لم تعد إيران تلك الدولة التي تتدخل في شؤون الشرق الأوسط بالدعايا والدعم اللوجيستي فحسب بل أصبح لها حضور عسكري في المنطقة العربية من خلال المليشيات المسلحة تلك التي أنشأتها كأذرع في مناطق النزاع العربية، خاصة في مرحلتي ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 ونشوب ثورات الربيع العربي 2011، وقد مكنتها تلك الجماعات من تثبيت نفوذها في العديد من الدول على غرار العراق ولبنان وسوريا واليمن، ويمكن أن تحفزها هذه الإنجازات ـ التي أثبتت نجاعتها في تأكيد حضورها كقوة إقليمية ـ على نقل هذه التجارب إلى دول أخرى في حالة وجود فرص مواتية لذلك.
استراتيجية تصدير الثورة
تعود هذه الاستراتيجية إلى اليوم الأول من تأسيس الجمهورية الإسلامية على أنقاض النظام الشاهنشاهي، وقد باشرتها من خلال محاولات تصدير الثورة، وسبق للعديد من الدراسات التطرق لهذا الموضوع من حينها وكان بعضها يرصد كل جديد يطرأ على هذه الظاهرة على غرار تلك الدراسات التي اهتمت بالمليشيات الشيعية العراقية بُعيد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003؛ استكمالا لأخرى سبق لها أن فصّلت في ظاهرة أحزاب الله خاصة اللبناني منها ذلك الذي يعد النموذج المثالي عنها.
عقب الثورات الشعبية العربية في 2011 وما رافقها من عنف وعسكرة فتح فصل جديد من المليشيات الإيرانية خاصة في سوريا، وتداخلت الأدوار وتشابكت بين المحلي والإقليمي ما استدعى تسليط مجهر البحث أكثر في الظاهرة.
ضمن هذا السياق يأتي كتاب “الأذرع الإيرانية المسلحة في المنطقة العربية”، والذي تميز عن غيره من الأعمال بتناول كل المليشيات الإيرانية الناشطة في الساحة العربية، رابطا إيها بالحرس الثوري الإيراني باعتباره أداة عسكرية نشأت كحاجة أمنية لحماية الثورة داخليا، وتحولت بعد ذلك إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وأوكلت لها مهام خارجية أهمها تصدير الثورة، والتي وإن عرفت بعض التراجع بين الفينة والأخرى تبعا للتطورات التي شهدتها علاقات إيران مع جيرانها، إلا أن الفكرة بقيت في صلب الاستراتيجية الإيرانية.
إذن، بداية من إيران مرورا بالعراق وسوريا ولبنان واليمن وجنوبي فلسطين تتبع العمل الجماعي مختلف المليشيات الشيعية الإيرانية هادفا للإجابة عن جملة من الأسئلة المحورية تتعلق بسرد مراحل تشكلها، وأسسها العقدية، والخصائص الهيكلية التي تميزها، وتتبع مصادر تمويلها وتسليحها، والحروب والمعارك التي خاضتها، وعلاقتها بمجتمعاتها وحكوماتها، والوسائل التي تحول دون اتساعها، والسبل الأنجع لاحتوائها وتفكيكها.
أسئلة العمل الميداني
أجابت فصول الكتاب الخمسة عن هذه الأسئلة رغم ما اعترضها من صعوبات وفي مقدمتها البُعد العسكري الأمني للظاهرة، وانخراط هذه الجماعات في حروب إقليمية؛ ما يفرض قدرا كبيرا من السرية تعيق الوصول إلى معلومات دقيقة حولها، خاصة تلك المتعلقة بهيكلها التنظيمي وعدد عناصرها ومصادر تسليحها وتمويلها، والكثير من المعلومات التي تصدر منها أو من المناوئين لها تكون في أحد أبعادها مرتبطة بالدعاية والدعاية المضادة سواء تقليلا أو تضخيما.
وكما سبق الإشارة، استهل الكتاب الصادر عن مركز الفكر الاستراتيجي بفصل حول فيلق القدس باعتباره أول تنظيم شيعي مسلح تابع لإيران مكلف بالمهام الخارجية في الحرس الثوري، وهو الذي يقف وراء تأسيس مختلف التنظيمات الشيعية المسلحة في المنطقة العربية والإسلامية ويتكلف بتمويلها وتدريبها، والتنسيق فيما بينها، وحتى تخطيط وتنفيذ العمليات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وعرّج الكتاب في الفصل الثاني على المليشيات الشيعية في العراق التي جعلت من التواصل الجغرافي مع إيران ووجود حوزة النجف بأهميتها عند الشيعة من أكثر البلدان عرضة للظاهرة، فنشأت فيه العديد من التنظيمات بالتزامن مع الثورة الإيرانية في مقدمتها المجلس الأعلى للثورة الإيرانية، كما أعادت صياغة توجهات حزب الدعوة الذي تأسس قبل ذلك، وأخذت زخما مضاعفا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ببروز جيش المهدي الذي عرف تطورات عديدة أفرزت في الأخير الحشد الشعبي كنسخة أكثر تطورا تفرد لها مساحة واسعة نظر لمحورية دورها في العملية السياسية والعسكرية العراقية في المدى القريب والمتوسط على الأقل.
