تسعى الدول في نسج علاقاتها الخارجية إلى حماية مصالحها وتعظيمها، مستندة في ذلك إلى قدرتها على الاستخدام الأمثل لإمكاناتها، وعادة ما تأخذ مؤسسات صنع القرار عند رسم السياسة الخارجية جميع العوامل المؤثرة داخلياً وخارجياً، بما يضمن نجاح هذه السياسة في تحقيق المصالح عند ممارستها واقعياً. وهذا بدوره يجعلنا لا نغفل أن السياسة المعلنة للدول تختلف في كثير من الأحيان عما تمارسه فعلياً على أرض الواقع، عليه من المهم التفريق بين ما تعلنه الدول من أهداف لسياساتها الخارجية وبين سلوكها وممارساتها على الصعيد الخارجي، فتناقضات الواقع وتزاحم المصالح بين الدول تجعلها في عملية ترجيح بين المعلن والواقع.
وعند التطرق لمصطلحات مثل “البراجماتية” و”العقلانية” في سياق السياسة الخارجية، من المهم الإشارة إلى أن ما قد يبدو عقلانيا أو براجماتيا فيما يتعلق بفاعل دولي يمكن أن يكون له تأثير معاكس فيما يتعلق بآخر، إذن يمكن استخلاص أن العقلانية والبراجماتية ليستا من الصفات المطلقة.
وفي هذا الإطار، تناقش دراسة “عماد خليلي”، الأستاذ بكلية العلوم الإنسانية بجامعة بايم نور الإيرانية (واحدة من أكبر الجامعات في إيران ويعني اسمها “رسالة النور” باللغة الفارسية)، المعنونة “السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية: الأيديولوجية والبراجماتية في إيران”، المنشورة في دورية المجلة الأكاديمية الدولية للعلوم الاجتماعية International Academic Journal of Social Sciences في مايو 2016، سياسة إيران الخارجية من الناحيتين الأيديولوجية والبراجماتية، والتأكيد على أن الحوار بين إيران والغرب يمكن أن يكون فعالاً جداً لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط. فعلى الرغم من سمعة إيران بالتعصب الديني، منذ نهاية الحرب الإيرانية ـ العراقية، إلا أنها أثبتت نفسها كفاعل عقلاني في السياسة الخارجية منذ 11 سبتمبر 2001، وخاصة منذ عام 2003، حيث أن الالتزام بين إيران والغرب أخرجها من العزلة الدولية وحقق ازدهار اقتصادي بعد أن كان ذلك مستحيلاً.
وتعد إيران ثاني أكبر مصدر للغاز في العالم ولديها أكبر عدد من السكان على مستوي الشرق الأوسط، بعد مصر وقبل تركيا، ولذلك لا يمكن تجاهل إيران سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي حيث إن الوضع الجيو ـ سياسي لإيران يعزز من ثقلها الدولي والإقليمي (على الرغم من ذلك فإيران دولة شبة مغلقة: أي لا تتصل بالخارج إلا عن طريق الخليج العربي) ونتيجة لذلك تعتمد إيران بشكل كبير علي العلاقات الخارجية وفي هذا الإطار يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء علي السياسة الخارجية الإيرانية والتى تم تبنيها عقب الثورة الإيرانية وخاصة العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية والتي تحتل الجزء الأهم من العلاقات الخارجية الإيرانية.
وتنقسم الدراسة إلى محورين.
الأول: السياسة الإيرانية منذ الثورة
تشير الدراسة إلى أنه منذ الثورة الإيرانية وفي أثناء الحرب ضد العراق، ألصقت وسائل الإعلام الغربية إيران بأنها دولة تدعم الأصولية الإسلامية غير المعتدلة. وعلى الرغم من الأحداث المتلاحقة في الجمهورية الإسلامية خاصة بعد وفاة المرشد الأعلى في 1989 إلا أن الإشكالية تتمثل في أنه على الرغم من بقاء وتوارث التعاليم الفكرية الثورية كأحد الركائز الأساسية إلا أن إيران تواجه العديد من التحديات المحلية والإقليمية والدولية والتي تحتاج بدورها إلى حلول.
