تزامنًا مع مرور أربعين عامًا على قيام الثورة الإسلامية في إيران، وسقوط نظام الشاه، محمد رضا بهلوي في فبراير من العام 1979 تسعى القيادة الإيرانية إلى توجيه رسالة إلى الشعوب العربية للتعرف على النظام القائم، وقياداته الدينية التي ساهمت في تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي سياق ما تواجهه طهران من تطويق على الصعيد الدولي والإقليمي، نتيجة سياساتها المعادية لدول الجوار الجغرافي، وتحديها للقوى الدولية عبر رغبتها المستمرة في امتلاك برنامج نووي، وصاروخي، لتكون قوى نووية كبرى في الشرق الأوسط، أطلق مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي مذكرات القائد الأعلى للثورة الإسلامية “على خامنئي”، في كتاب بعنوان “إنّ مع الصبر نصرا”، الذي يروي حياته خلال الأربعين عامًا الأولى في حياته منذ ولادته وحتى قيام الثورة.
وتقول المذكرات التي أعدها، محمد علي آذرشب، وراجعها محمد مهدي شريعتمدار، وتقع في نحو 400 صفحة، إن خامنئي ولد في مدينة مشهد في شمال شرقي إيران في عام 1939. وكان والده عالم دين متواضع، وهو الثاني من بين ثمانية أطفال، درس في قم من 1958 إلى 1964، وخلال وجوده في الحوزة، انضم إلى حركة المعارضة الدينية التي تزعمها آية الله الخميني في عام 1962. وقد لعب دورًا مهمًا في الثورة الإيرانية عام 1979 واستمر في العمل ليصبح رئيسا لإيران، من 1981 إلى 1989، ثم خليفة الخميني كقائد أعلى للبلاد.
ويتضمن الكتاب حوارات شفوية باللغة العربية لـ”خامنئي”، تولى تنقيحها أستاذ الأدب العربي في جامعة طهران “محمد علي آذرشب”، جانبًا مهمًا من حياة “خامنئي” الاجتماعية والعلمية والجهادية. وقد جاء الحديث عن الكتاب في كلمة أمين عام حزب الله اللبناني “حسن نصر الله” إبان الاحتفال بذكرى الثورة في مجمع “سيد الشهداء” بضاحية بيروت الجنوبية، مُعربًا عن أهمية الكتاب، وضرورة قراءته، لأن “الراوي أراد به مخاطبة الشعب والشباب العربي بلغتهم العربيّة”.
اختراق حضاري
يمثل الكتاب النص الأصلي لمذكرات القائد الأعلى لإيران الذي سيتم ترجمته من العربية إلى الفارسية؛ ويحمل الكتاب في طياته رسالة تناشد الشباب العربي لتعرف على إيران بفكرها وقياداتها ورؤيتها للأنظمة الحاكمة، ودعمها لمقاومة الأنظمة القائمة معبرًا عن ذلك بأسلوب بسيط.
فيما يتعلق بكونه باللغة العربية فإنه يحاول إبراز علاقة الترابط التاريخية بين “خامنئي” والثقافة العربية، فوالداته التي لعبت دورًا بارزًا في تكوين شخصيته، كانت تتحدث العربية باللهجة النجفية ولكنها ليست عربية. كما أنه تعلم قواعد اللغة العربية من كتاب “جامع المقدمات” وهو في المدرسة الابتدائية.
بعد ذلك توجه إلى ترجمة بعض الكتب العربية مثل كتاب “دمعة وابتسامة” لـ”جبران خليل جبران”، ليكون أول أعماله في الترجمة، ثم ترجم كتاب “المستقبل لهذا الدين”، و”الإسلام ومشكلات الحضارة” لـ”سيد قطب”، فضلاً عن قراءته للأدب العربي الأصيل، وتأثره بالشاعر العراقي “محمد مهدي الجواهري”، بالإضافة إلى اهتمامه بمتابعة الإذاعات العربية مثل إذاعة “صوت العرب”، و”صوت فلسطين”، وفقا للمذكرات.
ويسعى الكتاب إلى تقديم نموذج للقيادة استطاع إثبات نفسه، وتحمل مسؤولية “الكفاح ضد النظام السياسي القائم”، وبالرغم من هذه المعاناة إلا إنه استطاع أن يصبح المرجعية الدينية الأولى لبلاده بفضل صموده، ليس هذا فحسب بل امتد تأثيره على الصعيد الإقليمي والدولي، بحسب المذكرات.
وقد تجلى ذلك في اختيار عنوان الكتاب “إن مع الصبر نصرا”، الذي يحمل رسالة أن الصبر والثبات وتحمل المعاناة يثمر النصر والقدرة على التأثير، وقد تم اختيار عنوان الكتاب على وزن الآية الشريفة “إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” ليكون أكثر دلالة على هدف الراوي الذي يسعى إلى اختراق العقول العربية بآليات الـ”Soft Power”.
