مع تصاعد حدة التوتر في الخليج العربي على خلفية دخول العقوبات الأمريكية على إيران صورتها الكاملة في ضوء رفع الاستثناءات عن الدول الثماني المستوردة للنفط من إيران ولجوء الأخيرة إلى التصعيد السياسي من خلال إعلانها خفض التزاماتها إزاء خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” يوم 8 مايو الجاري، وإعلان قادة إسران أنه “إذا مُنعت إيران من تصدير نفطها فإن الدول الأخرى لن تصدر النفط”، بالإضافة إلى اتهام جهات أمريكية طهران بضلوعها في حادثي تخريب السفن التجارية قبالة سواحل الفجيرة بالإمارات العربية المتحدة يوم الأحد 12 مايو الراهن واستهداف منصات النفط في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية بعد ذلك بيومين؛ تبرز الحاجة إلى التعرف على طبيعة العلاقات الإيرانية ـ الخليجية واستقراء مستقبلها في ظل تلك التفاعلات المتداخلة والأحداث المتسارعة.
المستوى الأول: محددات العلاقات الإيرانية ـ الخليجية
تنهض العلاقات الإيرانية ـ الخليجية على عدد من المحددات المباشرة بين الطرفين، وتتمثل في:
- العامل التاريخي، إذ تنظر النخب الحاكمة والأوساط الثقافية والسياسية في إيران إلى الدول الخليجية نظرة استعلائية مبنية على الماضي القديم، باعتبار أن الدول الخليجية كانت في يوم من الأيام تحت حكم الإمبراطورية الفارسية إلى جانب إن تلك الدول قامت بالفتح الإسلامي لبلاد فارس و”أذلت” الكبرياء القومي لدى الفرس، فضلا عن ذلك لا تنسى إيران لعدد من الدول الخليجية وعلى رأسها “الكويت” أنها شاركت في كثير من المعارك الفاصلة في الحروب العربية ـ الفارسية وأشهرها موقعة “ذات السلاسل” التي قادة الصحابي الجليل خالد بن الوليد ووقعت في منطقة كاظمة على سبيل التحديد، وفي التاريخ المعاصر وقفت الدول الخليجية بما يشبه الإجماع ضد الجمهورية الإسلامية في حربها مع الجيش العربي العراقي إبان حرب الخليج الأولى.
- قضية الإرهاب، إذ تتوافق إيران مع الدول الخليجية في مسألة مواجهة الجماعات الراديكالية وعلى رأسها تنظيم القاعدة وداعش، ذلك أن معظم الدول الخليجية انخرطت في التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش وبالرغم من امتناع إيران عن المشاركة في هذا التحالف إلا إنها قامت بحملات جوية وضربات صاروخية استهدفت عددا من معاقل التنظيم في كل من العراق وسوريا.
- الموقع الجغرافي، حيث تعد إيران دولة جوار مباشر لدول الخليج العربي، وتمتلك سواحل مترامية على طول الضفة الشرقية للخليج العربي. وقد أسهم هذا القرب الجغرافي في إثارة عدد من المشكلات بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بالحدود البحرية وما تحتويه من ثروات طبيعية ولاسيما النفط والغاز وأبرز تلك المشكلات مشكلة حقل “الدرة” مع كل من الكويت والسعودية ومشكلة حقل “الشمال” مع قطر.
- الأبعاد السكانية والاجتماعية فقد ساعد الجوار الجغرافي بين إيران ودول الخليج على سهولة التنقل والتواصل بين ضفتي الخليج، ومن ثم أصبحت هناك امتدادات ديمجرافية وروابط اجتماعية بين الجانبين، حيث يوجد العديد من العائلات والأسر الخليجية ذات أصول إيرانية، كما هي الحال في البحرين والكويت، والإمارات، والعكس، حيث يوجد في إيران الكثير من العائلات ذات الأصول العربية وخاصة في محافظات الجنوب، “هرمزكان” و”فارس” على سبيل المثال، هذا فضلا عن وجود القبائل العربية الخالصة في إقليم الأحواز العربي الذي ضمته إيران بالقوة المسلحة في العام 1925 بعد أن كان إمارة مستقلة تحت قيادة الأمير خزعل الكعبي.
- العلاقات الاقتصادية إذ تعد إيران شريكا تجاريا مهما لبعض دول الخليج، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، وتعد الإمارات شريكًا اقتصاديا لإيران من الدرجة الأولى، وتشير الإحصاءات الإيرانية إلى وجود نحو 8 آلاف شركة إيرانية تمارس أنشطة تجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب علاقات تجارية موسعة مع كل من قطر وسلطنة عمان ودول خليجية أخرى.