فيما يتعلق بالبنية السياسية، فقد عكس النظام السياسي الإيراني بعد الثورة العديد من العوامل التي ساهمت في الإطاحة بنظام شاه، وأن أجزاء كبيرة من دستور الجمهورية الإسلامية مستوحاة من الأنظمة السياسية للبلدان الغربية التي عادتها الثورة، بالإضافة إلي الشريعة الإسلامية. وكانت نتيجة ذلك خلق نظام سياسي مُعقد ومحير، فهو وسط بين الثيوقراطية والديمقراطية، فبينما المرشد الأعلى لديه القوة والسلطة المطلقة، فإن الحكم يتم تقسيمه من بين المجالس المنتخبة ومجالس رجال الدين، والتي تختص كل منهما بمسؤولياتها ومهامها مع السماح لهم بمعارضة كل منهما (حق الفيتو على الآخر). ولذلك فإن التغيير السياسي قد يبدو مستحيلاً في إطار النظام السياسي القائم.
فيما يتعلق بالتنمية السياسية، يشير الكاتب إلى أن فكرة تصدير الثورة سادت وسيطرت على السياسة الخارجية التصادمية للخميني، وخلال سنوات قليلة تمكن الخميني من عزل إيران عن المجتمع الدولي والدخول في صراع ممتد ودامي مع العراق (المدعومة من قوى إقليمية وغربية).
وأنه مع نهاية الحرب ووفاة الخميني، كان الاقتصاد الإيراني يعاني أشد المعاناة، وتحت حكم رفسنجاني ـ الذي أسماه بعض الإيرانيين رونالد ريجان إيران – أصبح التقدم والتنمية الاقتصادية أمرين مهمين، وفي سعيه لإحداث ذلك كان لابد من تبني مفهوم وأسلوب جديد للعلاقات الدولية والسياسة الخارجية بعيداً عن الفكرة المتشددة لتصدير الثورة.
وعلى الرغم من وضعه الاقتصاد الإيراني على مساره الصحيح، إلا أن الإصلاحات الاقتصادية جعلته غير محبوب لدى الكثير من الطبقة الوسطى أولئك الذين تأثروا بالثورة الإسلامية وسنوات الحرب مع العراق، إذ قام الخميني بدعوة نساء إيران إلى زيادة عدد المواليد وأن يمددن الجمهورية الإسلامية بجيش قوامة 20 مليون مقاتل، وأصبحوا في نهاية التسعينات شباناً وكثيراً منهم تلقوا تعليماً عالياً، ولكن في ظل اقتصاد ضعيف لم يتمكن سوق العمل من استيعابهم. فنما لديهم شعور بعد الرضا عن النظام لاسيما وأنهم لم يكن لديهم أيه ارتباطات قوية أو ذكريات مع الثورة، ومع الانتخابات الرئاسية في 1997 كانت إيران مهيأة لحدوث إصلاح سياسي واجتماعي، ورغم فوز الإصلاحي محمد خاتمي إلا أنه وقف مكتوف الأيدي في مواجهة حق الفيتو الذي تمتع به أغلبية رجال الدين والمرشد الأعلى، على خامنئي.
وفي خلال رئاسة خاتمي الذي قام بخطوات ملموسة نحو تحسين العلاقة مع الغرب وزيارة العديد من الدول الأوروبية، كان هناك حراك سياسي في إيران حيث ضغط الإصلاحيون نحو زيادة مساحة الحرية للصحف، في حين تبنى المحافظون وجهة نظر متشددة وقاموا بالقبض على العديد من الإيرانيين، ومهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها عبر وسائل الإعلام المحلية والدولية.
وفي ظل حالة كتلك تهددت حالة الحراك والتقدم في العلاقات الخارجية الإيرانية خاصة عقب أحداث 11 سبتمبر والاهتمام بضرورة انتزاع التيار الأصولي الإسلامي وخاصة بعد تشبيه الرئيس الأمريكي بوش لإيران بأنها محور الشر، ما انعكس على إيران وجعلها تشعر بعدم الأمان خاصة مع وجود قوات أمريكية علي الحدود الإيرانية أو في دول الجوار، ما أدى في النهاية إلى فوز المحافظين في الانتخابات التشريعية 2004 والرئاسية 2005، على الرغم من وجود الكثير من الادعاءات بحدوث تزوير ورفض ترشيح العديد من الإصلاحيين إلا أن الاحتجاج على ذلك من قبل المجتمع الإيراني كان متواضعاً.
