حتى أعوام قليلة، لم يكن من الممكن الحصول على صورة واحدة للجنرال الإيراني الأخطر قاسم سليماني، كانت طهران تحيط رجلها بهالة من الغموض يتناسب وطبيعة عمله كرأس لعملياتها السرية، ولكن في عام 2014 غيرت طهران فجأة سياساتها ورؤيتها لطبيعة الدور الذي تريد لسليماني أن يلعبه.
فقد كان أن سرب الإيرانيون في إطار خطة إرباك أو حرب نفسية ما، صورة لرجلهم الخطير أثناء قيادته عمليات عسكرية بإحدى الدول العربية، وكانت هذه الصورة نقطة التحول أو لنقل بداية النهاية في حياة قائد فيلق القدس الإيراني.
أرادت طهران إلى جانب الأهداف العسكرية المراد تحقيقها من إظهار سليماني علنا، أن تبرز رجلها في صورة البطل، وأن تجعل من قائدها العسكري نجما ورمزًا يلتف حوله الإيرانيون، فنسجت مئات القصص عن بطولات المقاتل المحنك، واستخدم كرأس حربة لتمرير وتحسين صورة التدخلات الإيرانية السافرة في سوريا واليمن ولبنان وغيرها، ولأن الإيرانيين سينمائيون بطبعهم فقد كان للسينما نصيب من هذه الخطة.
كيف يستخدم النظام الإيراني السينما؟
يمكن تقسيم السينما الإيرانية من الناحية السياسية إلى قسمين رئيسين، الأول: سينما الداخل وهي سينما دعائية توجه بالأساس للمواطن الإيراني لدعم سياسات النظام، أو إلقاء الضوء على معارك الجيش الإيراني المختلفة، وتمجيدها، وفي القلب منها بالطبع الحرب العراقية ـ الإيرانية، أما القسم الثاني فهو قسم موجه بالأساس للخارج، بحبكات إنسانية للغاية، وبمخرجين مختلفين عن أولئك الذين يقدمون النوع الأول من الأفلام، بل أن بعض مخرجي وصناع القسم الثاني من هذا الجانب من السينما الإيرانية مناوئون للنظام هناك، لكنهم يعملون، وينتجون أفلامهم برغم كل المضايقات؛ لأن الساسة هناك خاصة المحسوبين على الجانب الإصلاحي يدركون أهميتهم في بناء القوة الناعمة الإيرانية، والترويج للدولة بقصد ـ أو بدون قصد – الإدراك الذي يتزعزع كثيرًا حال تولى المحافظون الحكم، أو الإدراك الذي لا يمنع المضايقات الواسعة التي يتعرض لها صناع القسم الثاني، في مقابل التسهيلات الكبيرة التي يحصل عليها صناع القسم الأول من الأفلام.
بالنظر إلى حالة قاسم سليماني فإن الرجل ـ كفرد ـ والحرس الثوري كمؤسسة مثلا يعد لاعبًا أساسيًا في كلا القسمين تأييدًا ورفضا؛ فسليماني عبر بشخصه عن ترحيبه وتأثره ببعض أفلام القسم الأول ـ الموجه للداخل ـ في حين عبر الحرس الثوري مرارًا عن رفضه بعض الأفلام المحسوبة على القسم الثاني ـ الموجه للخارج ـ كما حدث مع فيلم “نفس” للمخرجة نرجس آبيار الذي هاجمه الجنرال محمد رضا نهدي، القائد البارز في الحرس الثوري الإيراني.
ما هو أكثر من التأييد والرفض!
علاقة قاسم سليماني بالسينما لم تستمر طويلا عند مربع المشاهد المؤيد أو الرافض لفيلم ما، بل تطورت مع الوقت ليحدث ما بين الرجل والسينما الإيرانية ما يمكن تسميته بحالة من المنفعة المشتركة، هو يستخدمها لتحسين سمعته، وبناء صورة تخالف الواقع عن جرائمه في البلدان العربية المختلفة، وهي تحقق المكاسب الكبيرة من وراء شعبيته التي كانت آخذة في التنامي.
ففي عام 2016 أخرج إبراهيم حاتمي كيا فيلما بعنوان “باديكارد” أو “الحارس الشخصي”، واستعان لبطولة الفيلم بالممثل برويز برستويي الذي يتميز بالشبه الكبير بينه وبين سليماني، وبرغم أن الفيلم لا يدور حول قصة حياة سليماني، ويعد بشكل ما إعادة إنتاج للفيلم الأمريكي “The Bodyguard” من إخراج ميك جاكسون 1992، وبطولة النجم كيفن كوستنر، والمطربة ويتني هيوستن، إلا أن صناع الفيلم الإيراني استغلوا الشبه الواضح بين بطله وبين قاسم سليماني وحققوا أهدافًا سياسية وتجارية في الوقت ذاته.
