نشر الباحث الإيراني إلياس واحدي مقالة في “معهد أبرار للدراسات والبحوث الدولية المعاصرة ـ طهران” بعنوان “التدخل التركي في الأزمة الليبية.. مغامرة أم حرص على العمق الاستراتيجي”، وقد رأى “المنتدى العربي لتحليل السياسي الإيرانية ـ أفايب”، الذي يتخذ من عروبته مرتكزا لعمله، ترجمتها؛ لتعريف القراء والمهتمين العرب بجانب من وجهة نظر مراكز الفكر الإيرانية ورؤيتها حيال الأزمة الليبية التي تشكل في مجملها معضلة أمنية كبرى لكثير من الدول العربية، ومع التأكيد على أن المقالة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المنتدى ولا المترجمة.
***
خلال الأيام الماضية حظيت الأزمة الليبية والتحركات الدبلوماسية والعسكرية للجمهورية التركية الهادفة إلى دعم حكومة الوفاق الوطنية الليبية، باهتمام المحافل السياسية. بعض الخبراء يعتقدون أن الخطوة التركية بمثابة مخاطرة ستوقع أنقرة في المستنقع الليبي.
لكن هنالك نقطة أساسية لابد من أخذها بعين الاعتبار. أنه علاوة على المشاكل الداخلية، فحكومة رجب طيب أردوغان لديها علاقات هشة للغاية مع الغرب، كما تواجه العديد من القضايا الإقليمية والدولية التي لم تحل بعد، ما يعني أنها ليست في وضع يسمح لها بالبحث عن مجازفة، ومن المؤكد أن أنقرة لن تجازف بهكذا مخاطرة إلا في حالة وجود أسباب استراتيجية قوية خلف قرارات أردوغان. وفي هذا السياق سنوضح الأهداف الاستراتيجية لتركيا بإيجاز.
خلفية تاريخية
في عام 1551م ومع هزيمة الأسبان سقطت الأراضي الليبية في يد الإمبراطورية العثمانية. وفي عام 1911 والذي تزامن مع سنوات الانهيار للدولة العثمانية، احتلت ليبيا من قِبل الإيطاليين. المحصلة 400 عاما من الحكم العثماني في تلك المنطقة، وكانت تعرف آنذاك في ـ العهد العثماني ـ بطرابلس الغرب[1] بالإضافة إلى بنغازي، وقد أدى بقاء جيل من الجنود والمسؤولين الحكوميين الذين هاجروا من الأناضول إلى هناك، على عكس الدول العربية الأخرى إلى تعاطف وتوجه إيجابي بین اللیبین نحو الأتراك.
وفي أثناء الاحتلال الإيطالي للأراضي الليبية كانت الحركة السنوسية ذات علاقات جيدة مع الأتراك. حتى قبل انسحاب القوات العثمانية من طرابلس، حيث حارب أنصار تلك الحركة إلى جانب الجنود العثمانيين ضد الإيطاليين. وانضم عمر المختار[2] البطل المعروف بمحاربته ضد الاستعمار إلى تلك الحركة لمحاربة المحتلين. ويقال إن والده كان يوما ما ضابطا في جيوش الإمبراطورية العثمانية.
“لعل أحد أمثلة التقارب بين البلدين كان بعد استقلال ليبيا، إذ كانت الجمهورية التركية من أوائل الدول التي أقامت علاقات جيدة مع ليبيا”
وعلى الرغم من الخلافات بين معمر القذافي وبين المسؤولين الأتراك في بعض المسائل بعد قيامه بالانقلاب على الملك إدريس عام 1969؛ إلا أن البلدين دعما بعضهما البعض عند الضرورة، فمثلا زود القذافي الطائرات الحربية التركية بالوقود مجانًا، إلى جانب قيامه بالحماية السياسية لأنقرة خلال الهجوم على جزيرة قبرص، برغم العقوبات الدولية ضدها، ولم يكن غريبا أن تبدي تركيا معارضة كبيرة ضد العقوبات الغربية على ليبيا في العقود الأخيرة، وكذلك ضد غزو الناتو ليبيا عام 2011م.
أما بعد سقوط القذافي، فقد دعمت تركيا دائما حكومة الوفاق الوطنية الليبية، لهذا السبب استثمرت الشركات التركية بشكل موسع في هذا البلد. وبموجب الخلفية التاريخية السابقة، فإن دعم الحكومة التركية الحالي لحكومة فائز السراج مقابل المشير خليفة حفتر في ليبيا، إلى جانب التحالف التركي في وجه السعودية والإمارات ومصر وحلفائهم الغربيين، أنتج تقاربا إيجابيا تاريخيا بين البلدين.