- التشابكات المذهبية والتي تتمثل في الارتباط بين أبناء الطائفة الشيعية في عدد من الدول الخليجية وبين إيران باعتبارها أكبر دولة إسلامية شيعية في العالم، قائمة على حماية “المستضعفين” وفقا للمادة 156 من الدستور، في إشارة إلى الشيعة في كل دول العالم وعلى رأسها دول الخليج وهو ما جعل إيران تؤوي المعارضة المسلحة في البحرين والخلايا الإرهابية الكويتية، قضية “العبدلي” على سبيل المثال.
المستوى الثاني: تطور العلاقات الخليجية ـ الإيرانية
مرت العلاقات بين الدول العربية الخليجية وإيران بعدد من مراحل التطور خاصة في ظل نظام الجهورية الإسلامية ويمكن توضيح ذلك من خلال المراحل التالية:
المرحلة الأولى: توتر ما بعد الثورة
فقد اتسمت العلاقات الخليجية – الإيرانية بعد نجاح الثورة الإيرانية في العام 1979 بالتحفظ الخليجي والعداء الإيراني خاصة أن الدول العربية الخليجية كانت إحدى نقاط الارتكاز التي يريد النظام الإيراني الاعتماد عليها لتصدير أفكار الثورة.
ومع اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية وجدت دول الخليج العربية الست المتبقية في الضفة الغربية للخليج العربي، المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة الكويت ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، أن تلك الحرب تمثل خطرا على وجودها، وهو ما استدعى الدعوة إلى تأسيس كيان عربي خليجي موحد في وجه التهديدات المحتملة الواردة من الضفة الشرقية للخليج، خاصة أن الدول العربية في ذلك الوقت كانت قد قاطعت جمهورية مصر العربية على خلفية توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد مع إسرائيل، ونقلت مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من ميدان التحرير في وسط العاصمة المصرية، القاهرة، إلى الجمهورية التونسية.
ولقد رأت الدول العربية الخليجية أن خروج مصر من معادلة القوة في مواجهة إيران وانشغال العراق في حرب لا يمكن التنبؤ بنتائجها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وضع الدول العربية في مأزق، إذ إن تحييد أكبر دولتين عربيتين لا يصب بالقطع في صالح الدول والممالك والإمارات العربية الصغيرة؛ وعلى هذا النحو كان تأسيس مجلس التعاون الخليجي أحد مضاعفات حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. بعبارة أخرى كانت إيران بسلوكها الإقليمي الجديد بعد نجاح الثورة في العام 1979 أبرز أسباب التفكير في والدعوة إلى تأسيس تكتل عربي خليجي يحافظ على المصالح الخليجية في ظل تناحر القوى في هذا الإقليم.
في هذا الوقت كانت الدول العربية الخليجية تستشعر الخطر الإيراني والتهديد المحتمل الوارد من طهران فعليا، وعلى رأس تلك الدول المملكة العربية السعودية ودولة الكويت إلى جانب مملكة البحرين وسلطنة عمان والإمارات بطبيعة الحال، وكان لكل دولة من تلك الدول أسبابها الخاصة التي تدعوها إلى التكتل والتحالف في هذه المنظمة الإقليمية، خاصة أن الحديث الرسمي الإيراني في الأشهر الأولى للثورة استهدف الدول العربية الخليجية كنقطة ارتكاز أولى في استراتيجية مبدأ “تصدير الثورة”، جنبا إلى جانب مع أحاديث مرشد الثورة، روح الله الموسوي الخميني، المتكررة عن ضرورة السيطرة على الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية ووضعهما تحت قيادة إسلامية مشتركة، ضمن إطار مبدأ “تدويل” الأماكن الإسلامية المقدسة.
وهو مطلب يتجدد في إيران عند كل أزمة إيرانية ـ عربية، كورقة من ورقات الضغط الإيراني على المملكة العربية السعودية نظرا لمواقفها المدافعة عن حقوق جيرانها ضد الأطماع الإيرانية، وبالتحديد مملكة البحرين التي تدّعي إيران بأحقيتها في السيطرة عليها، على اعتبار أنها إحدى محافظات إيران في التقسيم الإداري الداخلي منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي.