المقاومة في نهج خامنئي
يوضح الكتاب أن “خامنئي” بدأ في انتهاج سياسة المعارضة للنظام الشانهشاهي الحاكم باعتباره معاديًا للدين، مع إدانته لقرار محافظ “مشهد” خاصة تقليل مدة إغلاق دور السينما احترامًا لذكرى عاشوراء، وواقعة كربلاء، وأربعين الشهداء، عام 1955، والمشاركة في تحريض العلماء للنهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا لابد من توضيح أن ما يسمى بـ”معالم النهضة الإسلامية” في طهران تنقسم إلى خط المعارضة الدينية للجهاز الحاكم المنبثقة عن عقيدة دينية، وخط التوعية الفكرية المرتكزة على تقديم مشروع إسلامي بخطاب جديد، لتجديد الفكر الديني. وفيما يتعلق بـ”خامنئي” فإنه يعتبر وفقًا للكتاب من المجددين في الفكر الديني، علاوة على ممارسته للنشاط التوعوي لتعبئة الجماهير ضد السلطة الحاكمة.
وفي هذا السياق، يُبرز الكتاب العلاقة الوثيقة بين “خامنئي” و”الخميني”، التي بدأت بمشاركة “خامنئي” في دروس أصول الفقه لـ”الخميني”، فضلاً عن كونه كان صديقًا لوالده. وتوطدت العلاقة بين الرجلين مع بداية الحركة الثورية التي تعرف في إيران ببداية “النهضة” أو “الانتفاضة” بقيادة “الخميني” عام 1962 على القرارات الحكومية المخالفة للشريعة.
وقتها ـ وفقا للمذكرات ـ كان “خامنئي” يقوم بعدد من المهام التي تهتم بفكرة التنظيم، واستنساخ بيانات الإمام، والبيانات الصادرة عن الجهات السياسية لتوزيعها، وتقديم المشورة إلى الإمام في المسائل المختلفة، وتنسيق التعاون بين الإمام وبقية العلماء، كما ساهم في إنشاء أول تنظيم في قم بين العلماء، وشاركت في انتشار هذه التنظيمات إبان فترة النهضة مثل “مجموعة علماء قم”، و”مجموعة الأحد عشر”.
بعد انتقاله من “قم” إلى “مشهد” تبنى سياسة فكرية أكثر نشاطًا من خلال التنسيق والتواصل مع العناصر الحركية، وشخصيات المعارضة في “مشهد”، بجانب جلسات الدعوة والتدريس، وإمامة المساجد، وإنشاء مؤسسة للطباعة لنشر وتوزيع الكتب ذات الخلفية الدينية والطابع الحركي، ثم ترجمة الكتب التي كان أبرزها كتاب “المستقبل لهذا الدين” لـ”سيد قطب”.
ذكريات السجن والمنفى
استطاع الكتاب توظيف حياة “خامنئي” وخاصة الجانب المتعلق بدخوله السجن ونفيه، بأسلوب المظلومية لجذب الانتباه والتعاطف مع مسيرته في “الجهاد” ضد النظام الحاكم، متخذًا عدة مؤشرات تجلت في اعتقاله خمس مرات، بالإضافة إلى مرة تم اعتقاله فيها ثم نفيه، واستعرض الكتاب استدعاءه من قبل “السافاك” خلال الفترة ما بين مرحلة النهضة في عام 1962 حتى قيام الثورة في 1979م، مؤكدًا أن سجون الشاه كانت للانتقام من الأفراد لتعجيزهم نفسيًا وهو ما تعرض له إبان اعتقاله، الأمر الذي انعكس عليه بشكل عميق.
لم يكتفي الكتاب بتوضيح المعاناة التي واجهها “خامنئي” في السجن والمنفى، وعدم تمكن أبنائه من معرفته وهم صغار، ولكنه عبر العديد من الأحداث التي عاصرها في سجنه ومدى تفاعله معها رغم ما يواجهه من معاناة، حزن بشدة على تعذيب تلاميذه في السجن.
كما ذكر “خامنئي” تعاطفه المزدوج عندما علم بموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهو في سجنه، حيث شعر بألم كبير. وهنا يشير الكتاب إلى المفارقة التي عاشها الإسلاميون في طهران ما بين تعاطفهم مع “سيد قطب”، وفكره الحركي، وحزنهم عليه عندما تم إعدامه، وبين حزنهم على “عبد الناصر” عندما علموا بخبر موته، موضحًا أن اعتزازهم بـ”عبد الناصر” يعود لأسباب نفسية وليست عقائدية.
غلاف مذكرات المرشد الإيراني علي خامنئي