في ظــل تأثيــر التفــاعلات فيمــا بين القــوى الكبــرى داخل النظــام الدولــي في النظــم الإقليمية الفرعيــة كما هو الحال بالنسبة للحرب الروسية ــ الأوكرانية، وما نتج عنها من تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية طالت مختلف دول العالم، بما في ذلــك الأقاليم الإستراتيجية الكبرى، فإن للتفاعلات ــ صراعية كانت أو تعاونية، بين وحدات النظم الإقليمية الفرعية ــ تأثيرها المتبادل في النظام الدولي.
فالنظام الدولي يمر حاليا بمتغيرات عديدة، غيرت من تركيبته الجيوستراتيجة، وجعلت المجتمع الدولي يتحدث عن عالم متعدد الأقطاب يخلو من الهيمنة الأمريكية.
بناء على ذلك فإن الشرق الأوسط يعاد تشكيله في ظل تلك التطورات والنزاعات الممتدة والمستمرة التي لم تتضح معالمها الجديدة. وهنالك عشرة الصراعات في المطقة أبرزها: القضية الفلسطينية، اليمن، ليبيا، لبنان، منطقة القرن الإفريقي، تلك الصراعات جعلت المنطقة ساحة للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية الساعية لتعزيز مصالحها من خلال دعم بعض الأطراف على حساب الطرف الآخر.
ففي وقت تتزايد فية التحولات والتغيرات ظهر مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” خاصة بعد الحرب الدموية الإسرائيلية على غزة وغيرها من الدول في المنطقة، هذا المصطلح يعكس حقبة جديدة من العلاقات الدولية والنظام الإقليمي الذي يشهد إعادة تشكيل موازين القوى، وظهور تحالفات جديدة قد تعيد رسم خريطة النفوذ والسلطة في الشرق الأوسط.
ومع ذلك تبقى مجموعة من علامات الاستفهام بارزة: هل صحيح أن شرقا أوسطا جديدا قيد التشكل؟ وهل تدرك إيران ذلك؟ وما هو موقعها في أي نظام إقليمي جديد؟!
للإجابة عن هذه الأسئلة يمكن القول إن هناك بعض السمات التي تدل علي وجود شرق أوسط جديد من أهمها:
ــ زيادة فاعلية الفاعلين من غير الدول: فقد تزايد دور وتأثير الجماعات المسلحة من غير الدول في توجية الأحداث والتأثير فيها، وأتضح ذلك علي سبيل المثال وليس الحصر عند قيام حركة حماس بالتفاوض مع الفاعلين الدوليين بشأن الصراع الحالي في فلسطين وإتمام صفقات تبادل الأسرى معهم.
ــ زيادة عدد الدول غير المستقلة: هناك اتساع لعدد الدول غير المستقلة والضعيفة في المنطقة تلك التي أصبحت على وشك الانهيار بشكل كلي، فقد كانت بعض هذه الدول فاعلة على الساحة الإقليمية مثل: سوريا والعراق واليمن. وأصبحت ساحة للنفوذ بين القوى الخارجية التي تحاول إعادة توجية صناعة القرار فيها.
ــ تراجع الدور الأمريكي: لم تعد الولايات المتحدة هى القوة المهينة الوحيدة على المنطقة ذلك بالتزامن مع تصاعد الدور الروسي والصيني في الإقليم، إذ يمكننا القول إن المنطقة أصبحت في مرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية. لكن هذا لا يعني انتهاء الدور الأمريكي، فقد رأينا في الآونة الأخيرة أن الولايات المتحدة تحاول إعادة تأكيد وجودها العسكري في الإقليم من خلال حرب غزة الجارية.
ولابد من تسليط الضوء على النفوذ الإيراني الذي يعتبر عاملا رئيسيا في الشرق الأوسط الجديد، حيث تسعى إلى تعزيز تحالفاتها الإقليمية، وتوسيع دائرة نفوذها، وهو ما يشكل تحديًا للسياسات الأمريكية، ويخلق توترات مع دول الخليج العربي وإسرائيل.
