من بين الأفكار والاستراتيجيات الأمريكية في التعامل مع المسألة الإيرانية ما يعرف بحافة الهاوية أو الضغط الأقصى Maximum pressure وهي الفكرة التي شجع الرئيس ترامب عليها مجموعته المقربة من السياسيين اليمينيين والراديكاليين. تعتمد هذه الاستراتيجية بشكل رئيس على الضغط والعقوبات المركزة. كان أصحاب هذه الرؤية يردون في إجابتهم على كون أن منهج العقوبات ظل مستخدماً منذ عقود من دون أن يؤدي إلى أي نتيجة، بل على العكس، أدى لنتائج سلبية وإلى تحول إيران إلى خطر أمني ومهدد إقليمي، بالقول إن ذلك لا يجب أن يثني الإدارة الأمريكية على متابعة عقوباتها وزيادة فعاليتها وهو ما تم تلخيصه في العبارة التالية: “إن العقوبات قد لا تؤدي إلى أي نتيجة فعلاً، ولكن مزيداً من العقوبات قد يفعل”.
انتظر أصحاب هذه الفكرة أن تستسلم إيران وتخضع بعد أن يتم أخذها إلى حافة الهاوية. نظرياً كان يتوقع أن النظام الذي سيرى أنه سيسقط لا محالة ويخسر كل شيء سيكون مستعداً لتقديم أي تنازل من أجل البقاء. باستغلال غريزة حب البقاء تلك يمكن الحصول على اتفاقات وتعهدات مرضية، بل يمكن أيضاً إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام نفسه من دون اللجوء لحرب تقليدية مكلفة.
أولا: التأريخ لبداية العقوبات
يمكن التأريخ للبداية الفعلية لهذه المقاربة بالثامن من مايو من العام 2018، ذلك كان يوم إعلان الولايات المتحدة انسحابها الرسمي من الاتفاق النووي، الأمر الذي بدا صادماً للإيرانيين، خاصة بعد أن أكد الطرف الأمريكي جديته في قرارين لاحقين في السابع من أغسطس ببدء الحزمة الأولى من العقوبات والتي تشمل منع التجارة مع قطاعات الأعمال الإيرانية وفي الخامس من نوفمبر حين جرى استهداف قطاعي النفط والمصارف وضمهما لإطار العقوبات.
بنهاية العام 2018 كانت العقوبات قد صارت موجعة فعلاً، لكن ذلك لم يكن كل شيء حيث وصل الأمر لإعلان الرئيس ترامب الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية. العقوبات التي بدت مقتصرة على الحرس ومستهدفة موارده المالية وقادته الذين أصبحوا محظورين من السفر كانت في واقعها أخطر من ذلك لأن هذه المنظومة العسكرية كانت تتحكم تقريباً في حركة المال والاستثمارات في البلاد.
يرى كثيرون اليوم أن هذه المقاربة قد فشلت فشلاً ذريعاً ويرجح هؤلاء أن يكون إعفاء جون بولتون، مستشار الأمن القومي، والذي تمت إقالته بشكل مفاجىء في سبتمبر 2019 قد جاء انعكاساً لهذا الفشل، فقد كان الرجل من المتحمسين لهذه النظرة المتشددة المبنية ليس فقط على العقوبات بل على مساعي قلب نظام الحكم وقرع طبول الحرب أيضاً، ففي إحدى تصريحاته إبّان توليه منصب مستشار الأمن القومي قال بولتون إن بلاده نشرت سفناً وقاذفات في الشرق الأوسط لإرسال رسالة واضحة ـ وغير قابلة لسوء الفهم ـ لإيران.[1]
قد تكون فكرة “حافة الهاوية” هذه ناجحة مع أنظمة أخرى أقل تعقيداً في بنيتها الداخلية وتشابكاتها الخارجية، لكن في الحالة الإيرانية فإن اقتياد إيران لحافة الهاوية لم يقدها للاستسلام، بقدر ما حفّزها لتحريك كل أوراقها والقيام بكل ما كانت تعتبره متهوراً ومسيئاً لصورتها الجديدة التي تريد تقديمها للعالم.
