منذ إبريل العام المنصرم والعالم يترقب صعود الدخان الأبيض من قصر كوبورغ في فيينا الذي تعقد به المفاوضات المكوكية والمعقدة بين دول 4+1 وإيران لإحياء اتفاق 2015 والذي من المقرر أن يفضي لعودة الجانب الأمريكي إليه والالتزام الإيراني ببنوده وفق الصيغة الجديدة.
المقاربتان الأمريكية والإيرانية
شهدت الشهور السبعة عشر الماضية الكثير من الأحداث أهمها الانتخابات الإيرانية التي أتت بحكومة محافظة بأقل نسبة مشاركة بالانتخابات منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 كما أن البلاد شهدت احتجاجات هتفت جهاراً بإسقاط النظام واستهدفت المرشد الإيراني ورئيس الجمهورية الجديد، بالتوازي مع ذلك شهد العالم أهم نكستين للغرب عبر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والذي أفضى لعودة طالبان إلى الحكم وكذلك الغزو الروسي لأوكرانيا، هذا فضلاً عن أزمة الطاقة العالمية وارتدادات فيروس كوفيدـ19 واحتدام الصراع الصيني ــ الأمريكي.
على الرغم من سرية المفاوضات والتي التزم حتى الآن الجميع بعدم الكشف عن تفاصيلها الرسمية الدقيقة، غير أن هنالك مجموعة من النقاط تثير الإعجاب والإندهاش في آن واحد، وهي كثرة المقاربات والتكتيكات التفاوضية التي اعتمدها الجانبان الأمريكي والإيراني خلال الجولات السبع الماضية، ما ينم من دون شك عن الصعوبات التي تعتري التوصل السريع لاتفاق وكذلك تعبر عن عمق الاختلاف بين الأطراف المفاوضة.
ولعل الجانب الإيراني خلال هذه الجولات السبع كان الأكثر مراوغة والأبعد مماحكة ومماطلة، فبينما الجانب الأمريكي اعتمد مع إيران مقاربة “حافة الهاوية” وفق مسار معين، هو «لا نووي ــ لا حرب» فيما يبدو الجانب الإيراني اعتمد المقاربة نفسها لكن بمسار مختلف وهو «لا اتفاق ــ لا انسحاب» حتى الحصول على اتفاق جيد يضمن مصالحه وتطلعاته التوسعية في المنطقة.
ولعل هذه المقاربة التي تبدو أشبه بلعبة السلم والثعبان هي ما تفسر خيبات الأمل الغربية المتكررة كل ما لاحت في الأفق ملامح التوصل إلى اتفاق. وهنا السؤال المركزي الذي يفرض نفسه لماذا تعتمد إيران هذه المقاربة على الرغم من الصعوبات الاقتصادية والغضب الشعبي على الصعيد الداخلي من جانب وتفويت الفرصة السانحة بهرولة الغرب نحوها على الصعيد الخارجي من جانب آخر؟!
البيت الداخلي المأزوم
إن أحد أهم العوامل في الدوامة الحالية للمفاوضات هي الأزمة الناتجة عن التطبيق العشوائي وكثرة التكتيكات التي اعتمدتها إيران في سبيل المماطلة حتى الآن ولعل الخلافات المحتدمة بين أجنحة السلطة التي كادت أن تؤدي إلى عزل الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، أدت إلى أن تتحول بعضا من هذه التكتيكات التفاوضية إلى عوائق حقيقية في آلية صنع القرار النووي في إيران.
وتعد أهم هذه العوائق تلك المتعلقة بوضع مجموعة من الخطوط الحمراء على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي تحولت إلى قانون برلماني ملزم للحكومة، حيث يهدد هذه القانون في أحد فقراته الرئيس الإيراني بالمحاكمة والعزل في حال التخلف عن أي منها. كما جعل هذا القانون مهمة اتخاذ القرار النهائي بعهدة المجلس الأعلى للأمن القومي، وهذا بالتالي أفضى إلى أن يكون القرار النووي الايراني يتسم بعدة خصائص، أهمها أن هذا القرار يترتب عليه عواقب قانونية للجهة التي تتفرد باتخاذ القرار وهنا يُقصد بالتحديد الفريق المفاوض سواء عبر وزير الخارجية أو رئيس الجمهورية.