من هذا المنطلق، يحاول هذا التقدير استعراض مستقبل الشرق الأوسط في ظل التحولات الإقليمية والدولية، في ضوء الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزة بحيث يتم التركيز على الصراع الإيراني ــ الإسرائيلي الجاري، وصراع القوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وتحويلها إلى ساحة للتنافس بينها، ومستقبل الشرق الأوسط في الميزان الإستراتيجي الدولي.
أولا: المواجهة الإيرانية ــ الإسرائيلية
يترقب الشرق الأوسط بل والعالم كله رد الفعل الإيراني وحزب الله وحركة حماس على قيام إسرائيل بسلسلة من الاغتيالات النوعية ضد عدد من قادة حماس وحزب الله في طهران وغزة وبيروت، فقد مثل اغتيال إسماعيل هنية إهانة وإحراج لإيران وإظهارها كدولة لا تمتلك القدرة على حماية ضيف رسمي. وتسود المنطقة في الوقت الحالي حالة من الخوف من تغير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران ووكلائها والدخول في حرب مفتوحة.
ولعل الطرف الأهم في هذه المعادلة هي إيران، نظرا لتحكمها في إشعال حرب كبرى بالمنطقة فهي دولة إقليمية كبيرة لها دور قيادي وفعال في المنطقة ولها حسابات فيما يتعلق بالقوى الفاعلة في الإقليم والقوى الكبرى في العالم. ترتكز حسابات إيران على ثلاث ركائز:
الأولى: أن المواجهة مع إسرائيل طويلة تعمل فيها إيران علي أن تعيش إسرائيل في حالة شعور دائم بالخطر وعدم الأمان ومن هنا يأتي التزام إيران بسياسة “الصبر الإستراتيجي”.
الثانية: تعتمد على حصار إسرائيل بعدد من التنظيمات المسلحة الموالية لإيران ــ مثل حزب الله ــ التي تستطيع من خلالها ضرب العمق الإسرائيلي.
الثالثة: تحاشي الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل إذ تعلم طهران أن هذه الحرب سوف تشارك فيها واشطن بجانب إسرائيل.
على هذا النحو يوجد تصعيد على عدة مستويات وعلى أكثر من جهة، مما يدفع بمنطقة الشرق الأوسط إلى احتمالات حرب مفتوحة في أي وقت، والتي قد تعني دخول المنطقة في حروب لا نهاية لها، خاصة بعد الموجهات المباشرة بين إيران وبين إسرائيل.
هنا لابد من التأكيد على أن التهديدات الإسرائيلية للبنان هي الأعنف منذ بداية الحرب، فقد أكدت الولايات المتحدة على مساندة إسرائيل في حرب موسعة مع حزب الله، وأرسلت إلى شرقي المتوسط حاملة الطائرات “أيزنهاور” لدعم إسرائيل في أي عمليات عسكرية مرتقبة وردع حزب الله بموازة تهديدات مشابهة بدخول إسرائيل في حرب شاملة ضد لبنان.
ولعل المواجهات السابقة بين إسرائيل وحزب الله تنبئ بعدد من القواعد في موازين القوى بينهما خاصة فيما يتعلق بالمواجهات البرية والبحرية، بأن الحرب الموسعة بينهم إذا ما اندلعت سيكون هو التدمير المتبادل للبني التحتية بين الطرفين، فحزب الله قادر علي حماية بناه العسكرية وترسانة السلاح والذخيرة والمسيرات، ولكن انكشاف الداخل اللبناني أمام الضربات الإسرائيلة المحتملة أكبر.
يبدو الآن أن حزب الله متمسك بشدة برفض أي حلول دبلوماسية قبل انتهاء الحرب علي غزة لأن ذلك يمثل له المكسب الإستراتيجي الوحيد فهو يعتبر ترسيخا لمبدأ “وحدة الساحات” وتنصيب نفسة كخصم يفرض على إسرائيل الشروط التي يجب أن تمتثل لها.