وفي الفصل الثالث انتقل الكتاب إلى سردية حزب الله في لبنان الذي يمثل أقوى الأذرع الإيرانية المسلحة في المنطقة، وتسعى لنقل تجربته إلى دول أخرى، فتتبع الفصل بوادر نشأته وأسسه الفكرية وهيكله التنظيمي وغيرها من الأبعاد المحيطة به وصولا إلى علاقته بالدولة اللبنانية.
أما الفصل الرابع فخصص للحالة الحوثية في اليمن التي باتت هي الأخرى مؤثرة ليس فقط داخليا بل حتى خارجيا نظرا لما باتت تشكله من خطر على المملكة العربية السعودية وحتى الملاحة في مضيق باب المندب، لدرجة التخوف من هواجس حرب إيرانية – سعودية قد تكون شرارتها حوثية.
وتختتم الدراسة فصولها ببحث حول لواء فاطميون الأفغاني الذي يمثل تطورا جديدا في كونه تنظيما شيعيا من خارج الدائرة العربية يوظف في إدارة صراعاتها.
بعد هذه الجولة بين مختلف التنظيمات المسلحة الإيرانية التي تنشط في الجغرافيا العربية، وتتحرك بين تصدعاتها المجتمعية، متسللة بين تشعبات مشكلاتها السياسية والاقتصادية، مترقبة الفرص المواتية للانقضاض على مراكزها لاستكمال البدر الشيعي الذي كثيرا ما حذّر منه المراقبون والمتابعون، خلص الكتاب إلى استنتاجات مهمة تشترك فيها كل تلك المليشيات، والتي من المرجح أن تنسج على منوالها جماعات مسلحة أخرى قد تظهر في المدى المتوسط أو البعيد ضمن الاستراتيجية الإيرانية.
منطلقات مشتركة
وتتمثل أولى النقاط المشتركة في انطلاق جميعها من خلفية عقدية تؤمن بولاية الفقيه التي تبناها الخميني كنظام حكم في إيران، وانخرطت في مشروع ما قبل الظهور لتهيئة الظروف للدولة المهدوية التي يقودها الإمام الثاني عشر حسب عقيدتهم، وانخراط شيعة أفغان في المشروع مؤشر على محورية البعد العقدي في العلاقة بين هذه التنظيمات. وأن الخلفية الأيديولوجية الدينية تجعل من هذه الجماعات المسلحة حالة مستعصية، يصعب مواجهتها وفك الارتباط بينها وبين إيران كون الرابط دينيا.
وكشفت الدراسات أن كل الجماعات الشيعية المسلحة نشأت بقرار وتوجيه إيراني، وببصمة الحرس الثوري الواضحة سواء في البناء الهيكلي أو الأساليب العسكرية أو حتى الخطاب السياسي الذي تتكرر فيه المفردات نفسها. واستنادها على إيران بشكل أساسي في تسليحها ودعمها المالي لا ينفي وجود مصادر أخرى لدعمها من قبيل الأموال المتدفقة من زكاة الخمس والتبرعات الشيعية، أو حتى مصادر الدولة ذاتها كما هو الحال مع الحشد الشعبي الذي تخصص له حصة من “الموازنة العامة للدولة” والحوثيون بعد سيطرتهم على السلطة في صنعاء وتسخير مقدرات الدولة لصالحهم، وهذه المصادر المالية الكبيرة تمكن المليشيات الشيعية من الاستمرار لفترة أطول، وتوسيع نشاطاتها، كما تجعل مواجهتها أكثر كلفة.
والواقع أن تتبع ممارسات هذه الجماعات المسلحة يكشف أيضا أنها عمّقت التصدعات الاجتماعية في دولها، وكرّست الفرز الطائفي، وممارساتها التي ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب تختزن وراءها ثارات مجتمعية ستظهر بين الفينة والأخرى، وتدجينها العمل السياسي لصالح خدمة مشاريعها الطائفية المعبرة عن المصالح الإيرانية أكثر من مصالح دولها يفقد الأمل في مؤسسات الدولة والعمل السياسي السلمي كمدخل أساسي لحل المشكلات.
تأسيسا على كل ما سبق خرج العمل ببعض التوصيات للحد من الظاهرة أبرزها، ضرورة التمسك بالمقاربة الأمنية/ العسكرية كخيار أساسي لمواجهتها، فالمسألة تتعلق في بعد جوهري منها بميزان القوة، لذلك لا يمكن الاستغناء عن هذه الآلية في إضعافها على الأقل لإجبارها بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، خاصة وأن من يقف وراءها دولة إقليمية لها أهداف توسعية مسيطرة منذ عقود. وهذا لا يعني الاستغناء عن المقاربات السلمية في معالجة مشكلة الجماعات الشيعية المسلحة، بل يتوجب تفعيلها، ويأتي في مقدمتها بناء دولة العدل والقانون، والاهتمام بالتنمية بمختلف أبعادها.