على المستوى السياسي حاول الفيلم إحداث وقيعة بين مصر وحلفائها الخليجيين، حين ادعت وكالة فارس الإيرانية أن الفيلم الذي يمجد حياة القائد الفارسي سيعرض في 10 سينمات مصرية في القاهرة والإسكندرية، الخبر الذي سرعان ما تلقفته وكالات أنباء مناوئة للقاهرة وأعدت حوله تقارير إخبارية ربطته بتقارب مصري ـ روسي ـ إيراني، على حساب العلاقات التاريخية بين مصر وبين دول الخليج، بالرغم من أن القاهرة نفت تماما عرض الفيلم في السينمات المصرية.
سياسيا أيضًا، عرض الإيرانيون فيلمهم في سوريا وفي الضاحية الجنوبية بلبنان، في محاولة لاستخدام السينما لتحقيق مزيد من النفوذ والتأييد الشعبي بهذه المناطق، أما على المستوى التجاري فقد حقق الفيلم إيرادات قياسية بلغت 3 مليارات تومان خلال 24 يومًا فقط.
في السياق ذاته، لم يغب عن مخرج “باديكارد” إبراهيم حاتمي ـ ومع الجدل الذي صاحب فيلمه ـ توجيه التحية لقاسم سليماني الذي اعتبره يؤدي دورًا مهمًا ما لإيران، دفعه لإهداء الفيلم إليه.
ما بعد “باديكارد”
بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم إبراهيم حاتمي، أراد الإيرانيون الاستمرار على النهج ذاته، فأنتجت منظمة “أوج للفنون والإعلام” المتخصصة في إنتاج الأعمال الثورية – منتج فيلم باديكارد نفسه – فيلمًا جديدًا عام 2018 حمل اسم “بتوقيت الشام”، أخرجه أيضًا إبراهيم حاتمي وحظي بمتابعة رفيعة المستوى من وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وقاسم سليماني نفسه، تناول هذه المرة قصة طائرة مساعدات “إنسانية” إيرانية متوجهة إلى سوريا ينجح مقاتلون من داعش في السيطرة عليها، واختطافها، وخرج قاسم من عرضه الخاص قائلًا في تصريح للصحفيين بعد تقبيل رأس حاتمي: “إن العمل أبكاني”، معربا عن شكره وتقديره لإنتاج هذا الفيلم “نيابة عن المجاهدين والمقاتلين”.
والحقيقة أن قاسم سليماني لم يكتف بالسينما وحدها، ولا بالأعمال المنتجة في إيران فقط، لكن هوسه امتد أيضًا للأعمال الدرامية، فحين غرد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نوفمبر من عام 2018 بصورة تحمل طابع المسلسل الأمريكي الشهير Game of thrones وكتب فوقها: “العقوبات قادمة”، رد عليه سليماني بصورة تحمل الطابع الدرامي نفسه وكتب عليها: “سأقف ضدك”، المبارزة الإلكترونية التي عادت إلى السطح بعد أن أمر ترامب باغتيال سليماني، فيما بدا كأنه انتقام درامي وحلقة إضافية من حلقات المسلسل الشهير.
تداعيات اغتيال سليماني سينمائيًا
إذا كان قاسم سليماني قد استخدم السينما في حياته كأداة للقتل، وكانت هي سبب من أسباب اغتياله حين قرر هو، أو قرر آخرون إخراجه من العتمة إلى دائرة الضوء، وإذا كان المحللون والخبراء الاستراتيجيون قد انشغلوا بتحليل تداعيات اغتيال الرجل سياسيا وعسكريًا، فلا شك أن لاغتيال سليماني تداعيات سينمائية أيضًا، فمن المنتظر أن ينتج الإيرانيون عشرات الأفلام التي تمجد حياة قتيلهم، ناهيك عن أنه من بين عشرات التهديدات التي انطلقت من إيران عقب وفاة سليماني، فإن القرار الرسمي الأسرع كان إطلاق جائزة سينمائية يقدمها مهرجان فجر -أهم مهرجان سينمائي في إيران ـ باسم سليماني لأفلام المقاومة!