في المقابل ترفض إسرائيل الموافقة على شروط حزب الله مستندة على تفوقها العكسري على الجبهة اللبنانية، ولكن في الحقيقة فإن ما فقدته إسرائيل من هيبة عسكرية على جبهة غزة لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال على حبهة لبنان، بل إن قرار شن حرب موسعة ضد لبنان قد يسبب خسائر عسكرية ليس فقط على مستوى مؤشر ميزان القوى والردع بينها وبين حزب الله، وإنما أيضا على مؤشر الخسائر الجغرافية والأراضي المحتلة واحتمالية تقليص مساحة الأراضي الإسرائيلية.
وبينما لا يزال حزب الله ملتزما بعدم البدء في الاستفزاز المفضي إلى الحرب، فإنه على يقين بأن قوتة الحقيقية تكمن في التهديد بالحرب وليس إشعالها، فالقرار الإسرائيلي قد يتجه إلى إشعال الحرب في جبهة أخرى لتعويض خسائر حرب غزة، فقد استدرجت الحلفاء من القوى الكبرى لتقديم الدعم غير المشروط.
ثانيا: الشرق الأوسط ساحة للتنافس الدولي
بعد انقضاء أحادية القطب سواء على صعيد منطقة الشرق الأوسط أو على الصعيد العالمي، أصبح مسموحا للقوى الإقليمية بالانخراط في عمل موازن للتأكيد على استقلاليتها في المسائل الإقليمية تجاه القوى العالمية، فقد أظهرت روسيا رغبة كبيرة في اتخاذ التزامات أمنية إقليمية بينما زادت الصين من حضورها في الاقتصادات الإقليمية، بالإضافة إلى المقترحات التي قدمتها كل من موسكو وبكين فيما يتعلق بالأمن الإقليمي وهو خير دليل على التعددية القطبية في المنطقة في إطار علاقاتها بالقوى العالمية.
في شهر يوليو 2019، قدّمت موسكو رؤيتَها من أجل إطارٍ أمني جماعي لمنطقة الخليج تحت عنوان “اقتراح روسيا الاتحادية بشأن الأمن الجماعي في منطقة الخليج“، وتقترح الوثيقةُ من بين عدد من البنود “أن يكون الهدفُ المركزي الطويل الأمد إقامة منظمة للأمن والتعاون في الخليج تضمّ إضافةً إلى الدول الخليجية، روسيا، والصين والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والهند وسائر الأطراف المعنية بصفة مراقبين أو أعضاء مشاركين.
يمكن القول إنّ روسيا سعت من خلال هذه الاقتراحات إلى أن تصبح لاعباً وصاحب مصلحة أساسياً في الأمن الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط عامةً، ويُفترض أنّها تؤدّي دوراً طموحاً في الخليج على وجه الخصوص، وهي منطقةٌ ارتبطت إلى حدٍّ كبير بالولايات المتحدة لناحية الأمن.
من جهة أخرى ما زالت الصين، وهي أساساً قوةٌ اقتصادية، تُحجم عن تأدية دورٍ أمني بارز في الشرق الأوسط، مع محاولة اللعب على خطوط الصدع في المنطقة في الواقع، لقد قدّمت بكين العديد من الطروحات واستضافت مؤتمرات واجتماعات حول الأمن الإقليمي والصراعات في الشرق الأوسط في العام 2018، في خلال حفل افتتاح الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون بين الصين والدول العربية.
ثالثا: التنافس الدولي في المنطقة بعد حرب غزة
أماطت الحـــرب الإسرائيلية علـــى قطـــاع غـــزة اللثام عن أن وجـــود وتنافـــس القـــوى الدوليـة فـــي الشـــرق الأوسط مرتبـــط بدرجـــة كبيـــرة بمـــا تريـــده الـــدول العربيـــة ذاتهـــا ودول الجـــوار فـــي المنطقـــة، ومـــدى التنســـيق فيمـــا بينهـــا وســـد الثغـــرات الكبيـــرة التـــي يدخـــل منهـــا النفـــوذ والســـيطرة الخارجيـــة وسيســـتمر التنافـــس بيـــن القـــوى الدوليـــة للحصـــول علـــى مزيـــد مـــن المصالـــح ومراكـــز النفـــوذ.