شملت تلك التحركات عدداً من الإجراءات، ابتداء من تجاهل الاتفاق النووي بإعلانها بعد أيام من تصريح/ تهديد جون بولتون السابق عزمها تسريع الحصول على المعينات النووية، بغض النظر عن الحصص المنصوص عليها فيما يتعلق باليورانيوم المخصب والماء الثقيل، كما بدأت التلويح بالخيارات العسكرية والتذكير بقدرتها على توظيف الجماعات المعروفة التي تحتضنها بما يعين الأطراف المنافسة أو المعادية على تقدير حجمها ومعرفة ما يعنيه الدخول في حرب مع نظام ليس لديه ما يخسره.
رداً على ذلك، لم تملك الولايات المتحدة إلا التصعيد أكثر في سلم العقوبات لتشمل قطاع الفولاذ والمعادن، لكن استهداف ناقلتي نفط سعويتين وقيام الحوثيين المدعومين من إيران باستهداف منشأة أبقيق النفطية في الشهر ذاته، وكذلك سقوط صاروخ بالقرب من السفارة الأمريكية في بغداد ثم استهداف ناقلتي نفط يابانية ونرويجية في الشهر التالي أوضح أن طهران ما تزال بعيدة عن التسليم أو الاستسلام وكيف أن تعريفها الجغرافي للحرب مفتوح لحدود كبيرة.
بدا للبعض أن الرئيس الأمريكي قد بدأ بالتراجع عن سياسته وأنه أدرك أن خطورة هذه اللعبة والتكلفة العالية للاستمرار فيها، خاصة حينما صرح لدى لقائه برئيس الوزراء الياباني في السابع والعشرين من شهر مايو ٢٠١٩ وهو الشهر الذي شهد تصعيدات غير مسبوقة قائلاً: “إن بلاده لا تبحث عن تغيير النظام الإيراني، وإنما تسعى لمنعها فقط من تطوير أسلحة نووية”.[2] إلا أن الرئيس ترامب أذهل من تناقلوا ذلك التصريح حينما أعلن بعد أسبوعين من ذلك عن نشر أكثر من ألف جندي إضافي في المنطقة وتحديدا في ١٧ من يونيو.
الحرب التقليدية بين الطرفين ظلت لمعظم المراقبين خيارًا مستبعدًا، إذ وجد ما يشبه الإجماع على أن الأمر سيقتصر على لعبة “حافة الهاوية” على المدى القريب. الرئيس ترامب ظهر بمظهر المستوعب معنى الدخول في حرب في هذه المنطقة وفي هذا التوقيت حينما تجاهل إسقاط إيران لطائرة عسكرية أمريكية بدون طيار (20 يونيو 2019) بزعم أنها قد اخترقت حدودها، لكن هذا الاستيعاب لم يمنعه من إتخاذ مجموعة جديدة من الإجراءات التصعيدية مثل ما فرضه في الخامس والعشرين من يونيو على المرشد الإيراني علي خامنئي نفسه وعدد من كبار الشخصيات العسكرية، وما أعلنه في أغسطس من عقوبات على محمد جواد ظريف وزير الخارجية، ثم ما فرضه من عقوبات في شهر سبتمبر شملت وكالة الفضاء الإيرانية ومركزين بحثيين. هذه العقوبات التي تزامنت مع اتهام لإيران بالوقوف خلف الهجمات على منشأت شركة أرامكو النفطية سوف تشمل شخصيات رفيعة مقربة من المرشد سيضاف إليها أسماء بارزة أخرى في نوفمبر، قبل أن يصل الأمر في ديسمبر لمعاقبة الخطوط البحرية والجوية الإيرانية بزعم مشاركتهما في نقل شحنات أسلحة إلى اليمن.
