استصعب على الدرس الفلسفي الحداثي دائمًا أن يشق طريقه وسط الموج الهائج من الرفض ـ على مستوى النظام السياسي الإيراني – القاطع لدعوات إعمال العقل وربط الدرس الفلسفي الإيراني بغيره من المناهج الفلسفية وبالتحديد بالمنهج الحداثي، وقد عانى الكثير من الفلاسفة الإيرانيين في أثناء محاولاتهم تقديم نموذج الحداثة للمجتمع الفلسفي الإيراني، ذلك الذي كان يلقى رفضًا باتًا من الأصوليين وأصحاب المدارس الفلسفية المتشددة، فغاب في غياهب السجون عدد من المفكرين والفلاسفة بسبب دعواتهم الحداثية.
السلطة والفلاسفة
فقد قضت السلطات الإيرانية بنفي عدد كبير من هؤلاء الفلاسفة تجنبًا لتأثير أفكارهم الحداثية في الفكر الفلسفي الإيراني، ولعل أبرز الفلاسفة الذين عانوا من سطوة النظام في إيران وتم التنكيل بهم في السجون والمعتقلات فضلًا عن قرارات النفي، الفيلسوف الإيراني رامين جاهانبيغلو الذي أودعته السلطات الإيرانية سجن إيفين في 28 أبريل عام 2006، عقب عودته من العاصمة الهندية نيودلهي، في مطار طهران؛ وذلك بسبب دعوته الانخراط في الحوار الثقافي مع الغرب، وقد تم نفيه بعد ذلك إلى كندا بعد الإفراج عنه.
الأمر لا يقف عند «جاهانبيغلو»، الذي اشتهر بمواقفه الداعمة للديمقراطية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تلك المواقف التي تسببت في سخط النظام الإيراني، بل تعدى ذلك إلى الفيلسوف الإيراني محمد رضا نيكفر الذي فضل اللجوء إلى ألمانيا بعد أن رفضته مدارس الفكر في طهران بسبب أفكاره.
فضلًا عن الفيلسوف الإيراني الأصل المقيم في الولايات المتحدة منذ 2007 محسن كاديفار، الذي كانت كتاباته تهاجم النظام الإيراني بشكل أساسي بسبب ما وصفه بـ”التهور الزائد في إقصاء الأكاديميين”، إذ يقول في إحدى مقالاته: “في الوقت الراهن نعيش مرحلة التصفية الرابعة في النظام الأكاديمي في إيران”.
أما المفكر والفيلسوف الإيراني السيد حسين نصر مؤسس الأكاديمية الإيرانية الفلسفية، والذي رغم أن فلسفته تتضمن نقدا ورفضا شديدا للحداثة وتأثيرها السلبي على روح الإنسان، إلا أنه تعذر عليه العودة إلى بلاده، بعد انتصار الثورة الإيرانية في عام 1979، فاستكمل حياته العلمية والبحثية في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة.
المساواة بين الحداثة والعمالة
في أغلب الأحوال كان مصير الفيلسوف الإيراني رامان جاهانبيغلو محط اهتمام عدد كبير من الكتاب والسياسيين الغربيين وبالتحديد الفرنسيين، ولعل أبرزهم جورج ستينر، وبيير فيدال ناكي، وتوني نيغري، وريشار رورتي، وبرنار كاسينن، وميشيل روكار، الذين تقدموا بطلب مشفوع بعدد غير قليل من التوقيعات للحكومة الإيرانية للاستفسار عن سبب اعتقال «جاهانبيغلو»، وذلك طبقًا للنداء الذي نسقته مجلة «إسبري» التي يشارك فيها رامين جاهانبيغلو بكتاباته السياسية، إذ تذل توقيعات ذلك النداء كل من مدير مجلة إسبري أوليفييه مونجين، والقاص جورج ستينر، والعالم الاجتماعي إدغر مورين، مدير المركز الوطني للبحث العلمي، والمؤرخ بيير فيدال ناكي، والفيلسوف الإيطالي توني نيغري، والفيلسوف الأميركي ريشار رورتي، ورئيس الوزراء الفرنسي السابق ميشيل روكار، وبرنار كاسين مدير لوموند دبلوماتيك.
في أثناء الإعداد لتلك المذكرة كانت السلطات الإيرانية قد نسقت جيدًا التهمة التي كان من المفترض أن يتهم بها رامين جاهانبيغلو، وقد ربطت السلطات في إيران تهمة الفيلسوف الإيراني بالجاسوسية والعمالة للخارج لمجرد أنه يدعو للتواصل مع الغرب والترابط بين الحضارات، وهو ما أكده وزير الاستخبارات الإيراني في ذلك الوقت غلام حسين محسني إيجي، وبالفعل كانت تلك التهمة بمثابة الشرارة الأولى التي جعلت كل الصحف الأصولية المتشددة تبدأ هجومها على “جاهانبيغلو” بالعمالة وترابط الصلات بينه وبين النظام الإمبراطوري السابق في الخارج.
