النحو الإنساني وليس السياسي فقط يحيل الواقع الذي طواه النسيان إلى نبض حي يتحرك في ذهن القارئ، فنراها وأسرتها في مراحل الطفولة والشباب.. السفر لباريس للدراسة.. لقاء الشاه الأول في السفارة الإيرانية.. الزفاف والاستعدادات المصاحبة له.
“
من الجدير بالذكر البداية الدرامية للأحداث التي تناولت قبيل الثورة 1979 والمغادرة خارج إيران وهي صورة إنسانية بحتة جديرة بالتأمل من منظور أسري خاص، في ضوء مرض الشاه الراحل والآلام النفسية المصاحبة للموقف ووقع الحدث على الأبناء، إلى آخره.
“
ولا نغفل كذلك عن الدور الاجتماعي العام لها، فهي لم تكن تمثل الصورة التقليدية للملكة ولكنها اهتمت بالعمل العام والطفل والمرأة والفقراء في حدود الواقع آنذاك والظروف المتاحة بالإضافة إلى مهرجان شيراز وغيرها من الفعاليات، وتناولها محطات وأحداث بارزة في خلال حقبة الستينيات والسبعينيات كحفل تتويجها، واحتفال بلادها بذكرى مرور 25 قرنا على تأسيس الإمبراطورية الفارسية التي دعى إليها زوجهُا الشاه رؤساءَ وملوكَ العالم آنذاك.
ولقد ورد ذكر تلك الأحداث في العديد من الكتابات أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: “مدافع آية الله” لمحمد حسنين هيكل و”أعجب الرحلات في التاريخ” لأنيس منصور، وبالطبع تختلف رؤية الملكة عن الرؤية الصحفية والناقدة لمظاهر البذخ ودلالة الحدث في سياق الأحداث السياسية التي عاصرتها إيران في ذلك الوقت.
وبوجه عام، توجد عدة ملاحظات رئيسة من المنظور السياسي والتاريخي العام مستمدة من قراءة مذكرات الإمبراطورة السابقة فرح بهلوي كنموذج على السير الذاتية التاريخية:
أ ــ ينبغي عند تقييم الحقب التاريخية التفرقة في التحليل بين مستويين على نحو موضوعي: المستوى الأول هو السلوك السياسي العام في إطار الحركة الخاصة بالعلاقات الدولية السائدة خلال الزمن محل الدراسة، والخاضع بطبيعة الحال لمعايير الصواب والخطأ التي يتفاوت الحكم عليها من شخص لآخر طبقا للمنطلقات السياسية والأيديولوجية الحاكمة لفكره، والمستوى الثاني هو تقييم ورصد الجهود الاجتماعية والثقافية المبذولة في ذلك العهد.
على سبيل المثال أتذكر دراسة المؤرخ الكبير الراحل يونان لبيب رزق عن عهد الملك فؤاد الأول بمصر والتي تناول فيها (الجانب السياسي/ الجانب المؤسسي) كُل على حدة وكانت النتيجة موضوعية بدرجة كبيرة وغير خاضعة للانطباعات السائدة التي تستند في التحليل على المعيار السطحي والقوالب الجاهزة.
“
من ثم فإيران في عهد الشاه ــ إذا ما تم تناولها على هذا الاساس ــ ليست السافاك والبذخ والعلاقة مع إسرائيل فقط ولكن الصورة تختلف إذا ما تم التقييم بصورة تستند على معايير مغايرة لما هو سائد.
“
ب ــ أهمية تطوير الدراسات التاريخية وتقريبها لعقول الكثير من شبان الجيل الجديد وربما الأجيال القديمة أيضا تلك التي عرفت الأحداث على نحو مغلوط أو ناقص، فالمعرفة التاريخية والسياسية بوجه عام لدى القاعدة الشعبية عبارة عن معلومات دراسية.
زاد على ذلك مؤخرا في السنوات الأخيرة ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي باستمرار من تعليقات وصور وثائقية عن الحقب المختلفة والتي تخلق صورة غير واقعية عن مستوى وعي الشعوب بتاريخها مثلما تعطي المواقع والصفحات الثقافية (بالإضافة إلى الأعداد التي تحضر لمعارض الكتاب في مختلف الدول العربية) انطباعاً بأن القراءة هي الأساس والجميع عاشق للاطلاع وهي صورة مغلوطة، بينما الواقع يعبر عن المعرفة السطحية والانبهار بالصورة على حساب المضمون.
ج ــ ضرورة إعادة قراءة التاريخ السياسي للأمة العربية والإسلامية كلما مر الزمن، فدراسة الأحداث السياسية التاريخية تحتاج لُبعد زمني ونظرة من موقع تاريخي مرتفع، يتيح قدرا كبيرا من الحياد والاقتراب من النزاهة البعيدة عن التحيز والمصالح الشخصية الوقتية.
“
بالتالى تظهر أهمية إعادة تقييم حكم الأسرة البهلوية المازندرانية من خلال الدراسات الواقعية التي تتناول كل الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية وليس فقط جوانب محددة تتساوى في تداولها الدراسات العلمية الجادة والكتابات الصحفية المتحيزة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بقراءة تاريخ دولة في حجم إيران وما لها من تأثير ذو أبعاد مختلفة يتزايد باستمرار على المستوى الإقليمي والدولي.
“
فلكي تحكم على حاضر ومستقبل أمة وحجم تفاعلاتها مع غيرها من الدول، ينبغي أن تكون معرفة الماضي على أسس سليمة حتى لا يكون البناء المعرفي منقوصا وضعيفا؛ ما ينعكس على جدية التقييم السياسي الصحيح وفاعليته لما هو قائم والمتوقع حدوثه في السنوات المقبلة.