ومع أن المحافظين قد وصلوا وتمكنوا من كامل السلطة إلا إنهم لم ينكروا حقيقة أن الإصلاحات الداخلية التي قام بها خاتمي قد خلقت جيلاً من الشباب الذي خشاه المحافظون من القيام بثورة ثانية، كما أن القيادة كانت مدركة بأنه يتوجب عليها تحسين علاقاتها الخارجية مع عدد من الدول المؤثرة على المسرح السياسي والاقتصادي العالمي.
المحور الثاني: السياسة الخارجية الإيرانية.. خيار رشيد أم أيديولوجية
يؤكد الكاتب على أنه منذ نهاية الحرب مع العراق ووفاة الخميني، يمكن القول إن السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية قد تمت هزيمتيها، فالحلم الثوري بالقيادة الإقليمية والرغبة في إنهاء النفوذ الغربي في المنطقة، لم يتحقق لهما النجاح فقد سعت طهران نفسها إلى إحداث تنمية اقتصادية من خلال زيادة التعاون الدولي بما في ذلك مع شركائها التجاريين الغربيين. بما يعني إثبات إيران نفسها كفاعل رشيد وأنها مؤسسياً قوية بحيث وضعت مصالحها الاستراتيجية وقدمتها على الأيديولوجية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. التي تشكلت من خلال الضغوط الممارسة عليها داخلياً وإقليمياً ودولياً، تلك التي ازدادت بعد الهجمات الإرهابية في العام 2001، وما تلى ذلك من الغزو الأمريكي لجارتيها أفغانستان في العام 2001 ثم العراق في العام 2003.
ففي إطار التوجه لسياسة خارجية متباينة منذ انتهاء الحرب ضد العراق ووفاة الخميني، حرصت إيران علي بيان ذاتها على أنها دولة مؤسسات وفاعل رشيد ضمن المجتمع الدولي والذي يعكس بدوره مصالح استراتيجية لا أيديولوجية أو قناعة فكرية وفي هذا السياق تجلت الأسئلة الثلاثة الابرز في عهد الرئيس بوش المتمثلة في العلاقات بين إيران والمجتمع الدولي، والدور الإيراني في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، والحرب في العراق وأفغانستان والبرنامج النووي الإيراني.
وبغض النظر عن أول سؤالين، كان البرنامج النووي محل مباحثات داخل وخارج الأمم المتحدة ومجلس الأمن وهو ما أثار تساؤلا حول ما إذا كانت إيران فاعلاً عقلانياً في سياساتها الخارجية أم لا؟!
فعلى الرغم من وصول المحافظين الجدد إلى السلطة، لم يتمكنوا من تغيير درجة العقلانية في السياسة الخارجية، فحينما كانت تتعارض الاعتبارات الأيديولوجية مع المصالح الاستراتيجية، كان يتم تقديم الأخيرة، ويضرب الكاتب مثالاً بقوله: “على الرغم من أن نجاد كان يعارض القمع الإسرائيلي للفلسطينين، كان يلوذ بالصمت ويغض الطرف أمام السياسات الروسية (في الشيشان) والصينية (في سين كيانج) تجاه المسلمين حفاظاً على العلاقات الاقتصادية”.
ويخلص الباحث إلي أن:
ــ كانت هناك أهداف تجمع الفصائل التي شاركت في الثورة، وهي التخلص من الفساد والطابع الاستبدادي للشاه والهيمنة غير المسلمة على الاقتصاد والثقافة الإيرانية لاسيما من قبل الولايات المتحدة، ولكن بعد الثورة ظهر صراع على من سيدير الجمهورية وقد استطاع الخميني حسم هذا الأمر، وطور مبدأ ولاية الفقيه بحيث يطبق على الحكومة، واعتبر تصدير الثورة أمرا حتميا، حتى حينما حاول تخفيفه بأنه لا يعني التدخل في شؤون الدول الداخلية بقدر ما هو إجابة عن أسئلتهم حول معرفة الله.