هذا على اعتبـــار أن الشـــرق الأوســـط واحـــد مـــن المناطـــق بالغـــة الأهمية الإستراتيجية في العالم، مـــن حيـــث الموقـــع والمـــوارد والإمكانيـــات البشـــرية وســـتعمل الولايات المتحـــدة الأمريكية علـــى زيـــادة وجودها وتقويـــة مراكـــز نفوذهـــا فـــي المنطقـــة فـــي مواجهـــة تنامـــي النفـــوذ الروســـي والصينـــي، معتمـــدة علـــى مـــا تتمتـــع بـــه مـــن علاقـــات وثيقـــة مـــع الغالبيـــة من دول المنطقة حتى وإن اختلفت معها في بعض القضايا والأزمات.
ولقد ترتب علي عملية “طوفان الأقصى” تداعيات على المستويين الإقليمي والدولي، فقد أثارت في الداخل الإسرائيلي توترات ترتب عليها عدم الثقة في الحكومة الإسرائيلية وتسريع وتيرة الاحتجاجات ضد الحكومة، فقد أدى ذلك إلى قيام الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوروبية بتقديم الدعم الشامل وتوفير غطاء عسكري وسياسي لإسرائيل ودعم حربها على قطاع غزة، بينما اتسمت مواقف روسيا والصين بالتوازن والميل نحو الدفاع عن الشرعية الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني.
تعتبر واشطن إسرائيل امتداد لها في الشرق الأوسط وجزء من الأمن القومي الأمريكي، في ضوء ذلك قدمت الولايات المتحدة كل أشكال الدعم لإسرائيل في تلك الحرب الجارية ووفرت غطاء سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا أيضا لدعم إسرائيل، ومنع صدور أي قرار يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة من خلال استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، بالإضافة إلى عدم احترام حرية الرأي والتظاهرات التي وقعت في نواحي مختلفة من الولايات المتحدة منددة بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين.
كل ذلك بالتوازي مع استمرار التوافق الأمريكي الإسرائيلي في القضاء على حركة حماس بشكل نهائي، ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة استغلت الخلافات القائمة بين بعض الدول العربية والتيار الإسلامي المسيطر على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تحديدا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، من أجل تخفيف ردود الفعل العربية تجاة التوافق الأمريكي الإسرائيلي، وتجاه حالة الغضب لدى الشعوب العربية.
لم تقتنع روسيا منذ اندلاع الصراع بأن هذه الحرب دفاع عن النفس كما تزعم إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وترى روسيا أن إسرائيل كدولة احتلال في مواجهة مع حركة مقاومة فلسطينية، وقد رفضت كل القرارات التي وصفت المقاومة بالإرهاب.
فقد استقبلت موسكو قادة حماس والجهاد الإسلامي، كما عقدت اجتماع للمصالحة بين حركتي فتح وحماس في موسكو، وطالبت دائما بوقف القتال وعدم إعاقة دخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ومنع التهجير القسري وأيدت عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وفي مقابل استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو وتعطيل القرارات التي صدرت من الأمم المتحدة من قبل لصالح فلسطين، طالبت روسيا بضرورة إصلاح الخلل في النظام الدولي وإلغاء الهيمنة الامريكية التي تشجع إسرائيل على عدوانها ضد فلسطين وباقي الدول في الشرق الأوسط.
من ناحية أخرى لعب التركيز الإعلامي الدولي على الحرب الإسرائيلية في غزة دورا إيجابيا لصالح روسيا في حربها على أوكرانيا، ووجهت اتهاما للدول الغربية بازدواجية المعايير بسبب مواقف الدول الغربية بمعاقبة روسيا، بينما على الصعيد الآخر ترفض إصدار قرارات بوقف الحرب الإسرئيلية غير المتكافئة على غزة.
