انتهت قمة هلسنكي بين بوتين وترامب ولكن لم تنتهي تداعيات تلك القمة، فبعد أن أكد الطرفان الروسي والأمريكي خلال المؤتمر الصحفي على أهمية أمن إسرائيل، وهو ما تجلى في تصريح بوتين عندما قال: “أود التأكيد أنه بعد انتهاء القضاء على الإرهابيين في جنوب غربي سوريا، يجب إعادة الوضع في الجولان لكي يتوافق بشكل كامل مع اتفاقية فصل القوات السورية – الإسرائيلية لعام 1974، فهذا سيسمح بإعادة الهدوء للجولان، وإعادة نظام وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل، وتوفير الأمان لدولة إسرائيل، والرئيس ترامب أولى اهتمامًا كبيرًا بذلك، وأود التأكيد على أن روسيا مهتمة في مثل هذا التطور للأحداث وستلتزم بهذا الموقف تحديدا”.
وهو الأمر الذى جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو كالحاضر الغائب بتلك القمة، وبدأت الأمور تشهد منعطفا جديدا سواء بجنوبي سوريا (السويداء، درعا، القنيطرة) أو بشمالي سوريا وتحديدا فى إدلب.
مسألة الجنوب السوري
ففى الجنوب السوري تطالب أغلب الأطراف الدولية بخروج إيران من سوريا، سواء الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي أو إسرائيل أو دول الخليج.
فهل ستخرج إيران حقا من سوريا بتلك السهولة التى يطالب بها هولاء؟!
الحقيقة أن الدولة الإيرانية التى تكبدت خسائر بشرية ضخمة، ومالية باهظة كلفت اقتصادها الكثير، تتمنى بالتأكيد فى ظل الوضع الداخلي المتأزم والذي كان سببا فى انتفاضات من حين لآخر، الخروج من سوريا كي تخفف الأعباء الاقتصادية من عليها، ولكن الأهم هنا وهو جوهر الموضوع، ما هو المقابل الذى يمكن أن تتحصل عليه إيران أو تريده إيران كي تخرج من سوريا؟
فإذا كانت قمة هلسنكي 2018 هى جلسة التفاوض الكبرى وعقد الصفقات التي يخرج منها كل الأطراف رابحا لا خاسرا بين الأمريكي والروسي، فإيران هنا بعد إسدال الستار على هلسنكي ستكون هي الخاسر الوحيد، لو نفذت ما أراده ويخطط له الإسرائيلي والأمريكي، فحينها ستكون قدمت تنازلا ولم تعقد صفقة، بالخروج من سوريا من دون مقابل.
فلا الولايات المتحدة أو إسرائيل التى كانت تدفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للاعتراف بروسية القرم لجذب روسيا فى صفهم مقابل التخلي عن إيران، طرحوا أي مشروع لتقديم صفقة لطهران مقابل خروجها بجانب حزب الله من سوريا، وهنا مأزق ملف “خروج إيران من سوريا” الحقيقي.
على هذا النحو تبدو المعضلة بالنسبة لإيران ليس تمسكها بالبقاء فى سوريا من عدمه، فالحرب فى سوريا ستنتهي إن عاجلا أم آجلا، ولكن المعضلة هي بعد كل ما قدمته إيران فى سوريا تخرج خاوية اليدين؟!
ولأن إيران كانت تدرك المشهد الجاري مسبقا، والذى يريد فيه خصومها أن تخرج من كل المعادلات بمحصلة صفر، فاستبق المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامئني قمة هلسنكي 2018، وأرسل رجله الأول وعقله السياسي صاحب الـ73عاما والذى عمل كوزيرا للخارجية لمدة 16 عاما، علي أكبر ولايتي، للتحاور مع الرئيس الروسي باسم ولسان خامئني نفسه، بالتزامن مع حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي لموسكو، ومن هنا كانت أهمية لقاء ولايتي مع بوتين، لكي يؤكد على متانة العلاقات بين طهران وموسكو أولا، وتأكيده عدم الخروج من سوريا إلا برغبة دمشق ثانيا.