العمق الاستراتيجي لتركيا في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمالي إفريقيا
يزيد على الأسباب المذكورة خلف قرار الحكومة التركية بتقديم الحماية الكاملة لحكومة الوفاق الوطنية الليبية (بما في ذلك إرسال قوات عسكرية)، والذي اعتمده البرلمان التركي[3]، هدف استراتیجي خفي، وهو محاولة حماية المصالح الإقليمية التركية في البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، لذا في أعقاب الاتفاق والعمل المشترك بين مصر وإسرائيل واليونان بشأن أنشطة استكشاف النفط والغاز في شرق المتوسط، عدت تركيا تلك الخطوة بمثابة تهديد لمصالحها في تلك المنطقة، والمعروف لدى الأتراك باسم الوطن الأزرق Vatan Mavi.
وعليه قامت تركيا بإرسال ثلاث سفن استكشاف في مياه المتوسط. على صعيد آخر اعتبرت الجبهة المقابلة الإجراء التركي بأحادي الجانب. كذلك محاولات أنقرة في إضفاء الشرعية على تحركها في مياه شرق المتوسط، بالاعتماد على سابقة العلاقات المشتركة مع ليبيا، وإبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية معها، لتحديد المناطق البحرية المختلفة كالبحر الإقليمي، والمنطقة الإقتصادية الخالصة (EZZ)، والجرف القاري (الذي يحظى بأهمية من ناحية استكشاف النفط والغاز واستخراجهما). ما أسفر عن اتفاق البلدين على تعيين حدود الجرف القاري بموجب المادة 76 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 Commission on the limits of the continental shelf.
“أقدمت أنقرة على تلك الخطوة لتحقيق مآربها في إيجاد موطئ قدم أقوى إزاء الصراع على الطاقة في شرقي المتوسط. إلى جانب أنه سيمهد لها طريق الاستثمار المستقبلي في الجرف القاري الليبي”
وقد سببت الخطوة التركية الليبية الكثير من الامتعاض والقلق من الجبهة المقابلة. وبموجبها وقعت حكومتا اليونان وجنوب قبرص إلى جانب إسرائيل على اتفاقية مشتركة لإطلاق خط أنابيب شرق البحر المتوسط (EastMed Pipeline). بالإضافة إلى محاولة إقناع إيطاليا بالموافقة على التوقيع على هذا القرار لكن روما لم توافق حتى الآن.
وعلاوة على الأهداف الاقتصادية للاتفاقية البحرية الموقعة مع ليبيا، غير أنها من ناحية الجغرافيا الاستراتيجية ستنشئ لتركيا جدارًا افتراضيا في وجه الاتصال البحري بين اليونان وجزيرة قبرص؛ لأن الحدود البحرية المقسمة تقع بين جزيرة كريت (أقصى شرق اليونان) مع جزيرة قبرص. وفي المستقبل إذا استمرت الأنشطة البحرية التركية (الاقتصادية والبحرية) على هذا المنوال؛ ستعوق تنفيذ البرامج البحرية المشتركة لليونان مع شرقي المتوسط (والذي يشمل جزيرة قبرص وإسرائيل ومصر).
وإذا أخذنا بعين الاعتبار دور الموانئ والسواحل الليبية إلى جانب هذه المسألة سنجد أنها ستكون بمثابة بوابة الانفتاح الاقتصادي لأنقرة على إفريقيا، بالإضافة إلى أن الأتراك سيكون لهم الأفضلية في المنافسة الاستراتيجية المتوسطية المستقبلية. لذا يمكن تفسير المساعي التركية في إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا بأنها للحفاظ على هذا التفوق المكتسب والكامن في مياه المتوسط وشمالي إفريقيا. وبطبيعة الحال لن يكون التخطيط الاستراتيجي للحكومة التركية سواء في الداخل أو الخارج بلا ثمن.
ـــــــــــــــــ
مادة مترجمة عن “موسسه مطالعات و تحقيقات بين المللى ابرار معاصر تهران” بعنوان “مداخله ترکیه در بحران لیبی.. ماجراجویی یا توجه به عمق استراتژیک”.
[1] عرفت العاصمة الليبية طرابلس بـ”طرابلس الغرب” تمييزا لها عن مدينة طرابلس اللبنانية التي كانت تعرف بـ”طرابلس الشرق”/ المترجمة.
[2] عاش البطل الليبي عمر المختار بين 20 أغسطس 1858 و16 سبتمبر 1931م، وقضى الوتر الأكبر من حياته مناهضا للاحتلال الإيطالي لبلاده، ومجاهدا لتحرير ليبيا من هذا الاحتلال، ويعد في الثقافة العربية المعاصرة رمزا للنضال والتحرر، وقد تم تجسيد شخصيته في فيلم عالمي شهير حمل اسم “أسد الصحراء” عام 1981 أخرجه المخرج الليبي مصطفى العقاد وأدى بطولته النجم الأمريكي ـ المكسيكي، أنتوني كوين/ المترجمة.
[3] صادق البرلمان التركي يوم الخميس الموافق الثاني من يناير 2020 على مشروع قرار يسمح للحكومة بإرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق التي تعترف بها الأمم المتحدة في طرابلس/ المترجمة.