تشغل الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة تركيا مكانتين سياسيتين لا يستهان بهما، وما يرتبط بذلك من قدرات للتأثير في مقدرات الشرق الأوسط وعلاقات كلتا الدولتين بالدول العربية، خاصة في ضوء التطورات الإقليمية الأخيرة التي تشهدها المنطقة، وعليه لا يمكن إغفال دور الدولتين وأهمية تتبع أبرز المحطات في علاقتهما الثنائية تلك التي أدت تفاعلاتها إلى أثر ظاهر على الدول العربية.
فتاريخيًا يلعب التنافس دورًا في العلاقات بين البلدين بما يعلو على مفهوم الشراكة الوثيقة، ففي حين أنهما قد تتشاركان في بعض المصالح الاقتصادية والأمنية، فإن مصالحهما كثيرا ما تتعارض بالنظر إلى اختلاف الهوية السياسية والمنطلقات الأيديولوجية بين الأبلدين.
بالإضافة إلى أن ثورات “الربيع العربي” أعطت زخما أكبر لهذا السجال السياسي والأيديولوجي بين تركيا وبين إيران، فقد ساعد سقوط الأنظمة في تونس وليبيا ومصر، علاوة على الثورات التي قامت في سوريا واليمن والبحرين، على زعزعة أركان النظام السياسي في الشرق الأوسط وسعت كل من تركيا وإيران، على حد سواء، إلى استغلال الأنظمة الجديدة الناشئة في المنطقة لتحقيق مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط.[1]
“
فمن جانب تفرض سياسة تركيا الحازمة في الشرق الأوسط تحديات للطموحات الإقليمية الإيرانية، إذ ترى تركيا نفسها قوة صاعدة في الشرق الأوسط، وعلى الجانب الآخر ترى الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها في ضوء كونها القوة الموازنة الوحيدة للإمبريالية الأمريكية في المنطقة.
“
وعلى الرغم من عدم قيام إيران في الوقت الحالي بنشر الأيديولوجية الثورية السياسية في المنطقة على النحو الذي ظهرت به في عقد الثمانينيات عقب الثورة الإسلامية عام 1979، إلا أن التوجه العام لها يشكل مجالا للمنافسة مع الطموحات التركية في الشرق الأوسط بالظرف الراهن.
أولاً: أهم القضايا الخلافية بين الدولتين
تتمثل أبرز القضايا الخلافية بين تركيا وبين إيران في أربعة مرتكزات تشكل عبئا على العلاقات الثنائية بينهما خاصة أن تلك المرتكزات الأربع تشكل ميادين للتنافس الاستراتيجي وتفرز نقاط اختلاف تتحول في بعض الأحيان إلى بؤر للخلاف وهي:
ــ دعم تركيا للمعارضة السورية ضد الرئيس السوري بشار الأسد، بينما تعد سوريا بمثابة الحليف الرئيس لإيران في الشرق الأوسط، كما أن سقوط الرئيس السوري ــ في حال حدوثه ــ سيكون بمثابة ضربة استراتيجية جادة لإيران، ويمكن أن يؤدي إلى زيادة نفوذ تركيا، كما يمكن أن يكون له تأثير في حدوث مظاهرات في إيران، وتقوية المعارضة الداخلية للنظام الإيراني وتعميق الانقسامات الحالية داخل القيادة الايرانية.
ــ أدى انسحاب القوات الأمريكية من العراق إلى تحويل الساحة العراقية إلى ميدان فراغ في السلطة حاولت إيران السيطرة عليه، ويتم النظر لذلك في ضوء انعكاس الصراع الطائفي بين السنة وبين الشيعة في العراق على العلاقات الثنائية الإيرانية ـ التركية من هذا المنطلق وإن كان بطبيعة الحال بدرجة أقل توتراً مقارنة بالحالة السورية.
ــ تشتبه الحكومة التركية في أن سوريا وإيران تقومان بتقديم الدعم للجماعة الكردية الرئيسة المتمردة، المتمثلة في حزب العمال الكردستاني، وقد أدى انتشار الاضطرابات في سوريا إلى تآكل سيطرة نظام الرئيس السوري على المناطق الكردية على طول الحدود التركية ـ السورية وتعميق المخاوف التركية بأن هذا سيقوي الدعوات للحصول على مزيد من الحكم الذاتي بين السكان الأكراد في تركيا، وأن سوريا وإيران قد تستخدمان نقاط ضعف تركيا (إلى حد ما) حول القضية الكردية في محاولة إعادة تشكيل سياسة تركيا تجاه النظام السوري.[2]
ــ تأتي القضية الفلسطينية كصعيد آخر للتنافس بين البلدين. حيث تري إيران أن معارضتها لإسرائيل تُعزز من شعبيتها في العالم العربي، لكن دعم تركيا للقضية الفلسطينية يُعتبر منافسة تسعي لسحب البساط من تحت أقدام إيران في هذا الإطار.
