استهدفت القوات الأمريكية فجر اليوم الجمعة قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في موقع قريب من مطار بغداد بالعاصمة العراقية، ردا من جانبها على الاستهدافات المتتالية للقواعد الأمريكية بهذا البلد تحت قيادته، ولئن كان هذا هو السبب المعلن والحلقة الأخيرة في متتالية أمنية تصعيدية بين الجانبين؛ إلا أن بواطن الأمور تشي بأن البنتاجون أقدم على هذه العملية تخوفا من أن يتم تهمييش دوره في العراق بناء على تحليل الأحداث الأخيرة واقتناعه بأن هناك اصطفافا حكوميًا ونخبويا إلى جانب إيران في الأشهر الأخيرة يمثل خصما من رصيده المتراكم في بغداد منذ الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين عام 2003.
تحليل السياق
فتحليل السياق يشير إلى أنه عندما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على قصف 5 مواقع لحزب الله العراقي في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي بكل من العراق وسوريا؛ ردا على مقتل مقاول أمريكي في اليوم الذي سبقه، كان أن رد حزب الله العراقي بحصار السفارة الأمريكية في بغداد، وبعدها أدان كبار قادة العراق الضربات الأمريكية ولم يتعرضوا بالإدانة أو الشجب لمقتل المقاول الأمريكي الذي كان متعهدا لتوريد الأغذية إلى السفارة.
حتى بعد مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وقادة آخرين فجر اليوم نددت الحكومة العراقية على لسان رئيس وزرائها بتلك العملية ولم تتعرض بالتنديد لأي سلوك إيراني ضد المصالح الأمريكية على اعتبار أن سليماني والمهندس كانا يخططان لعمليات نوعية مكثفة وموسعة ضد القوات الأمريكية في العراق، وقاما بالفعل طيلة الأشهر الماضية بعمليات مماثلة.
عليه جاء قرار البنتاجون بضرورة اللجوء إلى مخاطرة تصعيدية ضد قادة العمليات المحتملة لاستبعاد تهميش واشنطن من العراق وهو التهميش الذي اقتضى عملية عسكرية تحمل ما تحمله من مجازفة تنطوي على تبعات تصعيد غير محسوب مع إيران، لاسيما أن إيران تمتلك بالفعل الكثير من أوراق التأثير في الإقليم.
أما الموقف الإيراني فقام على التوعد بالرد على هذا العمل والانتقام الشديد؛ لأن قاسم سليماني بالنسبة للنظام الإيراني الحالي هو بطل قومي و ـ تقريبا ـ أهم شخصية عسكرية بالبلاد، وهو حاصل على وسام “ذو الفقار”، الأعلى في الجمهورية الإسلامية، وتمت ترقيته إلى رتبة “فريق” وهي رتبة لم يحصل عليها رجل قبله في تاريخ الحرس الثوري على مدى أربعين عاما.
رد الفعل الإيراني المتوقع
تشير الخبرة التاريخية القريبة مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى أن طهران ستنفذ وعيدها وترد على تلك العملية. على سبيل المثال: في واقعة احتجاز بريطانيا الناقلة الإيرانية في جبل طارق ردت إيران واحتجزت ناقلتين بريطانيتين، في مضيق هرمز، بعد وعيد أقل بكثير من وعيد خامنئي اليوم، ما يعني أن آية الله القابض على مفاصل السلطة بالكامل منذ العام 1989 لن يسمح بأن يمر الأمر من دون رد خاصة أنه توعد بنفسه بالرد القاسي.
أما رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي الذي أدان العملية فقد أماط اللثام عن اصطفافه الكامل مع إيران، مستمدا موقفه من كونه مؤيدا من الداخل بكتلة سائرون وعصائب أهل الحق وأطياف عديدة على رأسها المرجع الأعلى آية الله السيستاني الذي أدان العملية ورفض النهج الأمريكي، وهو ما يعطي لإيران أفضلية في الرد على العملية بالميدان نفسه، أي في العراق وليس في أي ساحة أخرى.
في ضوء تلك التطورات يبدو أن الخطوة الأمريكية جاءت في عدة أطر منها إطار الاستباق؛ لأن سليماني كان يخطط لعمليات ضد المصالح الأمريكية في العراق، وفقا لبيان البنتاجون الذي أراد القول إنه في عهد وزيره الجديد، مارك إسبر، لن يسمح بتكرار سيناريو الثمانينيات ضد المصالح الأمريكية في الإقليم.
لذلك ستلجأ إيران إلى التصعيد لأن تلك الواقعة استهدفت ابتداءً شل قدرة طهران على تنفيذ العمليات التي كان مخطط لها، وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان تجهيز بديل لسليماني بالمستوى نفسه في القريب، ما يعني رجاحة كفة واشنطن في مواجهة طهران بالإقليم وهو خيار استراتيجي لن يسمح آية الله بحدوثه بسهولة. عليه فإنه من المرجح أن يكون الرد مباشرا من جانب إيران ضد المصالح الأمريكية وليس بالضرورة أن يكون عن طريق الوكلاء، لأن أمريكا بادرت بالإعلان عن العملية وهو إعلان انطوى على إحراج بالغ للإدارة الإيرانية.
في تحليل العملية
في تحليل العملية يمكن القول إن قاسم سليماني ارتكب خطأ استراتيجيا فادحا؛ لأنه اجتمع مع كل هؤلاء القادة الميدانيين العراقيين واللبنانيين في مكان واحد، ما جعل من قتلهم بضربة واحدة فرصة لا يمكن تفويتها أمريكيا، وهو ما يشير كذلك إلى أن واشنطن كانت تملك الكثير من المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بتحركات القادة الإيرانيين.
ويبدو أن تعيين إيران نائب قاسم سليماني الجنرال إسماعيل قآاني قائدا لفيلق القدس هو بمثابة رسالة سريعة مفادها أن طهران كانت متجهزة لهذا السيناريو وأن لديها عدة طبقات من القادة يمكنهم ملء الشغور الناتج عن تغييب أي شخصية حتى لو كانت على المستوى الأعلى.
وليس من نافلة القول الذهاب إلى أنه من المستبعد أن تكون إسرائيل وجهة الرد الإيراني الحتمي المتوقع؛ لأنها لم تكن طرفا في الأزمة، وقد كان ذلك مقصودا من البنتاجون بعدم إشراك تل أبيب في العملية، حتى يمكن السيطرة على سيرورة التصعيد إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.
خاتمة
في المحصلة ينهض ترجيح أن يكون هناك ردا إيرانيا سريعا وقويا؛ لأنه لو لم ترد طهران فسوف تعاني في السنوات المقبلة من ضبط قيادات الوسط في الحرس الثوري، وستفشل في استقطاب شبان جدد إلى فيلق القدس وإلى الحرس الثوري والباسيج بطبيعة الحال، لأن معنى أن تتخلى إيران مجانا عن قاسم سليماني الحاصل على وسام “سيف الإمام علي”؛ فإنها قد تتخلى عن أي عنصر آخر وهذا سيعرض نظامها القائم أساسا على تلك القوات إلى خطر داهم قد يكلف النظام ـ بالكامل ـ قدرته على البقاء على قيد الحياة.