فقد لاقى الموقف الروسي قبولا عربيا على المستوى السياسي والإعلامي، هذا بالإضافة إلى سعي روسيا الدؤوب لتدعيم مركزها في الشرق الأوسط وطرح بدائل لما تقدمه الدول الغربية لدول المنطقة من تعاون وخبرات في مختلف المجالات.
يتفق الموقف الصيني مع الموقف الروسي من الحرب الإسرائيلية على غزة، ودائما ما تحذر الصين من اتساع الصراع في المنطقة وما يمثله من مخاطر شديدة على أمن دولها واستقرارها وعلى مصالح شركائها. وفي ضوء ذلك قامت الصين بدور الوساطة بين إسرائيل وبين فلسطين ولكن لم يؤخذ به، بسبب إدراك الأطراف المعنية عدم امتلاك الصين أدوات الضغط الكافية على إسرائيل لمواجهة الدعم الأمريكي الشامل لها.
تركز الصين في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط علي المجالات الاقتصادية والتجارية وتأييد قرارات الأمم المتحدة لتسوية المنازعات بالطرق السلمية ووفقا للقانون الدولي دون ضلوعها في مواقف حادة تؤثر على مصالحها وعلى علاقاتها مع دول المنطقة.
رابعا: تشكيل الشرق الأوسط الجديد في الإستراتيجية الأمريكية
تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم استهدافا من قبل القوى الإقليمية والدولية، نظرا لما تملكه من قدرات اقتصادية ونفطية كبيرة وأهمية جيوسياسية في تحديد موازين القوى؛ لذلك فإن أبرز أشكال الصراع اليوم هو الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على المنطقة وتحويلها إلى ساحة للتنافس فيما بينها.
وليس من نافلة القول إن ذلك التنافس والصراع يحدث بسبب هشاشة النظام العربي وظهور المنظمات الإرهابية التي ترتب عليها بروز ظاهرة الحروب الأهلية داخل دول المنطقة.
في إطار سعي الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة تشكيل المنطقة على أساس قاعدة “شرق أوسط جديد”، تربط الولايات المتحدة العمل العسكري بالدبلوماسية لتحقيق هذا الهدف، فجوهر الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع دول الشرق الأوسط وعودة الهيمنة الأمريكية يكمن في ربط العمل الدبلوماسي بالعمل العسكري.
يعزز نجاح الدبلوماسية الأمريكية في دفع عملية السلام في المنطقة خاصة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بالإضافة إلى تعزيز مكانة واشنطن بالمنطقة في ظل التنافس مع كل من الدور الروسي والصيني، كما يمكن أن يؤدي ضبط العلاقات بين إسرائيل والسعودية إلي إعادة تنظيم القوى الإقليمية، وبالتالي وضع حدود للنفوذ الإيراني وتعزيز السلام والتعاون، كل ذلك سيؤدي إلى خلق شرق أوسط أكثر استقرارا، وهذا بطبيعة الحال من منظور أمريكي.
لكن على الرغم من المكاسب التي من الممكن أن تحققها الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، يوجد سلبيات متمثلة في:
ــ السعي الإيراني نحو تعزيز النفوذ بشكل أكبر عن طريق الانتقام بشكل مباشر أو من خلال وكلائها في المنطقة.
ــ الاعتماد على الدبلوماسية فقط من دون معالجة المخاوف الأمنية والعسكرية لن يكون كافيا للحد من النفوذ الإيراني.
ــ أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد شرق أوسط جديدا خاليا من الوجود الإيراني بشكل مباشر أو حتى وجود وكلائها في العراق ولبنان وغزة وهو أمر غير وارد في المدى المنظور.
خامسا: عوامل إعادة تشكيل مستقبل الشرق الأوسط
مع اتساع رقعة التوترات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا خارج أسيا والمحيط الهادئ، ومع تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة ودخول أطراف أخرى في الحرب، فمن المرجح أن تغدو منطقة الشرق الأوسط ساحة مواجهة للحرب بين بكين وواشنطن وموسكو وتشكيل ما يسمى بـ “الشرق الأوسط الجديد”.