ثانيا: حافة الهاوية.. دبلوماسية كسب الوقت
في خضم الأزمة الاقتصادية والسياسية التي كانت تعيشها، أعلنت إيران بشكل تكتيكي بداية شهر نوفمبر الماضي أنها بصدد إرسال مبادرة حول أمن الخليج إلى قادة دول الخليج وإلى الأمين العام للأمم المتحدة. المبادرة، “هرمز للسلام”، التي سبق أن تحدث عنها الرئيس الإيراني حسن روحاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر 2019 كانت تهدف للتأكيد على جدية إيران فيما يتعلق بمساعي تأمين المنطقة وتنقيتها من التهديدات والتوتر. لاحقاً، وفي السابع والعشرين من ديسمبر، ومع وجود نذر حرب بين طهران ووراشنطن سوف يعيد وزير الخارجية الإيراني التذكير بالمبادرة من خلال تغريدة أكد فيها استعداد بلاده للتعاون مع جيرانها في إطار تأمين الخليج.[3]
بالنسبة لمعظم الشركاء الخليجيين المفترضين فإن أصحاب المبادرة هم المهدد الأكبر لأمن الملاحة والمنطقة بشكل عام، فإيران هي من تشير إليها أصابع الاتهام بشأن استهداف الناقلات البحرية وهي من يهدد بين كل حين وآخر بإغلاق منافذ مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، الإجراء الذي سيهدد، ليس فقط أمن الدول المنتشاطئة، ولكن أيضاً الأمن والاقتصاد العالميين. بهذا.
تزامنت المبادرة، وخاصة تغريدة وزير الخارجية الإيراني، مع المناورات البحرية المشتركة بين كل من إيران وروسيا والصين والتي تمت قراءاتها في سياق التحدي والمنافسة مع المبادرة الأمريكية التي كانت قد شرعت في إنشاء تحالف دولي للأمن البحري.
بدت هذه المبادرة أقرب لمحاولة لتبييض الوجه وكسب الوقت، وقد رحبت بها بعض الأطراف بمجاملة، لكن لا أحد، على ما يبدو، أخذها على محمل الجد.
ولقد كانت الولايات المتحدة على مدى السنوات الماضية تراهن بشكل قوي على نظرية حافة الهاوية، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن إيران استخدمت هي الأخرى بدورها ذات النظرية في ردها على تهديدات الرئيس ترامب التي كانت تسخر من الاتفاق من أول يوم. وحينما وصل الأمر لإعلان الولايات المتحدة عن سلسلة من العقوبات المشددة التي لا تهدد فقط الاقتصاد الإيراني ولكن بقاء النظام نفسه كانت إيران ترد بإعلانها مواصلة التخصيب وتقليل التزاماتها النووية ومع بداية شهر يوليو ٢٠١٩ كانت تعلن أنها قد بدأت في زيادة حدود نسبة اليورانيوم المخصّب كما سبق وأن هددت، وهو الأمر الذي ما لبثت أن أكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الضامن التقني للاتفاق، حيث أعلنت بدورها منذ نهاية سبتمبر أن إيران لم تعد ملتزمة بتعهداتها وأنها استخدمت فعلاً أجهزة طرد مركزي متطورة لتخصيب اليورانيوم.
للتذكير فإن الالتزامات السابقة المبنية على التعاون مع الوكالة الدولية وتسهيل مهمة المفتشين، كانت تشمل تقليل أجهزة الطرد المركزي بحوالي الثلثين ووضعها تحت سيطرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتدمير 98 في المائة من مخزون اليورانيوم، ثم الاستمرار في التخصيب في مستويات دنيا، إضافة إلى إعادة تنظيم منشآت الماء الثقيل بما يمنع صنع الأسلحة المعتمدة على البلوتونيوم.