هذا ولعل الخبرة التي اكتسبها كل السياسيين من كل التوجهات والتيارات الإيرانية بكيفة التعامل مع المرشد الإيراني في مثل هذه المواقف والقرارات تلعب دوراً حاسماً فيما يتعلق بخشية كل الأطراف لاتخاذ قرار نهائي حول الاتفاق النووي.
ومن المعروف عن المرشد الأعلى بأنه عادة ما يتنصل من تحمل المسؤولية لأي تقارب أو تفاوض مع الجانب الغربي، حتى إذا كانت مصلحة البلاد تقتضي ذلك، علماً بأن هذا الأمر لا يعني بأنه يغلق الباب نهائياً أمام عملية التفاوض، بل يجب القول إنه يفضل بالتوازي مع عملية التفاوض البحث عن كبش فداء جديد في حال فشل المفاوضات أو نكث الجانب الغربي بتعهداته، وهذه النقطة بالتحديد تفسر ما آل اليه مصير رؤساء الجمهورية السابقين في إيران بين العزلة والغياب من المشهد السياسي.
من هنا يمكن اعتبار البيت الداخلي الإيراني المأزوم يعاني دستوريا من تحول صنع القرار النووي إلى “دائرة مشاع” بين الحكومة بفريقها المفاوض والبرلمان بلجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية إلى جانب المجلس الأعلى للأمن القومي.
ما يزيد من تلك النزعة هو أن الخطوط الحُمر لكل هذه الجهات آنفة الذكر غير موحدة بل وتلعب المصالح السياسية والجهوية والاقتصادية لكل منها دوراً في تحديد والتشديد على هذه الخطوط الحمر من عدمها.
فالبرلمان الإيراني الذي يسيطر عليه الحرس الثوري، يشدد على الانتفاع الاقتصادي المقيد في الصيغة الأوروبية المقترحة حاليا، كما أن المجلس الأعلى للأمن القومي يشدد على إبقاء التكنولوجية النووية وأجهزة الطرد المركزية (على خلاف ما ينص عليه اتفاق 2015) داخل الحدود الإيرانية، بينما الفريق المفاوض ونظراً لعدة نقاط داخلية وخارجية جعل خطه الأحمر هو إنهاء التحقيق من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المواقع التي تم فيها تجاوز العتبات النووية المسموح بها دوليا.
إذن يعد الخلاف الداخلي أهم العوامل التي جعلت المفاوضات الإيرانية ــ الغربية أشبه بلعبة السلم والثعبان التي تؤل إلى الخيبة كل ما لاح بالأفق قرب التوصل إلى خط النهاية، مع ذلك إلى جانب هذه العوامل فيما يبدو بأن المتغيرات الدولية لها تأثيرات لا تقل أهمية عن النقاط المذكورة أعلاه. ولعل الدور الروسي باعتباره اللاعب السياسي الحاسم والحكم في آلية تطبيق الاتفاق النووي، يعد من أهم العوامل لإنجاح أو إخفاق التوصل لأي اتفاق.
تخادميه الموقف الروسي الإيراني
في التسجيل المسرب الشهير لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بَيّن الأخير بالتفاصيل الدور الروسي السلبي الذي كاد أن يؤدي إلى عدم التوقيع على الاتفاق النووي في عام 2015، بحيث رفض سيرجي لافروف الحضور باللقطة الإعلامية الشهيرة لوزراء خارجية ٥+١ والتي سبقت عملية التوقيع على الاتفاق.
هذا الموقف السلبي لروسيا بالملف النووي قابله تعاون مع فيلق القدس عبر قائده السابق قاسم سليماني خاصة في سوريا وربما هذا الآمر هو الذي جعل التيار المقرب من المرشد الإيراني يشعر بضرورة تطبيق سياسة التوجه نحو الشرق والتي اتخذها إبراهيم رئيسي شعارا لسياسته الخارجية.
بالطبع لم توفق سياسية إبراهيم رئيسي الخارجية حتى الآن بتشكيل تحالف عميق واستراتيجي بينها وبين الجانب الروسي ولعل الطريقة الاستعلائية التي واجه بها الرئيس الروسي نظيره الإيراني خلال زيارته إلى موسكو، تنم عن الطبيعة التي ترى من خلالها الأخيرة حجم الدور الإيراني في أي تحالف ثنائي على حساب المصالح الدولية لروسيا والذي من المستبعد بأنها تفرط بها لصالح إيران.