وهناك ثمة عوامل تحدد مستقبل المنطقة في ظل المنافسة بين القوى الكبرىن وهي كالتالي:
- العلاقات السياسية داخل المنطقة
يتعلق هذا العامل بالتفاعلات بين دول المنطقة سواء أدت إلى التكامل على المستويين الاقتصادي والسياسي، أو إطالة أمد عدم الاستقرار، ففي ظل التكامل الفعال والعملي تبلور المنطقة عمليات تداولية وتشاورية لصنع القرار، تمكنها من التصرّف باستقلالية ومن صون مصالحها الخاصة، بدلًا من الرضوخ لإملاءات الولايات المتحدة والصين في إطار المنافسة بينهما.
أما المسار البديل فهو واضح المعالم: بحيث تواصل حكومات المنطقة دعم مختلف الجماعات المسلحة المنخرطة في حروب بالوكالة، وتتحجّج بهذه الذريعة لتجاهل حقوق الإنسان، ما يمكّن الجهات الفاعلة الخارجية من استغلال هذا الشلل.
- محددات الاقتصاد المستقبلي
إن منطقة الشرق الأوسط وما يتيحه لها موقعها الإستراتيجي من التأثير في المشهد العالمي، واكتساب قدر من الاستقلالية في ظل المنافسة الأمريكية ــ الصينية ــ الروسية على المنطقة، ذلك من خلال الاستفادة من قوّتها في مجالي الطاقة والمال بطرُق مختلفة في المرحلة المقبلة.
فمع تحوّل العالم نحو الطاقة المتجددة، تُضاعِف الدول النفطية في المنطقة جهودها في مجال تنويع الاقتصاد، التي تتركّز بشكل أساسي على قطاعات التكنولوجيا، بالتوازي مع الاستفادة من ثروتها لتمويل مشروعات الطاقة المراعية للمناخ ومبادرات الاقتصاد الأخضر الأخرى في جوارها وحول العالم.
وعليه، يتمثّل الطموح الجديد لدول المنطقة الغنيّة بالموارد ورأس المال في تعزيز الابتكار وبناء مراكز العلوم والتكنولوجيا والفكر، تحضيرًا لاقتصاد ما بعد الكربون الذي تعتزم الإنسانية بناءه في القرن الحادي والعشرين.
خاتمة
يمكن القول إنه مع كل حدث جديد يقع في المنطقة ينتشر مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، فعندما تم توقيع اتفاقات إبراهام عام 2020م، قيل إن الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة. وعند الضربة الإيرانية على إسرائيل التي تمت في إبريل الماضي، جرى الحديث أيضا عن شرق أوسط جديد، يمكن أن تتطور فية الأمور إلى تحالف إقليمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يضم دولًا أساسية في حلف الناتو، وإسرائيل، وبعض الدول العربية، ضد إيران ووكلائها في المنطقة.
ولعل ما حدث بعد “طوفان الأقصى” ليس إلا استمرار لظواهر كانت موجودة بالفعل، ولا يعني هذا أن المنطقة تشهد نقلات نوعية مختلفة تغير ما هو موجود أو تتناغم الظواهر والعوامل فيما بينها لتحدث واقعًا مختلفًا.
فالحرب الدائرة على الفلسطينيين بما تنطوي عليه من احتمالات التصعيد الإقليمي، ليست سوى مصدر قلق واحد ــ وإن كان رئيسيًا ــ في منطقة تعاني من اختلالات هيكلية، ومعرضة لعدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وعدم القدرة على التنبّؤ.
وعلى الرغم من التحديات الهائلة التي يفرضها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها لم تغير الأهداف الإستراتيجية والاقتصادية طويلة المدى للقوى المتنافسة في المنطقة، إلا أن نتائجها سترسم ملامح الصراع حول الممرات الدولية، ومستقبل خطوط الطاقة.