إيران لم تكتف بخرق بعض هذه البنود ولكنها عمدت إلى تفعيل أذرعها الإقليمية في العراق ولبنان واليمن وسوريا بشكل فوضوي اتضح معه أن نظام الولي الفقيه قد قرر أن يجر العالم، ممثلاً في الولايات المتحدة وحلفائها، إلى حافة الهاوية بشكل يجعل الأمر يبدو وكأنه استعداد لمعركة كبرى. الحسابات الإيرانية كانت تقول أن هذه المعركة لن تحدث، لأنها ستجر المنطقة إلى زوايا غامضة لن يملك أحد التحكم في تفاصيلها، وهكذا يكون الخيار الوحيد أمام الولايات المتحدة، أو أي طرف مقابل هو العودة إلى التفاوض العقلاني المرضي والذي يحفظ الكبرياء الإيراني، حتى وإن جرها لتقديم بعض التنازلات.
في هذا الإطار يمكن فهم ما ذهب إليه الدبلوماسي الإيراني رامين مهمانبرست من كون أن خطوة إيران الثالثة والتي تشير لمجموعة الإجراءات المتهورة التي ذكرناها آنفاً إنما كانت اختباراً لواشنطن ودرساً كبيراً للشعب الإيراني.[4]
فيما يتعلق بالتفاوض فإن للجانب الإيراني بعض الحجج التي يقوم بتكرارها في كل مرة والتي أهمها أن طهران لم تكن البادىء بخرق تعهداتها وذلك بشهادة الوكالة الدولية نفسها، ولكن من قام بخرق الاتفاق هو الجانب المقابل الذي لم يقم حتى الآن برفع العقوبات الأمريكية والأوروبية والأممية التي تم فرضها في مراحل سابقة بسبب عدم امتثال إيران أو بسبب التشكيك في نواياها.
ثالثا: ما يشبه الحرب في العراق
بنهاية العام كان الجميع يحبس أنفاسه، فقد تجرأت إيران في السابع والعشرين من ديسمبر وباستخدام ذراعها كتائب حزب الله العراقية على استهداف معسكر للقوات الأمريكية في مدينة كركوك وهو الهجوم الذي نتج عنه مقتل مقاول أمريكي وإصابة بعض الموظفين الآخرين، ما عد تصعيداً خطيراً وتجاوزاً لحدود الاشتباك. بعد يومين من ذلك ردت الولايات المتحدة باستهداف لمواقع للكتائب في سوريا والعراق نتج عنه مقتل ٢٢ جندياً على الأقل، ما تسبب بموجة غضب شعبي كبيرة حوصرت على إثرها السفارة الأمريكية في بغداد بمناصرين للحشد الشعبي ومجموعات آخرى مقربة من إيران. وصول الحشود وبدؤهم تطويق السفارة والشروع في أعمال تخريب مع المناداة برحيل الأمريكيين ذكّر بحادثة اقتحام السفارة الأمريكية الشهير في طهران والسيطرة عليها بعد أخذ من بداخلها كرهائن وهو ما جعل الولايات المتحدة تتهم النظام الإيراني بالوقوف وراء ذلك الاحتشاد الذي بدا مهددًا لأمن السفارة.
في ظل مخاوف من التخطيط لعمليات هجومية أكبر قامت الولايات المتحدة باغتيال الجنرال قاسم سليماني في الثالث من يناير ٢٠٢٠ في قصف قرب مطار بغداد، وهو الإجراء الذي شكّل ضربة كبيرة للأذرع الإيرانية وللنظام العسكري الإيراني بشكل عام.