ــ كانت تلك النظرية متناقضة مع الفكر الشيعي الذى يدعو إلى الانسحاب من الحياة السياسية، وكذلك مخالفة لآمال وخطط العلمانيين والديمقراطيين واليساريين الإسلاميين، فتم كسر حالة الوحدة بين رفقاء الثورة، وانتهي الأمر بهزيمة معارضي الخميني.
ــ ساعدت الحرب مع العراق على ترسيخ فكرة الثورة بإيران على الرغم من الخسائر في الرواح والممتلكات.
ــ أثبتت العقوبات الاقتصادية والتهديدات العسكرية ضد إيران أنه لم يكن لها تأثير حقيقي بخلاف عزل إيران عن محيطها الإقليمي والدولي، وهذا غير صحيح فالمصاعب الاقتصادية فجرت العديد من الاحتجاجات الشعبية بلغت مستويات غير مسبوقة مؤخراً، كما في انخراط البازار فيها، ما يفرض قيداً طبيعياً ينبع من الداخل الإيراني.
ــ العلاقة بين إيران والولايات المتحدة متناقضة وتتسم بأنها غير عقلانية، فبعد الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة إلى إقامة علاقات قوية مع طهران لكي تكون بمثابة ضمانة ضد صعود الفكر العربي القومي في الشرق الوسط أو حتي نمو الشيوعية في تلك المنطقة، (الكاتب هنا لم يستعرض الدوافع الإيرانية للقيام بوظيفة شرطي الخليج قبل الثورة ومبدأ تصدير الثورة الذي يعطي لإيران الحق في التدخل لنصرة مستضعفي العالم كوسيلتين أرادت بهما إيران تحقيق حلم إعادة بعث الإمبراطورية) ولكن تبدل الحال تماماً بعد الثورة على الشاه، واستيلاء الإيرانيين على السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز أكثر من 50 رهينة هناك، وعلى مدى السنوات تلك التي تلت ذلك، اتخذت العلاقة بين الدولتين بُعداً أكثر تطرفاً وتعصباً وهو ما غذى الصراع المستمر بينهما وحال دون محاولة تعزيز التعاون بينهما، ويمكن القول إنه كان هناك تقدم يُحرز بين البلدين في معالجة قضايا محددة، يحدث ذلك حينما يتخلى قادة الدولتين عن الشروط المُسبقة والدوافع الأيديولوجية والتركيز فقط على الجوانب الملموسة جراء التعاون بينهما، حتى إنه بعد هجوم سبتمبر كانت الولايات المتحدة الأمريكية مُدركة أهمية الحاجة إلى دعم إيران باعتبارها أحد أقدم أعداء طالبان (ملحوظة: من ضمن الـ 12 مطلب لوزير خارجية أمريكا مؤخراً كشروط لإبرام اتفاق تكميلي جديد مع إيران فيما يخص البرنامج النووي: وقف دعم طالبان وعدم إيواء عناصر القاعدة)، وعلى الرغم من استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران إلا أن طهران كانت مستعدة للتعاون مع واشنطن في هذا الأمر؛ لإظهار الفوائد التي كانت ستجنيها الولايات المتحدة من وجود حليف إيراني في المنطقة. (كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في مارس 2016، عن اتفاق سري بين واشنطن وطهران سبق الغزو الأمريكي للعراق في 2003، مشيرة إلى أن أمريكا حصلت بموجب هذا الاتفاق على تعهد إيراني بعدم إطلاق النار على الطائرات الأمريكية، في حال دخلت الأجواء الإيرانية في أثناء الغزو).
ورغم أن الكاتب قد حاول أن يعالج الموضوع بشكل شامل ومتعدد الأبعاد ـ أدى في أحيان كثيرة للتكرار ـ وبصراحته الواضحة حين قال إن السياسة الخارجية الإيرانية تفتقد لخطة استراتيجية طويلة المدى؛ إلا أنه تبقى هناك عدة ملاحظات لم يتطرق لها، وهي كما يلي:
ــ الخطاب المسيطر في السياسة الخارجية هو خطاب أيديولوجي في توجهاته ولكنه عملي براجماتي في تحركاته؛ لأسباب أمنية واستراتيجية واقتصادية، فلا يمكن وضع حدود جامدة بين ما هو أيديولوجي وما هو مصلحي في تحركات إيران الخارجية، فكلاهما يخدم الآخر ولا يتعارض معه.