ولقد اتخذت إيران موقفا مضادا من تأسيس مجلس التعاون الخليجي، وكان هذا طبيعيا في ضوء نظرة إيران إلى تحزب أغلب الدول العربية إلى جانب العراق في حرب الخليج الأولى، ولم يكن مفهوما في إيران أن إنشاء المجلس ليس موجها لحماية الخليج من إيران فحسب بل لحمايته أيضا من العراق، على اعتبار أن الجمهورية العراقية كانت تتعامل بنوع من الوصايا على الدول الخليجية الست الأخرى، وكان الرئيس العراقي صدام حسين يسعى لتكوين تحالف خليجي بقيادة العراق لمواجهة إيران في مرحلة ما بعد الثورة.
وتبنت الجمهوية الإسلامية الإيرانية نظرة سلبية تجاه هذه الدول ونظرت إليها نظرة شديدة السلبية على اعتبار أنها حلف عسكري موجه ضدها وليس هناك سبب للاعتقاد بأنها موجهة ضد إسرائيل واعتبرتها أداة لإبعاد إيران عن شؤون المنطقة.
كما أن إنشاء مجلس التعاون الخليجي مثل خطوة أولية للاندماج الاقتصادي والسياسي العربي ما شكل وضعا غير ملائم للمصالح الإيرانية، بل امتد الأمر إلى أن نظرت إيران إلى هذا الكيان الجديد كونه غطاء لمد النفوذ السعودي، إلا إنه على المستوى العملي لم يؤثر إنشاء هذه المنظمة على علاقات إيران بالدول الأعضاء بشكل منفرد، إذ كان لكل منها اقترابها المستقل للتعامل والارتباط بالجمهورية الإسلامية كل على حدة.
المرحلة الثانية: الهدوء الحذر
بدأت تلك المرحلة في أعقاب الغزو العراقي لدولة الكويت في 2 أغسطس 1990، واستمر هذا الهدوء حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، خاصة أن إيران كانت بطبيعة الحال من الدول الرافضة لهذا الغزو، غير أن القضايا الرئيسة بين الخليج وإيران ظلت عالقة وعلى رأسها مسألة تصدير الأفكار الثورية القائمة على ولاية الفقيه واحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) وأدت تلك القضايا الخلافية إلى عرقلة سبل إقامة علاقات مستديمة بين الطرفين.
مع وصول التيار الإصلاحي للسلطة في إيران إثر فوز محمد خاتمي بالانتخابات الرئاسية عام 1997، شهدت العلاقات التي تربط طهران بالعواصم الخليجية، وفي مقدمتها الرياض، تطورات إيجابية وانفتاحًا غير مسبوق، سواء على صعيد الخطاب السياسي أو السلوك العملي الإيراني، ذلك أن خاتمي حاول تعزيز سياسة رفسنجاني المنفتحة على الخليج بل وضم إلى الخليج دولا أخرى مثل مصر والأردن.
في تلك المرحلة كان لإيران تمثيل دبلوماسي رفيع المستوى في العواصم الخليجية، لدرجة أنه كان لإيران سفيرين في المملكة العربية السعودية أحدهما في العاصمة الرياض والآخر في جدة حيث مقر منظمة التعاون الإسلامي.
وبعودة المحافظين إلى السلطة في انتخابات عام 2005 من خلال فوز محمود أحمدي نجاد، فقد عاد التوتر ليخيم من جديد على مسار العلاقات، واستمرت حالة المد والجزر بين الجانبين منذ ذلك الحين وخلال السنوات اللاحقة، غير أن الطابع الاستفزازي في الخطاب والسلوك السياسي الإيراني اتخذ منحى نوعيا بالتزامن مع المفاوضات التي أطلقها الغرب بشأن برنامج طهران النووي، والتي أسفرت عن توقيع اتفاق تاريخي بين الجانبين في هذا الشأن يوم 14 يوليو/ تموز بالعام 2015 وهو ما يعرف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة” أو الاتفاق النووي.
المرحلة الثالة: مرحلة القطيعة
بدأت تلك المرحلة بين مارس 2011 وهو موعد اندلاع الثورة السورية وتناقض مواقف طهران والخليج حول انتقال السلطة وبقاء نظام الرئيس بشار الأسد، وخريف العام 2014 عندما انخرطت إيران في دعم الانقلاب الحوثي على الشرعية في اليمن وما تبعه من توغل إيراني واسع في أغلب الدول العربية جنبا إلى جنب مع مباحثات الاتفاق النووي، وهو ما عنى أن إيران تريد أن تحصل على أكبر مكاسب ميدانية وقت التفاوض حتى إذا ما تم الاتفاق ـ وهو ما حدث بالفعل ـ يكون وجودها في العواصم العربية أمرا واقعا لا يمكن التفاوض بشأنه.