بحسب رواية واشنطن التي بررت بها لاحقاً لجوؤها لتنفيذ هذه العملية، فإن طهران كانت تنوي القيام بتصعيد أكبر ضد المصالح الأمريكية في العراق. الرئيس ترامب سيصرّح قائلًا أن التخلص من سليماني، المتهم بإدارة ذلك التصعيد، لم يكن بغرض البدء في الحرب، وإنما كان لتجنبها.[5]
يمكن أن يكون كلام ترامب حول استبعاد المضي قدماً في الخيار العسكري ضد إيران مقنعاً، خاصة وأن إيران كانت قد منحت الولايات المتحدة الكثير من الذرائع المجانية التي كان بالإمكان استخدامها لشن حرب أو لتوجيه ضربات مؤلمة ومبررة إن هي رغبت في ذلك، فكما ذكرنا قامت إيران قبل ذلك بأسابيع بإسقاط طائرة أمريكية دون طيار، كما قامت بالتعدي على سفينة بريطانية، هذا غير استهدافها المستمر للمملكة السعودية الحليفة والذي وصل حد استهداف منشآت أرامكو النفطية. كل ذلك لم يدفع الولايات المتحدة للرد، لأسباب ربما يكون من بينها عدم وجود استعداد حقيقي لتحمل تبعات صراع جاد قد يستمر لوقت طويل أو لعدم وجود ظهير شعبي مساند لمشاركة الولايات المتحدة في حرب جديدة في المنطقة.
بعد مقتل سليماني حبس الجميع أنفاسه، لكن الرد الإيراني الذي استهدف قاعدتين عسكريتين في الأنبار وإربيل بدا باهتاً، خاصة حينما أكد الأمريكيون عدم وجود ضحايا، وهو ما جعل المحللين يصفونه بالرد المدروس الذي يحفظ ماء الوجه ولا يقود إلى حرب حقيقية في ذات الوقت، أما الإجراء الثاني الذي تم فيه استهداف طائرة ركاب أوكرانية تم الاشتباه بكونها هدفاً معادياً، فقد كان مثار سخرية في الخارج وغضب شعبي في الداخل وهو يظهر النظام المقاوم بصورة العاجز تقنياً، وبدت الصورة أكثر إيلامًا مع تأكد أن أغلب الضحايا كانوا من المواطنين الإيرانيين.
حتى الآن ما تزال الردود الإيرانية، كالعمليات العسكرية المحدودة أو كما حدث إعلان البنتاغون منظمة إرهابية من قبل البرلمان الإيراني، ما تزال غير مؤثرة على نحو استراتيجي.
رابعا: هل حققت “حافة الهاوية” أهدافها؟
استمرار هذه العقوبات التي تؤثر على تجارة إيران الخارجية وعلى تحويلاتها المالية ووصولها إلى التكنولوجيا أصاب كلاً من الشعب الإيراني والقادة السياسيين بالإحباط، خاصة وأنهم كانوا يمنون النفس بالإفراج عما قيمته مائة بليون دولار من الأصول المجمدة التي كان بإمكانها أن تسهم في معافاة الاقتصاد الإيراني المتعثر.
على مستوى المواطنين تسببت هذه العقوبات، خاصة بعد تعزيزها في العام الماضي، بتدهور الاقتصاد الإيراني بشكل مريع بسبب اضطرار الحكومة لرفع الدعم عن البنزين ما زاد سعره لما بتجاوز ٣٠٠ في المئة، ما أدى لاندلاع احتجاجات متصاعدة منذ أواسط نوفمبر من العام الماضي تعاملت معها الحكومة بشكل صارم وسط إجراءات قاسية متزامنة مع منع الصحافة وتغييب الانترنت.
الجديد في تلك التظاهرات الشعبية العارمة التي لا يمكن القول بإنها قد خمدت بشكل تام إلى اليوم هو بروز صوت بدا واضحاً في اعتراضه على سياسة التحشيد الثوري الأممية وفي الدعوة للاكتفاء بما يصلح الشأن الداخلي، وهو صوت مشترك تردد صداه على وقع الاحتجاجات في لبنان والعراق، ما وصل لحد اتهام المتظاهرين إيران في تلك البلدان بالعبث بالاقتصاد وتسميم السياسة، حيث تجرأ المتظاهرون في حدث نادر على مهاجمة المقار الدبلوماسية الإيرانية ورموز الحكم الدينية.