ــ تعتبر السياسة الخارجية للجمهورية الإيرانية حصيلة مصالحها الذاتية، المُتمثِّلة بحماية الحكم الإسلامي الإيراني من التهديدات الخارجية.
ــ بسبب عزلتها عن جيرانها منذ ثورة 1979، انتهجت إيران استراتيجية تقوم على نسج علاقات مع كيانات غير دُولتية لمساعدتها على ترقية مصالحها الاستراتيجية، والعمل على تمديد نفوذها الإقليمي على نحو واسع، خاصة في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
ــ كان الدين عاملاً لم تنفصم عراه عن عملية صنع القرار الإيراني منذ ثورة 1979 ويبرز بشكل واضح في روابط إيران مع الجماعات غير الدُولتية، فالطائفية والتوسُّعية يُميزان سياساتها الخارجية، لتسييد وكلائها الشيعة المُتشدّدين، وتقويض الوضع الراهن الذي يُهيمن عليه السنة، وذلك بطبيعة الحال من خلال إنشاء كيان شيعي توسعي موالٍ لها متجاوز للحدود القومية، يمتد من إيران إلى لبنان ويشمل العراق وسوريا، أي شيء مماثل لإمبراطورية فارسية مُنبعثة من جديد، لكن هذه المرة بقسمات توحيدية خاصة تستند إلى كلٍ من المذهب الشيعي والولاء للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية.
ــ مدخل العلاقة بين الهوية والسياسة الخارجية هو مدخل مهم، فالقيم الثقافية هي عوامل مهمة ومؤثرة في تحديد المصالح القومية والتعريف بالمبادئ الأمنية، في إطار احتياجات السياسة الخارجية ومتطلباتها، فثنائية التأثر بالهوية الفارسية والتأكيد على ثقافة المقاومة يحكُمان تحركات السياسة الخارجية، فإيران دولة تشعر بمكانتها ولا يمكن أن تحصر نفسها في حدودها، حيث لها تطلعات ريادية وتعمل جاهدة على تحقيقها وفقاً لامكاناتها والتأثيرات الداخلية والخارجية التي تواجهها.
ــ الازدواجية ما بين مؤسسات دستورية (مؤسسات الدولة) ومؤسسات ثورية لحماية الثورة والمعتقدات، فالدولة والثورة متداخلان في تشكيل المؤسسات الإيرانية. (كل المؤسسات ذات رسائل عقيدية وبنص الدستور).
ــ الولي الفقية هو حجر الزاوية في ايران، فهو الذى يوحد ويحمي النظام السياسي والثورة ومعتقداتها، في إطار الأيديولوجية الثورية التي تميز السياسة الخارجية لإيران.
ــ ثنائية محافظ أم إصلاحي بالنسبة لتوجهات مؤسسة الرئاسة في إيران، حيث يسعى المحافظون إلى إعادة الاعتبار لمبادئ الإمام الخميني بالتركيز على الأبعاد العقائدية بجانب المصلحية، فى حين يسعى الإصلاحيون إلى إدخال تعديلات على النظام لحساب المؤسسات الدستورية. (هذه الثنائيات ليست جامدة وليست فيها حدود فاصلة في ظل وجود أهداف معينة للتحركات الإيرانية تتأثر بغلبة إحدى تلك الثنائيات على غيرها في ظل اختلاف المواقف والسياق). فلا تعدو كونها الاختلاف في إدارة الملفات الخارجية وترتيب أولوياتها. كما أن منصب الرئاسة وعلى أهميته في رسم وتنفيذ سياسة إيران الخارجية، إلا أنه يظل يخضع لسلطة أعلى ممثلة بالمرشد الأعلى للثورة – خامنئي حالياً – الذي تعد قراراته تعلو على مؤسسات النظام كافة.
ــ منذ قيام الثورة يأتي على رأس أولويات السياسة الخارجية تصدير نموذجها الثوري إلى الخارج من خلال ضرورة دعوة البلدان الأخرى لاتخاذ الثورة الايرانية نموذجاً يحتذى به في التغيير والثورة على الحكام. (تدخلات غير مباشرة في شؤون الدول الأخرى والقيام بعمليات سرية ومساندة الجماعات الموالية لإيران وتغذية الدعم الأيديولوجي والعسكري والاقتصادي والثقافي للشيعة داخل الحدود الإيرانية). وهذا المبدأ ليس أيديولوجياً بحتاً ولكنه يحمل في طياته أبعاداً مصلحية لتوسيع النفوذ الإيراني وتقويته.