ويمكن إبراز تدرج محطات القطيعة كالتالي:
- 11 أكتوبر 2011.. حين قام المواطنان الإيرانيان غلام شكوري ومنصور أربابسيار بالشروع في اغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة عادل الجبير، ووقتها قال الادعاء الأمريكي إن الحكومة الإيرانية متورطة في الأمر وتم تسمية العملية في وسائل الإعلام “بمؤامرة الاغتيال الإيرانية ” و”مؤامرة إيران الإرهابية” و”عملية التحالف الأحمر”، وفقا للقضاء الأمريكي.
- 25 مارس 2015.. حين أطلقت عدد من الدول العربية والإسلامية بقيادة خليجية عملية عاصفة الحزم ضد الانقلاب الحوثي ولإعادة الشرعية المتمثلة في حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي.
- 26 أغسطس 2015.. الاعتداء الإيراني على حقل “الدرة” النفطي الكويتي، ووقتها استدعت الخارجية الكويتية القائم بأعمال السفارة الإيرانية لديها احتجاجا على طرح إيران مشروعين لتطوير الحقل.
- 2 يناير 2016.. حين أصدر القضاء السعودي حكما بإعدام القيادي الشيعي نمر باقر النمر ومجموعة معه، ما أدى إلى ردة فعل إيرانية غاضبة أعقبتها اعتداءات قام بها تنظيم الباسيج على السفارة السعودية في العاصمة طهران والقنصلية السعودية في مدينة مشهد عاصمة محافظة خراسان رضوي.
- 3 يناير 2016.. قررت أغلب الدول العربية قطع أو تخفيض علاقتها الدبلوماسية مع إيران على خلفية الاعتداءات على المقرات الدبلوماسية السعودية. وقررت البحرين قطع العلاقات بينما قررت الكويت استدعاء سفير الكويت لدى إيران، في حين قررت الإمارات تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إيران إلى مستوى قائم بالأعمال وتخفيض عدد الدبلوماسيين الإيرانيين في الدولة، فيما اكتفت قطر بالتنديد واستنكار الهجوم، واكتفت كذلك سلطنة عمان بالإعراب عن أسفها للهجوم.
- 20 يناير 2017.. حين صعد الرئيس دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية بأفكاره المناهضة لإيران وتأييده للدول العربية في صراعها مع إيران ثم تأييد أغلب الدول الخليجية لسياسات ترامب العقابية تجاه إيران.
- 5 يونيو 2017.. قرار ثلاث دول خليجية (السعودية ـ الإمارات ـ البحرين) إلى جانب مصر مقاطعة قطر وإعلان إيران مساندة قطر في الأزمة.
- 8 مايو 2018.. خروج ترامب من الاتفاق النووي مع إيران وتأييد الدول الخليجية للقرار.
- 7 أغسطس 2018.. موعد إطلاق الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران وتأييد عدد من الدول الخليجية للقرار.
- 8 إبريل 2019.. إدراج الولايات المتحدة الأمريكية مؤسسة الحرس الثوري الإيراني على قوائم التنظيمات الإرهابية وتأييد الدول الخليجي للقرار.
المستوى الثالث: العلاقات الإيرانية ـ الخليجية في ضوء استراتيجيات إيران الثلاث
1 ـ استراتيجية الخليج العربي
يعد الخليج العربي هو البعد الأهم للسياسة الإيرانية خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية؛ لأنه مثل تماشي المصالح الأيديولوجية والمصالح السياسية جنبا إلى جنب، ويمثل المصالح الأيديولوجية نظرا لانتشار أقليات شيعية في كل بلدان الخليج بلا استثناء، فضلا عن وجود الكتلة الشيعية الأكبر في بلد عربي مهم هو العراق، خاضت معه إيران حربا مروعة استمرت 8 سنوات، ما يعني إمكانية الاختراق والتأثير عن طريق استخلاص مواقف شعبية ـ من تلك الأقليات ـ موالية لإيران ومؤيدة لخطها، والواقع أن إيران أحرزت نجاحا كبيرا في تلك الزاوية.
إضافة إلى ذلك مثل الخليج العربي لإيران تاريخيا خط الدفاع الأول للأمن القومي لهضبة فارس وقد اعتاد الفرس تاريخيا على الهبوط من الهضبة الضيقة إلى الوادي العربي الفسيح في الخليج، إما للتجارة أو الرعي أو للحرب، وفي العصور القديمة كان ملوك فارس يستأجرون بعض مقاتلي القبائل الخليجية للحرب معهم في حروبهم ضد الروم على سبيل المثال.