ثانيا: القواسم المشتركة ومجالات التعاون
برغم ما أعلاه من نقاط خلافية بين أنقرة وبين طهران، إلا أن العاصمتين تربطهما كذلك العديد من القواسم المشتركة وبينهما كثير من مجالات التعاون ويتمثل ذلك في:
ــ يملك البلدان قواسم مشتركة واضحة، فكلاهما دولتان غير عربيتان تحيطان بالدول العربية من الشمال، ولكليهما مصلحة مشتركة في تحجيم الطموحات الكردية ضمن حدوديهما السياسية.
ــ الملف النووي الإيراني والاقتصاد، إذ تتوسط تركيا في أزمة الملف النووي الإيراني ــ في بعض الأحيان ــ بين طهران وبين الغرب، ولكن دون أن ترقي تلك الوساطة الدبلوماسية ويرقى ذلك التعاون الاقتصادي إلى مستوى التحالف بين البلدين، وهنا لا ينبغي إغفال معارضة تركيا لامتلاك إيران القدرات النووية إذ قد يؤدي ذلك إلى حسم التنافس التاريخي على الزعامة بين تركيا وبين إيران لمصلحة الأخيرة.
“
لذلك تتوسط تركيا في الملف النووي الإيراني باعتبارها “المرجعية الإقليمية الأولى” في المنطقة، ويمكن النظر لموضوع الوساطة التركية من منطلق النقاط الإيجابية في العلاقات مع إيران على نحو نسبي وفي ضوء الدوافع المختلفة لتركيا.
“
ــ إمكانات واعدة لتعاون اقتصادي كبير بين أنقره وبين طهران، عن طريق مد الغاز الإيراني إلى “خط نابوكو” عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، فضلا عن استثمار تركيا في قطاع النفط الإيرانى، وخاصة حقل بارس الجنوبي المشترك مع دولة قطر والذي يسمى في الدوحة حقل الشمال الغازي.
ــ تشابه المواقف السياسية المشتركة من بعض الدول العربية، على سبيل المثال: الموقف الموحَّد من المقاطعة العربية لقطر، بسبب دعمها للإرهاب وخطابها العدائي تجاه الدول العربية، والنمط العام للعلاقات مع الرياض وأبو ظبى.[3]
ــ التجارة البينية، إذ تسببت العقوبات الأحادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران في 2018 بتراجع حجم التجارة البينية بين تركيا وبين إيران من حوالي 10.7 مليار دولار في عام 2017 إلى 5.6 مليار دولار فقط في عام 2019، أي بنسبة 50 بالمئة.[4]
ــ كان الميزان التجاري يميل لمصلحة إيران على امتداد سنوات كثيرة واستمر على هذا النحو خلال عام 2019 بوجه عام، لكنه سجّل عجزاً خلال الربعَين الثالث والرابع من العام المشار إليه، وفي هذا السياق الزمني توقعت غرفة التجارة والصناعة والتعدين والزراعة في طهران أن يميل الميزان التجاري لمصلحة تركيا إذا استمرت النزعة نفسها التي سادت في الربعَين الأخيرين من العام 2019، وخلافاً للتراجع في الصادرات الإيرانية، ظلّ التأثير على الصادرات غير النفطية من تركيا إلى إيران عند حدوده الدنيا في عامَي 2018 و2019.
ــ توقع المتابعون للشأن الإيراني أن تتكبّد إيران خسائر إضافية بسبب التراجع النسبي في العلاقات الاقتصادية مع تركيا، لكنها تسعي جاهدةً ــ أكثر مما تفعل تركيا ــ لمنع تدهور هذه العلاقات حتى لو كان ذلك يصب إلى حد كبير في مصلحة الأخيرة.
ثالثاً: ملامح مستقبل العلاقات بين البلدين
في ضوء ما تقدم يمكن استقراء مستقبل العلاقات بين البلدين في ضوء العوامل التالية:
ــ استمرار انعكاس المواقف الثنائية من القضايا الإقليمية على مسار العلاقات، فعلى سبيل المثال لا الحصر: التأثير الذي يشكله الملف السوري على علاقات البلدين، في ضوء اعتراض إيران على العمليات العسكرية التركية في شمالي الأراضي السورية واتخاذها خطوات (إبان حدوث العمليات المشار إليها) منها قيام رئيس مجلس الشورى الإيراني بإلغاء زيارته إلى إسطنبول للمشاركة في اجتماع برلماني بدعوة من نظيره التركي.