في الأونة الأخيرة تحدث بعض المراقبين عن وجود خلافات سياسية جذرية بين إسرائيل والولايات المتحدة، لكن الواقع يشير إلى أن هذا الخلاف ما هو إلا وهم ، إذ أن العلاقات بين الدولتين ذات طابع اندماجي متكامل، فإسرائيل امتداد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط لتحقيق مصالها، وفي تصريحات بعض المسؤولين في واشنطن يقولون: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراع وجودها بسبب ما تقدمه لنا من خدمات إستراتيجية وتسهيلات أمنية”.
وفيما بتعلق بإيران، تتبع طهران سياسة “الصبر الإستراتيجي” للمحافظة على وجودها، بينما يتأرجح حزب الله بين الصعود والهبوط في ردود فعل عسكرية، لكن الأمر المؤكد هو أن إيران وحزب الله لا يسعيان إلى التصعيد، بينما ظهر الحوثيون بديلاً لذلك كله فأصبحت قوتهم شراً مستطيراً على السفن العابرة في البحر الأحمر متجهة إلى قناة السويس، وهنا ينبغي تذكر أن مصر قد أصبحت خاسراً بالقنبلة البشرية الموقوتة على حدودها الشرقية من جانب وتراجع المدخول الشهري لقناة السويس من جانب آخر؛ ما أثر بالسلب على الاقتصاد المصري الذي يعاني منذ سنوات حالة من الركود والتدهور.
وخلاصة ما أعلاه أن احتمالات المستقبل تتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، ووجود كل الاحتمالات أمام رؤية أصحابها مهما اختلفت زوايا النظر وتباعدت الرؤى وفقاً للمصالح التي تتأرجح صعوداً وهبوطاً وشيوع الحرب بالوكالة في مناطق مختلفة من إقليم الشرق الأوسط وهي حرب ساحات متنوعة تحركها إيران.
ـــــــــــــــــــــ
المراجع:
ــ “إستراتيجية أمريكا للشرق الأوسط الجديد.. تعرف عليها”، موقع قناة سكاي نيوز عربية، فبراير 2024م: https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1690873
ــ “هل يتحول الصراع في الشرق الأوسط إلي حرب مفتوحة؟” موقع قناة الحرة للأخبار، أبريل 2024م: https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2024/04/19
ــ السفير رخا أحمد حسن، “الحرب علي غزة وتنافس القوي الدولية في المنطقة” مجلة أفاق استراتيجية العدد 9 ، يوليو 2024م، مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار: https://idsc.gov.eg/upload/DocumentLibrary/AttachmentA
ــ د علي الدين هلال، “سيناريوها الحرب المفتوحة في الشرق الأوسط”، مركز المستقبل، أغسطس 2024م: https://www.futureuae.com/ar
ــ د. محمد عباس ناجي، “ماذا لو أندلعت الحرب الشاملة بين إسرائيل وإيران”، مركز الأهرام للدراسات السياسية ولاستراتيجية، يوليو 2024م: https://acpss.ahram.org.eg/media/News/
ــ د. مصطفي الفقي، “مستقبل الشرق الأوسط بين التفاؤل والتشاؤم” ، موقع العربية نت، أبريل 2024م: https://www.alarabiya.ne
ــ ديمتري بريجع، “الشرق الأوسط الجديد” مركز الدراسات العربية الأوراسية، أبريل 2024م:https://eurasi
ــ غالب دالاي، “منافسة القوي العظمي في الشرق الأوسط: سباق من دون رؤية؟ ، مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، يوليو 2022: file:///C:/Users/makaa/Downloads/Great-Power-Competition-IB-Dalay-Arabic.pdf
ــ غسان ملحم، “مستقبل الشرق الأوسط في الميزان الاستراتيجي”، يناير 2023م، موقع الجامعة اللبنانية البحوث القضائية والسياسية:http://dspa.ul.edu.lb/post/
ــ ناجي شراب صادق، “شرق أوسط قيد التشكيل”،موقع صحيفة الخليج، أبريل 2021م: https://www.alkhaleej.ae/2021-04-01
ــ هشام جعفر، “الشرق الأوسط الجديد لا ينبغي المبالغة في الاستنتاجات”، موقع قناة الجزيرة، أبريل 2024م: https://www.ajnet.me/opinions/2024/4/30