كما أن الخليج هو الكتلة الجغرافية المشرفة على ممرات الطاقة وهو صاحب أكبر قدر من إنتاج واحتياطي النفط عبر التاريخ وتشترك إيران مع دولة خليجية (قطر) في أكبر حقل غازي في العالم (يسمى في قطر حقل الشمال وفي إيران يسمى حقل بارس الجنوبي).
لذلك حرص النظام الإيراني على بناء علاقات معتدلة مع تلك الدول بالكامل، حتى يناير 2016، وكان لديه سفراء في كل عاصمة من تلك العواصم وسفيرين في المملكة العربية السعودية أحدهما في الرياض والآخر في جدة لدى منظمة التعاون الإسلامي.
مع ذلك ينظر حكام إيران إلى دول الخليج باعتبارها دول دون المستوى الحضاري، ويكتنف السلوك الإيراني تجاه الخليج، حس الفوقية والاستعلاء، باعتبار أن العرب دهماء والأتراك بسطاء لا حضارة لهم، وهو شعور عميق في السيكولوجية السياسية الفارسية يميط اللثام عن الكوزمولوجيا التي ينظرون بها إلى الجيران على الشاطي الغربي من الخليج.
التناقض الغريب في شخصية الحاكم الفارسي ينكشف تجاه نظرته إزاء الدول الخليجية بشكل لا يقبل التأويل إذ تعتمد رؤيته التقيمية لجيرانه على عاملين يناقضان بعضهما البعض، وهما:
تلاشي الإمبراطورية الفارسية التي كانت تحكم كل تلك الأراضي العربية، بما فيها مصر عام 525 قبل الميلاد، بما تولد عنها من شعور بالكبرياء والعظمة والخيلاء.
انعدام مطلق للشعور بالأمن؛ ذلك أن بلاد فارس احتلت على مدى التاريخ في غير ما مرة، الأولى من المغول 1219م، والثانية من الروس 1816م، إلى جانب الفتح العربي الإسلامي.
لذلك يرى صناع القرار في طهران أن بلادهم محط تهديد على الدوام لذلك يجب أن يدافعوا عنها بالتحالفات مع الأقوياء والتوسعات على حساب الشعوب الأخرى وعلى رأسها بطبيعة الحال الشعوب الخليجية.
2 ـ استراتيجية المشرق العربي
مثل المشرق العربي الاستراتيجية المثلى الأكثر ديمومة لصناع السياسات العليا بدوائر اتخاذ القرار في إيران، لاسيما مع وجود نظام بعثي في أهم دول المشرق العربي وهي سوريا، وذلك لعدد من الاعتبارات:
أولا: كان نظام حافظ الأسد (22 فبراير 1971 – 10 يونيو 2000) من أهم المؤيدين للثورة الإيرانية في العام 1979م.
ثانيا: أنه تجمعه بإيران رابطة الممانعة ضد المحور الإسرائيلي.
ثالثا: أنه إحدى محطات الخط البري الواصل بين إيران وإسرائيل.
رابعا: وجود علاقات قوية بين دمشق وموسكو تلك التي حاولت إيران تحييدها نظرا لتاريخ الحرب الطويل بينهما.
خامسا: وجود العتبات الزينبية المقدسة التي يكسب تعظيمها تكريسا لمكانة النظام لدى مؤيديه داخليا وخارجيا.
وعملت إيران كذلك على تأسيس حزب الله في جنوبي لبنان، ومن خلاله نجحت بالفعل في التأثير ليس في سياسة بيروت الداخلية والخارجية فحسب؛ بل كذلك في كثير من سياسات المشرق العربي، ونظرا للبعد الجغرافي النسبي للمشرق العربي عن الخليج العربي بالنسبة لإيران فقد اتسم سلوكها بالمغامرة في كثير من مجالات انخراطها في هذا الإقليم، كما اتسم سلوكها باللا واقعية في كثير من الأحيان؛ لذلك لم تأبه بنشوب حرب بين إسرائيل وحزب الله كبدت لبنان خسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتية، وعرفت بحرب تموز 2006.
اللافت للنظر أن السياسات الإيرانية في المشرق العربي اتصفت كذلك بالبراجماتية الشديدة، لأنها شبكت علاقات مع نظامين لا تجمعهما أية روابط أو منطلقات فكرية مشتركة، فقد وثقت علاقاتها بنظام بعثي علماني في دمشق ونظام ديني شيعي في العراق في مرحلة ما بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
بالرغم من التخوف السوري من قيام نظام ديني شيعي في العراق المجاور لها؛ إلا إن اجتذاب النظام الجديد إلى المحور الذي أنشأته إيران أثبت سوء تقدير عائلة الأسد في دمشق، لأن نظام المالكي، وحيدر العبادي من بعده، كانا من أكبر الأنظمة دعما لسوريا في مرحلة الربيع العربي وما بعدها؛ ليس إيمانا بالنظام البعثي العلماني في دمشق، ولكن من باب التماهي مع متطلبات الاستراتيجية الإيرانية في المشرق العربي.
3 ـ استراتيجية أوراسيا والقوقاز
بالرغم من أن استراتيجية إيران تجاه منطقة آسيا الوسطى والقوقاز لا تنطوي على أهمية مباشرة للشعوب العربية إلا إنها تساعد على فهم الطبيعة الآنية لنظام الحكم في طهران، ذلك أن مواقف طهران من كل الدول الواقعة في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز دائما ما تتسم بالواقعية والبراجماتية وتغليب مصالح الأمن والتجارة على كل المصالح الأخرى.
للتدليل على أهمية تلك المنطقة لدى إيران يمكن القول إن كل مراكز الدراسات الكبرى التابعة للدولة، وبالأخص معهد دراسات وزارة الخارجية، به وحدات وخبراء متخصصين في شؤون آسيا الوسطى والقوقاز، بل ويصدر مجلات دورية فيها تقديرات موقف ودراسات متعلقة بهذا الإقليم ما يدل على أهميته لدى صناع القرار.
الأهم من ذلك أن العلاقات الإيرانية بدول تلك المتطقة نادرا ما يشوبها العداء أو التوتر؛ نظرا لحرص إيران على عدم المغامرة لأنها بذلك سوف تساهم في تعزيز عزلتها الثقافية والسياسية، كما أنها لا تبتغي إغضاب حليفها الروسي الذي يعتبر تلك المنطقة تاريخيا بمثابة فناء خلفي للمناورة ولعب الأدوار القارية الكبرى.
لذلك تعاملت إيران ببراجماتية شديدة مع واحدة من أكثر القضايا حساسية لدى العالم الإسلامي وهي المسألة الشيشانية التي نشبت في عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني بالعام 1994م، واكتفت فحسب بإصدار البيانات الخجولة التي تعد المسألة شأنا داخليا روسيا، وعلى العكس مما فعلت في اليمن أو سوريا أو العراق أو لبنان أو غزة، لم تبادر حتى بتشكيل ميليشات أو أحلاف أو تكتلات لمواجهة حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تعرض لها مسلمو الشيشان.
يدلنا هذا التوجه الإيراني على أن المواقف الإيرانية تجاه دول الخليج العربي والمشرق العربي لا علاقة لها بالنزعة الدينية كما يتم الترويج له، بل إن منبعها مصالح سياسية لا يمكن فهم دوافعها إلا بتتبع الماضي الطويل لبلاد فارس.
المستوى الرابع: مستقبل العلاقات الخليجية ـ الإيرانية
ما سبق كان ضروريا لفهم طبيعة توجهات النظام في إيران، وبالتالي يمكن بسهولة معرفة إلى أين تتجه الأوضاع الداخلية لإيران خاصة بعد نشوب المظاهرات التي عمت مساحات جغرافية واسعة من البلاد مساء الأربعاء 27 ديسمبر 2017 وأثر تطورات الأمور الداخلية على مستقبل العلاقات الخليجية ـ الإيرانية.
ويمكن قراءة هذا المستقبل من خلال 3 أنظار تحليلية:
1 ـ الأوضاع الداخلية في إيران
يمكن التنبؤ بأن حالة الشقاق بين النخبة الحاكمة في طهران وبين قطاعات كبيرة من المجتمع آخذة في الاتساع وظهر ذلك من خلال المطالبة رأسا بإسقاط النظام برمته وحرق صور المرشد الأعلى علي خامنئي وحرق صور الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثوري، بما يمثله ذلك من هدم لصورة البطل القومي ـ داحر تنظيم داعش ـ تلك التي حاول النظام الترويج لها على مدى السنوات الأخيرة.
لكن الأهم من كل ذلك هو الفجوة العميقة بين تياري الإصلاحيين والمحافظين، تلك الفجوة التي تنذر بتمزق عروة النظام بالكامل؛ لأن المرشد الأعلى علي خامنئي بنى فلسفته في الحكم على هندسة طبيعة نسبية معقدة من الصراعات، بحيث يمثل هو في النهاية المرجع الأعلى والسلطة الأخيرة التي يعود إليها الجميع في حالات التخاصم والفراق والشتات.