مع ذلك كان الدور الروسي واضحاً بالميل نحو إيران خلال المفاوضات النووية الأخيرة، ضمن استراتيجية «الاستراتيجية التخادمية الروسية ــ الإيرانية» وقوامها توزيع الأدوار وتنسيق المواقف لصالح الأهداف والمصالح التي تبحث عنها كل من هاتين الدولتين في خلافهما أو صراعهما مع الغرب.
من هنا يمكن تفسير أحد أسباب المماطلة الإيرانية عبر طرحها لشروط تعجيزية في المفاوضات ضمن هذه الاستراتيجية التخادمية، فبالقدر الذي تحتاج به إيران إلى الضغط على الغرب لإنهاء تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمواقع الثلاثة المشتبه فيها والتي تفيد الوثائق المسربة بواسطة إسرائيل بشكل دامغ بأن ايران كان لها توجه للحصول على القنبلة النووية.
بالمقابل روسيا ترى بأن النفط والغاز الإيراني بالإمكان أن يسحب هامش المناورة والضغط الروسي عن أوروبا، كما أن الجانب الروسي يحتاج إلى الاستفادة من التجربة الإيرانية بعملية الاتفاف على العقوبات الأمريكية وكذلك التزود بالمسيرات الإيرانية الرخيصة والعملية.
الالتفاف على جلسة مجلس الحكام
على ضوء ما تقدم تمر إيران حالياً بخلاف داخلي على الصيغة النهائية التي يجب أن يكون عليها الاتفاق، كما أنها على علم بأن مماطلتها على ضوء إدانة الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابقة قد تؤدي خلال الجلسة المقبلة في منتصف الشهر الجاري إلى الدفع باتجاه تفعيل آلية الزناد المنصوص عليها باتفاق 2015 من هنا سيعمل الجانب الإيراني وبالتنسيق مع الجانب الروسي والصيني على الإصرار على مجموعة من الأمور التي سبق وأن تخلى عنها وفقا للتسريبات الإيرانية والأمريكية، وأهمها الضمانات الأمريكية وآلية التحقق من رفع العقوبات والانتفاع الاقتصادي العاجل، لصالح الضغط على الجانب الغربي بمسألة واحدة وهي إنهاء التحقيق بالمواقع الثلاث وعدم إصدار تقرير يدين نشاطها وبالتالي يؤدي لانهيار المفاوضات والتوجه نحو تفعيل آلية الزناد، وبالمحصلة احتمالية إعطاء الضوء الأخضر للجانب الإسرائيلي بتفعيل استراتيجية المعروفة «برأس الأخطبوط».
علماً بأن هنالك فريقا أكثر تشدداً من داخل التيار الأصولي الإيراني ــ يمثله سعيد جليلي ــ يرى بضرورة عدم الاكتفاء بالالتفاف على جلسة مجلس الحكام المرتقبة، بل يرى بضرورة تأجيل الاتفاق إلى بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، وذلك بهدف تقييم مستقبل التعامل مع إدارة بايدن فنجاح الديموقراطيين من شأنه أن يمنح الجانب الإيراني ثقة أكبر بالتعامل مع حكومة بإمكانها أن تستمر ربما إلى دورة رئاسية ثانية بينما فشل الديموقراطيين وسيطرة الجمهوريين بإمكانه أن يضعف موقف إدارة بايدن و يجعلها مضطرة للتنازل أكثر، لأنها لا تستطيع أن تضمن أن تكون الإدارة المقبلة ديموقراطية ولا تخرج من الاتفاق مرة أخرى.
كما يراهن هذه الفريق في تحليله على عامل الضغط الشعبي في أوروبا خلال الشتاء القادم مع اتخاذ الكثير من الدول الأوروبية إجراءات برفع سعر الطاقة، والبوادر الأولية تشير إلى أن روسيا ستلعب خلال الأسابيع والأشهر المقبلة بورقة الطاقة بشكل أكبر مما يجعل الجانب الأوروبي مضطرا للضغط على جميع الأطراف للدفع باتفاق مع إيران لتسهيل عملية إمدادات الطاقة، وهذا التحليل على وجاهة بعض متغيراته فيما يبدو بأنه يهمل عاملا حاسما وهو التحرك الإسرائيلي تجاه إيران فالسؤال المطروح هنا هل نحن مقبلون على شتاء ساخن؟ لعل الأيام القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.
ـــــــــــــــــــ
عارف نصر
كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية