تهتم كل من إسرائيل وإيران بالتعليم كنافذة للمستقبل والتخطيط نحو المرجو والمرغوب بل والمستهدف فكلاهما دولتان لهما مطامع إقليمية وتوسعية بالمنطقة العربية تتطلب بناء منظومة تعليمية متميزة تساعدهما على بناء كوادر بشرية قادرة على القيادة والتخطيط والاعداد للمستقبل، وتمتلك هوية وطنية تعلي من قيم الولاء المجتمعي والانتماء وتكفل تحقيق حراك مجتمعي وعدالة اجتماعية في الوقت ذاته.
ويحاول كتاب “السياسات التعليمية في إسرائيل وإيران ـ مقاربة عربية” الصادر حديثا عن “معهد الدراسات العربية”، إلقاء الضوء على هذا الأمر، من خلال بحث كيفية استطاعة طهران وتل أبيب تحقيق طفرة علمية ملموسة في مجال التعليم. فعلى سبيل المثال منذ مطلع الألفية حتى عام 2013 حصل ستة علماء بإسرائيل على جائزة نويل في العلوم وكذا عالمان في الاقتصاد ومفكر في الآداب ـ علاوة على ثلاثة ساسة فبلغ إجمالي عدد الإسرائيليين الحاصلين على الجائزة 12 شخصية.
وتدلل مؤلفة الكتاب، الدكتورة هبة جمال الدين، مدرس العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي، على الأمر نفسه في إيران، موضحة أنها استطاعت في الثلاثين عام الماضية ـ بالرغم من العقوبات الاقتصادية ـ أن تحقق طفرة في مجال العلوم والتكنولوجيا عبر منظومة التعليم والتدريب بل وحققت طفرة في العلوم الطبية والنووية وعلوم الفضاء ودراسة الخلايا الجذعية وعلوم الاستنساخ.
وتوصل الكتاب إلى أن هذه الطفرة حدثت في ضوء عدد من التحديات الداخلية الكامنة في طبيعة المجتمع بكلا الدولتين فكل منهما تتعدد به الطوائف والانقسامات العرقية، فإسرائيل مجتمع شتات دولة مهاجرين بالأساس به أكثر من 80 جنسية مهاجرة تحولت بعد ذلك إلى الجنسية الإسرائيلية، ومن ثم لها موروثاتها الخاصة ولغاتها الأصلية، علاوة على الانقسامات العرقية وما تعكسه بشدة من سياسات تمييزية بين اليهود والعرب على وجه الخصوص، إذ أدى ذلك إلى وجود مدارس خاصة لكل فئة، إضافة إلى الانقسامات الدينية، فهناك مدارس علمانية ودينية بل إن إسرائيل بها عدد من الديانات وهي: اليهودية والإسلام والمسيحية والدرزية وكل هذه التقسيمات انعكست على النظام التعليمي بإسرائيل، كما كان لها انعكاساتها خلال إعداد السياسة العامة للتعليم.
وترى المؤلفة أن الحال في إيران لا يختلف كثيرا، إذ تتعدد بها اللغات المحلية، فبخلاف الفارسية ـ اللغة الرسمية ـ هناك الكردية والجيلاكية واللورية والتاليشية والبلوشية والتركية والأذربيجانية والعربية والآشورية وقليل من الهندو-أوروبية والأرمنية والروسية والبشتو. علاوة على الأعراق المختلفة والتفرقة الكبيرة بين السنة والشيعة، بالإضافة إلى الطبيعة المحافظة للمجتمع الإيراني التي تنعكس في المدارس ذات الجنس الواحد. ومع هذه الاختلافات استطاعت بناء منظومة تعليمية أفرزت العلماء الذين لهم دور بارز في تحقيق قوتها الاقتصادية والعلمية.
من هنا برزت الضرورة للاهتمام بالتجربتين للوقوف على النظام التعليمي والسياسة العامة للتعليم بكل منهما ومدى قدرتهما على استيعاب الاختلافات والعقبات والتعرف على القوة المؤثرة والعوامل الفاعلة. ومحاولة الإجابة عن سؤال: هل للمؤسسة العسكرية دور في تطوير المنظومة التعليمية، كما تذكر بعض التحليلات عن التجربتين وخصوصية كل منهما؟!
وحاولت الدكتورة هبة جمال الدين الإجابة عن عدد من الأسئلة البحثية في المؤلف من بينها: ما هي أبرز السياسات التعليمية المتبناة من قبل صناع القرار في البلدين؟ وما هو دور التعليم بكلٍ منهما؟! حتى يمكن استخلاص الدروس المستقاه من التجربتين وما يمكن الاستفادة منه لتطوير المنظومة التعليمية بمصر والوطن العربي.
وقسمت جمال الدين الكتاب إلى قسمين الأول: خصوصية المجتمع الإسرائيلي والإيراني: (السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي المقومات والتحديات). والثاني: هيكل النظام التعليمي وأبرز السياسات التعليمية بإيران وإسرائيل.
وقدمت في نهاية الدراسة بعض السياسات التي يمكن استخلاصها من التجربتين لدعم التجربة العربية؛ لأن الهدف الرئيس من دراسة هاتين التجربتين هى استخلاص السياسات الناجعة الممكن الاستفادة منها في العالم العربي علاوة على الوقوف على مواطن الخطر المتمثل في السياسات العنصرية التي تبثها كل من إسرائيل وإيران في عقول الأطفال والشبان من مخططات توسعية ونظرة عنصرية للعرب والحضارة العربية.
وتوصلت الدراسة إلى أن كلا من إسرائئيل وإيران استطاعتا تجسيد عملي للفكر التوسعي لكل منهما وهو ما انعكس على بعض السياسات العنصرية والعنيفة والدور الكبير للمؤسسة العسكرية فقد اتفقتا على أهمية بناء منظومة تعليمية تستطيع أن تحقق الحلم التوسعي سواء في المد الثوري الإيراني أو في المخطط الاستيطاني الصهيوني.
وفي هذا السياق طورت كل منهما منظومة من السياسات التعليمية استطاعت القضاء على الخلافات الظاهرية بكل مجتمع والاصطفاف حول المخططات التوسعية عبر بناء هوية جمعية بثوابت قائمة على المخطط الأيديولوجي لكل نظام.
وخلصت الدراسة كذلك إلى أن كلا من طهران وتل أبيب اهتمتا بدعم اللغة والتاريخ وبناء تاريخ يتوافق مع فكر المخطط بكل نظام فبنت إسرائيل أكذوبة “التاريخ اليهودي” وبنت إيران “تاريخ الثورة الإيرانية واستعادة مجد الحضارة الفارسية”.
وامتازت إسرائيل بدعم تعلم اللغات الأجنبية واتفقتا على الاهتمام بالدراسات الاجتماعية والعلوم والرياضيات عبر وجود مؤسسة حامية لهذه المنظومة متمثلة في المؤسسة العسكرية أو الحرس الثوري بجانب وزارة التعليم أو الجهة المنوطة بملف التعليم والاهتمام بالتعليم الفني وربطه بسوق العمل عبر إشراف وزارة الصناعة عليه وجعل التدريب العملي جزء رئيس للحصول على شهادة التعليم الفني، بالإضافة إلى تبني سياسة مجانية إلزامية على الجميع منذ رياض الأطفال لتفادي تعثر التعليم بل وضمان تحقيق حراك مجتمعي بين فئات المجتمع وتشديد معايير الاختبار والالتحاق بالتعليم العالي لضمان الأفضل.
وأكدت الدراسة أن للبحث العلمي دور في تطوير المنظومة التعليمية وخدمة المخطط وأهدافه التوسعية لدى كل من إيران وإسرائيل، ذلك أن مخصص الإنفاق الحكومي على المنظومة التعليمية اعتبر في كل من البلدين بمثابة الأمن القومي الذي لا يجب المساس به حتى في أحلك الأوقات الصعبة.
وقد توصلت الدراسة لعدد من السياسات التي يحتاجها صانع القرار المصري والعربي للاستفادة من التجربتين أبرزها:
ــ أهمية وجود مؤسسة تربوية تساهم مع وزارة التعليم لضمان الحفاظ على الهوية الوطنية عبر المناهج الدراسية وتضمين ملامح الثقافة المصرية والعربية داخل المقررات فهي بمثابة الضامن والحامي للهوية داخل النظام التعليمي.
ــ إعادة صياغة المناهج الدراسية لتؤكد على الهوية الجمعية التي تحاول المخططات الخارجية تفتيتها بإنقسامات فرعية.
ــ تضمين مقررات التاريخ واللغة العربية والأجنية والدراسات الاجتماعية والرياضيات والعلوم والحاسب الآلي كمقررات أساسية في كل مرحلة تعليمية (الأدبية والعلمية) وكذا الجامعات العملية لبناء عقلية متكاملة ناقدة قادرة على الإلمام بمختلف نواحي الحياة.
ــ الاهتمام بالبحث التربوي من قبل النظام التعليمي بالشراكة مع الجامعات.
ــ تدريب المعلمين دوريا وفقا للمعايير الدولية والخصوصية الثقافية.
ــ مراعاة الإرث الثقافي لكل منطقة جغرافية داخل المقررات التعليمية.
ــ مجانية التعليم وإلزاميته منذ رياض الأطفال لتفادي تعثر التعليم وكذا تحقيق الحراك المجتمعي ونشر الفكر والوعي كمدخل لمكافحة الإرهاب والتطرف الفكري.
ــ تربية الأطفال على قيمة العمل منذ الصغر عبر الاهتمام بأنشطة تطوعية داخل المدرسة والنطاق المحيط بها.
ــ إشراك طلبة الجامعات في مرحلة تعليم رياض الأطفال لزيادة حس المسؤولية الاجتماعية لديهم.
ــ تخصيص نسبة ثابتة للتعليم من الناتج القومي الإجمالي لا تقل عنها ولا يتم الاقتضاب منها بغض النظر عن الأحداث التي تواجهها الدولة تتراوح بين 3.5 إلى 7.5% من إجمالي الناتج حتى يمكن المنافسة دوليا.
ــ التواصل مع الشباب المصري والعربي بالخارج عبر برامج الزيارات الدراسية والمناهج الدراسية (كراسي الأستاذية بالجامعات الأجنية للغة والتاريخ المصري)، علاوة على دور السفارات المصرية والعربية بالخارج.
ــ احترام التعددية بالمجتمع مع اعتبارها ركيزة نحو الوحدة.
ــ تشديد امتحانات القبول بالجامعات في ظل مجانية التعليم لانتقاء الأفضل وتحقيق حراك اجتماعي.
ــ وزارة الصناعة تشرف على التعليم الفني والمهني ووزارة التجارة تشرف على التعليم التجاري وجعل التدريب العملي جزء ومكون وشرط للحصول على شهادة النجاح.
ــ ربط المسؤولية المجتمعية بالتعليم.
غلاف كتاب “السياسات التعليمية في إسرائيل وإيران (مقاربة عربية)”