لكن الأحداث الأخيرة أظهرت إلى أي مدى أصبحت تلك السياسة غير مجدية، وكادت المظاهرات التي شجع عليها بعض من أتباع المرشد وأقرب المقربين منه وهو آية الله أحمد علم الهدى، ممثل القيادة في مشهد، عاصمة محافظة خراسان رضوي، تتحول إلى عمل ثوري يطيح بالنظام برمته بمحافظيه وإصلاحييه.
إلى جانب ما سبق لا يمكن التعويل على الرئيس حسن روحاني، فالرجل فقد قسما كبيرا من صدقيته لدى الشارع الإيراني وكشف أرشيف تصريحاته للصحف عن مواقف غير مؤيدة لأي تعبير سلمي عن الرأي، حتى منذ أن كان يشغل منصب الأمين العام لـ”المجلس الأعلى للأمن القومي”، ولذلك أبدى رفضا قاطعا لتحرك الجماهير والتعبير عن رأيها في الحركتين الاحتجاجيتين الكبريين السابقتين في 1999 و2009.
ففي يوم انتهاء مظاهرات العام 1999 خاطب حشداً موالياً للنظام واتهم المتظاهرين بأنهم يخدمون مخططاً أجنبياً يهدف إلى إسقاط النظام، وقال بالحرف الواحد: “أطلق العدو هجوماً على الحجر الأساس للهيكل الأبوي للثورة، واستهدف الحرمة المقدسة لولاية الفقيه”. وعندما سُئل عن رأيه في احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، قال: “إن أولئك المتظاهرين ملزمون بالتصرف ضمن حدود القانون”، وفي عام 2011 و”صف الحركة بأنها تحريضية”.
ويشير الصراع الداخلي بين مؤسسة رئاسة الجمهورية ومؤسسة الحرس الثوري إلى أن النظام الحالي يواجه أزمة ثقة عنيفة لدى المجتمع وأن التظاهرات التي ضربت طول البلاد وعرضها في الأيام الأخيرة ليست سوى نواة لحركة ثورية بالغة الضخامة سوف تقتلع النظام من جذوره، وأن سقوط النظام أصبح فقط مسألة وقت.
للتدليل على ذلك فقد نشر مستشار روحاني، حسام الدین آشنا، استطلاعاً للرأي من خلال حسابه على موقع التغريدات المصغرة “تويتر”، طلب فيه رأي الإيرانيين حول ما إذا كانوا مستعدين لوقف الاحتجاجات مقابل خطة عمل جديدة لتلبية مطالبهم، فصوت ما يقرب من 60 في المئة من المشاركين في الاستطلاع البالغ عددهم 17,500 بالرفض ضد المقترح، وهو ما جعله يحذف الاستطلاع.
2 ـ المواجهة بورقة مضيق هرمز
على مدى الأربعين عاما الماضية استخدمت إيران في العديد من المناسبات استراتيجية تهديد المصالح الخليجية من خلال التوعد بإغلاق مضيق هرمز وحرمان دول الخليج من تصدير نفطها إلى العالم ظنا منها أن هذه الورقة ربما تمثل ضغطا على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي لا يقبل بتعطيل الملاحة في أهم ممر ملاحي في العالم.
والحقيقة أن إيران دأبت على إثارة تلك القضية أكثر من مرة منها وقت إجراء المفاوضات النووية وكم من مرة تلك التي تحدث فيها وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن أن إيران هي “الحامي الوحيد” لأمن الطاقة في المنطقة.
وخلال الجولة الأوروبية للرئيس الإيراني قال لدى لقائه الجالية الإيرانية في جنيف: “إن منع إيران من تصدير النفط يعني أن دول المنطقة كافة ستتوقف عن بيع النفط”، فضلاً عن بعض التصريحات التي صدرت من قادة الحرس الثوري في هذا الشأن، إلا أن رد الولايات المتحدة الأمريكية جاء سريعًا وحاسمًا وعلى لسان المتحدث باسم القيادة الوسطى في الجيش الأمريكي بالقول: “إن القوات البحرية الأمريكية والحلفاء الإقليميين جاهزون لضمان حرية الملاحة والتدفق الحر للبضائع حيثما يتيح القانون الدولي في الخليج العربي”، وهو ما يعني أن القوى الكبرى لن تسمح لإيران باستخدام تلك الورقة.