مؤتمر اليوم العالمي للفلسفة
في عام 2008 أعلنت منظمة اليونسكو إرساء تنظيم اليوم العالمي للفلسفة والذي تقرر إقامته عام 2010 لبحث أوضاع إيران، ولكن لم تكد تهنئ إيران بتنظيم ذلك الحدث الضخم، حتى سارعت المنظمة الدولية فورًا إلى سحب رعايتها للمؤتمر، وذلك بعد حجم التراجع الكبير من المشاركين الغربيين في المؤتمر الذين اعتبروا أنه سيتم إساءة استغلاله لصالح النظام، إذ كان سيشكل فائدة لدعاية النظام الذي يمنع بشكل منظم التبادل الفكري الحر ويقمع المفكرين منذ وقت طويل في بلد تزداد عزلته يومًا من بعد يوم.
لكن حادث اعتقال المفكر الإيراني “جهانبيغلو” كان له صدى خاصا على ذلك المؤتمر، إذ دعا الفيلسوف الألماني أوتفريد هوفه لمقاطعة المؤتمر بعد حادث اعتقال ونفي الفيلسوف الإيراني جاهانبيغلو، وفي هذه الأثناء تراجع عدد المؤيدين في الغرب للمشاركة في المؤتمر، وما زاد في إمعان الرفض تلك الرسالة التي أرسلها رامين جاهانبيغلو في يناير 2010 إلى المديرة العامة لمنظمة اليونسكو إيرينا بوكوفا، والتي أكد فيها على أن “الفلاسفة والمفكرين في إيران في مواجهة حكم إرهابي، بات يعشش الآن حتى في عقول الطلبة والأساتذة ويحول دون تبادل الآراء بحرية حتى في الحلقات الدراسية”.
وقد كان لأحداث 2009 دورها في إقناع منظمة اليونسكو والمفكرين الغربيين بضرورة إعادة النظر في تنظيم إيران لهذا الحدث المهم، إذ استمرت التحضيرات لذلك المؤتمر بينما ازدادت شدة الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في صيف 2009، بعد أن وقع مئات الطلاب ضحية لتعذيب الأجهزة الأمنية القمعية وسقط عشرات القتلى منهم، ما مثل عاملا رئيسا في استبعاد منظمة اليونسكو إيران من تنظيم المؤتمر.
ومع كل عوامل الضغط تلك، أفرجت السلطات الإيرانية عن جهانبيغلو وقررت نفيه إلى كندا، وبدأ الفيلسوف الإيراني بعد ذلك تبني أفكار الشباب العربي آنذاك الداعية إلى ما سمي بعد ذلك باسم “الربيع العربي”، والذي بدأ بتونس ثم مصر، ثم تلاه ما عرف بـ”ثورة تويتر” في إيران، وذكر جاهانبيغلو في أحد لقاءاته الصحفية أن النظام الإيراني استعمل القوة المفرطة في التعامل مع المواطنين.
وقال بالحرف الواحد: “الحكومة في إيران استعملت الكثير من العنف، وهو ما لم نشاهد مثله لا في تونس ولا في مصر، لكن الذي يهمني هو نقاط التقاطع بين هذه البلدان الثلاثة، وأعني بها إيران وتونس ومصر، التي تضم مجتمعاتها أعدادًا كبيرة من الشبان الحالمين بالتغيير والحاملين مستوى ثقافي ومعرفي محترم، وهم الشبان الذين يجيدون استعمال وسائل الاتصال الحديثة مثل فيسبوك وتويتر، وعلينا بالمناسبة أن لا ننسى بأن الشبان الإيرانيين كانوا البادئين باستغلال هذه الفضاءات الافتراضية في الترويج لاحتجاجاتهم على ما اعتبروه تزويرًا للانتخابات الرئاسية في 2009، وهي الحركة التي اشتهرت فيما بعد بـ “ثورة تويتر” أو “الحركة الخضراء”.
خاتمة
يخشى النظام الإيراني دائمًا من التطور المغلف بفكرة الحداثة، خاصة مع اتهامه كل الفلاسفة والمفكرين العاملين في هذا المضمار أولئك الذين ينادون بالديمقراطية وربط المدارس الفلسفية الإيرانية بنظيراتها الغربية، بالعمالة والجاسوسية والعمل لصالح جهات أجنبية معادية؛ ما يدفع هؤلاء الفلاسفة والمفكرين إلى التوجه إلى الخارج وبالتحديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا للعمل بالحرية التي يطلبونها، ويؤدي ذلك كنتيجة منطقية إلى تراجع فكري حاد على إثر هجرة الفلاسفة المنادين بالربط بين إيران ومحيطها الإقليمي بدلًا من حالة العزلة الفكرية والسياسية التي يعاني منها المجتمع الإيراني منذ صعود النظام الحالي بعد يناير 1979.