وفيما يتعلق بإدارة إيران لعلاقاتها الخارجية، فهي تبنيها أساساً على المصلحة لا الأيديولوجية الجامدة، والشواهد على ذلك كثيرة:
أولا: التحالف الاستراتيجي الذي جمع ـ ولا يزل ـ بين طهران ودمشق، بالرغم من أن رأس النظام السوري يتمذهب بالمذهب الشيعي العلوي البعيد كل البعد عن المذهب الإثني عشري لإيران، وهو يتبع أيضاً حزب البعث الذي يعد أيديولوجياً على طرف النقيض مع الأيديولوجية الإيرانية، وهو دلالة على أن الذي يجمعهما المصالح المشتركة التي تجاوزت في الأحيان كل الخلافات التي ظهرت على السطح في بعض الأحيان. وما تقوم به إيران من دعم واضح للنظام السوري في حربه مع الداخل، يأتي في سياق أهمية هذا الحليف لإيران. إذاً دعمها للنظام السوري ليس كونه شيعياً أو متوافقا معها أيديولوجياً، بل لأهميته الاستراتيجية لمصالحها.
ثانيا: الاكتفاء في تقديم الدعم الإيراني الإعلامي فقط للمعارضة البحرينية من معتنقي المذهب الشيعي الإثني عشري الساعيين للتغيير، وذلك تماشياً مع ما تقتضيه المصلحة الإيرانية في ذلك.
ثالثا: التصميم الإيراني على إعادة العلاقات مع مصر، والذي يرجع لتقدير قيمة الفوائد التي ستحققها، وهو ما سيدفعها إلى تذليل العقبات التي تحول دون ذلك وفي مقدمتها العقبة الأمنية، حال تفهمت مصر الدور والمصالح الإيرانية في المنطقة. عليه لن تجعل إيران ـ وعلى العكس مما يروج له البعض سيما التيارات السلفية ـ من نشر التشيع، أو دعم أي طرف في مصر، عقبة أمام تطور العلاقات الإيجابية بين البلدين.
رابعا: إقامة إيران علاقات دبلوماسية مع دول الخليج العربية واتفاقات تعاون في العديد من المجالات ومنها المجال الأمني، رغم ما يطفو على السطح من توتر في العلاقات نتيجة الاختلاف على جملة من القضايا، بل يمكن القول إن الإمارات صاحبة مشكلة الجزر الثلاث تعتبر من أكبر شركاء إيران التجاريين في العالم. هذا علاوة على علاقاتها المتينة مع الصين وكوريا الشمالية بالرغم من اختلاف الأيديولوجيات، يضاف إلى ذلك علاقاتها بالدول الغربية التي تقيم معها علاقات دبلوماسية تتسع وتضيق من باب المصلحة بالطبع لا الأيديولوجي.
خامسا: صدور فتوي من المرشد الأعلى خامنئي بتحريم تصنيع السلاح النووي، على الرغم من أن البرنامج النووي الإيراني يستحيل تصديق أنه لتوفير الطاقة الكهربائية للمصانع والمستشفيات، خصوصاً أن إيران دولة منتجة للطاقة بالفعل.
سادسا: تحذير المرشد الأعلى من الدعوة للتفاوض مع الولايات المتحدة وشيطنة دعاتها، على الرغم من أنه جرى التفاوض معها من قبل وأُنجز الاتفاق النووي في الرابع عشر من يوليو بالعام 2015.
إذاً الجمهورية الإسلامية الإيرانية استندت ولا تزل إلى أيديولوجية ثورية، إلا أنها وعبر مراحلها المختلفة ظلت تطوع هذه الأيديولوجية بما يخدم برجماتيتها في تعظيم مصالحها.
ـــــــــ
Emad Khalili, The foreign policy of Islamic Republic of Iran: Ideology and Pragmatism in Iran, International Academic Journal of Social Sciences, Vol. 3, No. 5, 2016, pp. 28-34. Critical view