إيران نفسها تعرف أن تطبيق تلك الخطوة عمليا غير وارد ولها خبرة كبيرة عندما هددت الناقلات الكويتية على خلفية مساندة الكويت للعراق في حرب الخليج الأولى، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن أنزلت أشد العقاب بالإيرانيين من خلال عمليتي “الرامي الرشيق” أغسطس 1987 و”فرس النبي” إبريل 1988 قبل 4 أشهر فقط من انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية أغسطس 1988.
عليه فإن القادة الإيرانيين يدركون تمام الإدراك أن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة ليس فقط بمسألة أمن الطاقة بل بالملاحة البحرية والتي لا تزال وسيلة نقل مهمة للعالم للعديد من السلع والبضائع، في إطار نظرية “الجراند استراتيجي” الأمريكية التي توجب على البنتاجون عدم تعريض المضائق الحيوية في العالم إلى أدنى تهديد.
كما تعرف إيران أن إقدامها على تلك الخطوة من شأنه أن يضعها في مواجهة المجتمع الدولي وليس الولايات المتحدة والدول الغربية فحسب في ظل وجود قوانين دولية نصت على حرية الملاحة في مثل تلك المضائق، ومن ثم حال تفكير إيران في إغلاق المضيق فإن ذلك سيكون انتهاكا لاتفاقية قانون البحار التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1982 ما يعني أن إيران سوف تواجه تحالفا دوليا مدعوما بقرارات أممية، إلى جانب إشعال حالة حرب مطولة لا يقوى اقتصادها المنهك على تحمل عقباتها.
3 ـ الناتو العربي ضد إيران
منذ توليه السلطة سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إقامة تحالف مكون من الدول الخليجية بالإضافة إلى مصر والأردن لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وعلى الرغم من كون المسألة الإيرانية تخص أمن دول الخليج بشكل أساسي، إلا أنه لا يمكن تجاهل استفادة الولايات المتحدة بشكل كبير من تشكيل هذا التحالف العربي الجديد، لأن إيران تهدد المصالح الإيرانية في الدول العربية الأخرى، وخاصة في لبنان وسوريا وقطاع غزة بما لها من دور حيوي في تلك المناطق فضلا عن التهديد الحوثي لمضيق باب المندب بدعم عسكري ولوجسيتي وسياسي إيراني.
ومن المؤكد أن هذا التحالف سيوفر غطاء دوليا إقليميا لأي تحرك أمريكي محتمل ضد إيران، ما سيمكن الرئيس الأمريكي ترامب من تفادي أي انتقادات دولية ضده على عكس ما إذا كان التحرك أمريكيا فرديا، كما سيمكن التحالف الولايات المتحدة كذلك من إعطاء ترامب دورا مهما في أي عمل متوقع ضد إيران، سواء كان في مضيق هرمز أو غيره. بالإضافة إلى مواجهة إيران، من المتوقع أن يحقق هذا التحالف أهدافاً أخرى للولايات المتحدة في مجال ترسيخ نفوذها في المنطقة.
في الأيام الأخيرة نشرت وسائل إعلام دولية تقارير عن انسحاب مصر من هذا التحالف ومع هذا الانسحاب يبدو إن تدشينه الفعلي على أرض الواقع يواجه مشكلة كبرى نظرا لتمتع مصر بأكبر جيش عربي وأضخم كتلة سكانية في المنطقة. وتقوم وجهة النظر المصرية على عدم الاشتراك في أي تحالف أمني ما لم تتم تسوية الملف الفلسطيني أولا، ووضع حلول مستدامة للصراع مع إسرائيل.
ويبدو أن إيران تدرك ذلك جيدا ولذلك تعمل بطاقتها القصوى على إبقاء الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني قائم لعدم تمتع الدول العربية بالاستقرار السياسي ومن ثم التوجه إلى ملفات أخرى ليست ذات صلة بالصراع التاريخي مع إسرائيل، لذلك تدعم وتساعد حماس والجهاد الإسلامي وأنشأت حركة الصابرين الشيعية في قطاع غزة.
بالتالي فإن فرص المواجهة العسكرية المباشرة بين الدول الخليجية وإيران تبقى مستبعدة في ظل انسحاب مصر المفترض، الذي لم يتأكد حتى الآن، وعليه فإن حالة الحرب الباردة والصراع عن بعد سيبقى سيد المشهد على الأقل في المديين القريب والمتوسط ما لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية على عمل عسكري مشترك ضد إيران حتى لو بوكالة إسرائيلية.