“
اتساقاً مع ذلك سماح السلطات الإيرانية لوسائل الإعلام التابعة لها بشن حملة قوية ضد تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان على غرار صحيفة “فرهيختكان” التي وضعت على صفحتها الأولى عنوان “السلطنة في خدمة الإرهاب” وأسفله صورة للرئيس التركي.
“
ورأت الصحيفة أن العملية العسكرية في سوريا سوف تمنح تنفساً صناعياً للإرهاب.[5]
ــ يرى العديد من المحللين أنه ليس من المرجح قيام إيران بإحداث تغييرات نوعية في سياستها تجاه تركيا، وذلك على الرغم من الخلافات العالقة بين الطرفين، إذ إن الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في المرحلة الحالية لا توفر لها هامشاً واسعاً من حرية الحركة ما يجعلها حريصة على استمرار علاقاتها مع تركيا على المستويات المختلفة.
ــ العلاقات الاقتصادية مُرشحه للاستمرار بطبيعة الحال على الرغم من الصعود والهبوط في المعدلات فيما بين الطرفين، ففي أواخر عام 2019 على سبيل المثال: أعلن رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية في تركيا نائل أولباك رغبة أنقرة في رفع حجم التبادل التجاري مع إيران إلى 30 مليار دولار سنويا، إلا أنه في ضوء المؤشرات الواقعية بلغ حجم المبادلات التجارية بين الطرفين في الربع الأول من العام الجاري (2020) حوالى 645 مليون دولار، أي بانخفاض قدره 70% عن الربع الأول من عام2019.[6]
ــ لا تختلف العلاقات التركية ـ الإيرانية عن النمط العام للعديد من أنماط التفاعلات على الساحة الإقليمية والدولية بوجه عام من حيث وجود محاذير وتحفظات سياسية بين الطرفين مع وجود مسار اقتصادي يتأثر بالأجواء السياسية السائدة، لكنه يتأرجح بين الصعود وبين الهبوط بدون موقف حاسم، وكذلك في ضوء انعكاسات دور الولايات المتحدة وموقفها من إيران على علاقة الأخيرة بباقي الدول.
ــ يمكن من ناحية أخرى قول إن السياق الدولي اليوم لا يعطي هامشا قويا للسيطرة الإقليمية لدولة معينة على مقدرات باقي الدول على نحو جذري كما كان الحال في الماضي إلى حد كبير، فالولايات المتحدة لها دور لا يستهان به بالإضافة إلى العلاقات غير المعلنة بين كل من إيران وتركيا من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر.
“
لا يتوقع تفوق سياسي حاسم لإيران على تركيا ــ أو العكس ــ فيما يخص الملفات المشتركة الثنائية؛ لأن العوامل التي تتجاذب أي قضية إقليمية بها بعد دولي وأطراف أخرى مشاركة بنسب متفاوتة.
“
ولعل ما يدور على الساحة الإقليمية يعتبر بمثابة مواقف تختلف فيها قدرات الدول من حيث التأثير، لكنها لا تعطي انطباعاً حاسماً فيما يخص نتيجة التنافس على بؤر النفوذ في الشرق الأوسط خاصة أن العلاقات الدولية لا تعرف أبداً ما يسمى “بالكلمة النهائية” ولا تعترف كذلك بما يمكن تسميته “بالمعادلات الرياضية” في قراءة الموقف السياسي للخروج بـ”نتائج لا نقاش فيها” وتتشابه في ذلك مع مجال العلوم الإنسانية بوجه عام الذي لا يعرف معنى الحسم أو إسقاط ما يحدث اليوم على مستقبل الموقف بصورة لا يمكن الرجوع عنها.
ــــــــــــــــــــــ
[1] إف ستيفان لارابي، وعلي رضا نادر، العلاقات التركية ـ الإيرانية في شرق أوسط بات متغيرا، معهد أبحاث RAND للدفاع الوطني، 2013.
[2] السابق.
[3] تامر بدوي، الانعطافة الاقتصادية في العلاقات التركية ـ الإيرانية، مدونة “صدى”، كارنيجي، 20 مارس 2020.
[4] السابق.
[5] د. زاوي رابح، خمسة محاور تدور حولها العلاقات التركية ـ الإيرانية أهمها الاقتصاد والضغوط الدولية، مجلة آراء حول الخليج، مركز الخليج للأبحاث، بتاريخ 3 مارس 2020.
[6] علي عاطف، تبادل تجاري بالمليارات والتفاف على العقوبات.. طبيعة رؤوس الأموال الإيرانية داخل تركيا، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2 سبتمبر 2020.