أوضحت كثافة الحركة الاحتجاجية التي لم تخمد بشكل نسبي إلا عقب الانشغال بأزمة فيروس كورونا التي تحولت لمهدد صحي جاد منذ شهر فبراير، أوضحت أن الخطاب الدعائي المتكرر على مدى عقود قد فقد بريقه، وأن وصف المتظاهرين بالعملاء والمأجورين المستخدمين من قبل الامبريالية العالمية من أجل تخريب البلاد وتقويض “النظام المقاوم” أو العمل على اعتقال أشخاص بزعم ارتباطهم بوكالة الاستخبارات الأمريكية، كل ذلك لم يعد مقنعًا.
على مستوى المراقبين اختلفت التقديرات حول نجاعة حافة الهاوية كاستراتيجية، فقد عمل البعض على انتقادها لكونها ذات أثر سلبي على عامة المواطنين ولما تتسبب فيه من توتير لأجواء المنطقة ومثال ذلك مقال “مجموعة الأزمات الدولية”: الضغط الأقصى الأمريكي يقابل الضغط الأقصى الإيراني[6]، أو غيره من المقالات التي ركزت على الأضرار الإنسانية للعقوبات، خاصة في ظل جائحة كورونا التي تأثرت بها إيران بشكل كبير. في المقابل كان آخرون يرون أن العقوبات القاسية لم تفشل، بل إنها سياسة يجب الاستمرار فيها والعمل على حشد مزيد من الدول للمشاركة فيها من أجل إحكام القبضة على الطرف الإيراني، بما يجبرها على التفاوض وتغيير السلوك وممن يتبنون هذه الرؤية الباحث علي باكير بحسب ما يتضح من مقاله: استراتيجية ترامب، الضغط الأقصى، لم تفشل.[7]
الأكيد أن هذه الاستراتيجية لم تنجح في تغيير النظام في إيران، لكنها ساهمت في تنامي الوعي حول الأثر التدميري لاستغلال نظام الولي الفقيه لإيمان البسطاء من الناس وتوظيفه للدين والطائفة في سبيل المصالح السياسية. كانت الدول العربية، وما تزال، هي ساحة النزال والتحدي بين الولايات المتحدة وإيران وكثير من الناس كان يتم الدفع بهم، تحت ضغط الدعاية المكثفة وخطب الكراهية، للمشاركة في حملات تخريبية عابرة للأوطان تتخذ من الهتافات العدمية والخارجة من السياق مثل المناداة بالثأر للحسين، أو حماية أهل البيت: “لن تسبى زينب مرتين”، شعاراً لها.
النظام الإيراني لا يستسلم بسهولة وهو يمتلك خبرة في تجاوز الأزمات والضغوط الخارجية، لكن هناك عوامل جديدة تبلورت الآن وأهمها العامل الداخلي مع بروز تململ وحركة احتجاج داخل بيت السلطة نفسه.
د. مدى الفاتح
كاتب وباحث متخصص في العلاقات الدولية.
ـــــــــــــــــ
[1] Statement from the National Security Advisor Ambassador John Bolton, Issued 5/ May 2019. Link: https://bit.ly/36gVcyc
[2] Trump Says He’s Not Looking to Topple Iranian Leadership, Bloombergتاريخ النشر 27 مايو 2019. Link: https://bloom.bg/2WMq6eH
[3] ظريف: مبادرة هرمز مطروحة الآن على الطاولة، الميادين، 27 ديسمبر 2019 https://bit.ly/2z6b0Yq
[4] محمد محسن أبو النور، آفاق التسوية بين طهران وواشنطن، المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، تاريخ النشر 28 أكتوبر 2019. http://bit.ly/36cS5a3
[5] Suzanne Lynch, Trump says he ordered Suleimani strike to ‘stop a war’ not start one, The Irish Times, 3 Jan 2020. Link: https://bit.ly/2WN3ISs
[6] Ali Vaez and Naysan Rafati, U.S. Maximum Pressure Meets Iranian Maximum Pressure, Crisis group, 5 November 2019. Link: https://bit.ly/3bMH3cX
[7] Ali Baker, Trump’s ‘maximum pressure’ strategy on Iran did not fail. AlJazeera Opinion, 10 September 2019. Link: https://bit.ly/3e2EnJK