ولأن المشهد يبدو معقدا للغاية، والمشاهد المتأزمة فى إيران دوما يديرها الصقور دون الإصلاحيين، لذلك من تكفل بنقل رسالة خامئني لبوتين هو مستشاره علي أكبر ولايتي وليس وزير الخارجية جواد ظريف الإصلاحي رجل حسن روحاني، وهو مشهد يعكس حقيقة من يحكم الدولة في ظل نظرية ولاية الفقيه.
معضلة إيران وتحركاتها
الأمر هنا لم يكن معضلة فى وجه إيران فقط (الطرف الرئيس فى الجنوب السوري) بل ولتركيا (الطرف الرئيس فى الشمال السوري) أيضا، فكما يتغير المشهد فى الجنوب السوري مع إيران، كذلك هو يتغير فى شماله ما يؤثر على وضع تركيا ودورها فى الملف السوري.
لذلك كما تحرك خامئني مبكرا قبل انعقاد قمة هلسنكي كذلك تحرك أردوغان، وأجرى اتصالا بنظيره الروسي (قبل اجتماع هلسنكي بأقل من 48 ساعة) أعرب فيه عن قلقه البالغ لبوتين بسبب تقدم قوات الجيش السوري تجاه محافظة إدلب، ما يعنى تدمير جوهر اتفاق أستانة (حسب وصف أردوغان)، قبل أن يؤكد أردوغان أن تجنب حدوث أي تطورات سلبية في إدلب يحظى بأهمية بالغة من قبل بلاده، وتأثير ذلك على قدرته فى إقناع المعارضة السورية بالمشاركة في اجتماعات أستانة وسوتشي المقبلة.
وإذا كان مشهد الجنوب السوري طرح تساؤلا حول شكل مستقبل الوجود العسكري الإيراني فى سوريا عامة وجنوبها خاصة، فهنا المشهد يطرح السؤال نفسه على تركيا، وكيف ستتعامل تركيا وكيف سيكون موقفها، عندما تأتى لحظة وقوف الجيش السوري بقوات ضخمة على أعتاب محافظة إدلب، عاصمة الإرهابيين ومسمار تركيا فى شمالي سوريا؟!
هل حينها ستتراجع تركيا خطوة للوراء، وتتعامل مع الواقع وتكون عاملا مساعدا ومفتاحا للحكومة السورية كي تعود سيطرتها مجددا على محافظة إدلب؟! أم أنها ستجعل من المليشيات الموجودة هناك شوكة فى وجه الجيش السوري فى حال رغبته كسر المعادلة بشمالي سوريا؟!
حينها لن يكون الأمر مجرد صدام بين المليشيات الموجودة بأدلب والجيش السوري، بل بين أنقرة وموسكو، وكي يتجنب أردوغان ذلك الصدام عليه قراءة ما دار فى تل أبيب الشهر الماضي، عندما زار العاصمة الإسرائيلية وفد روسي برئاسة وزير الخارجية ورئيس الأركان، للتأكيد على اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل الموقعة عام 1974، وربما أمور أخرى أكثر أهمية وخطورة من تثبيت فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل، فى ظل وجود لافروف والجنرال جيراسيموف فى تل أبيب بالتوقيت نفسه.
لماذا إدلب؟
الواقع أن مخطط تركيا فى التمسك بإدلب لتنفيذ مخططها عبر اقتطاع المحافظة من الدولة السورية وضمها لتركيا، وتكرار مشهد اقتطاع لواء الإسكندرونة، بات واضحا كالشمس، تماما مثل رغبة إيران فى عدم خروجها من جنوبي سوريا من دون مقابل.
ولكم كان تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي كاشفا لنية تركيا، عندما قال: “إن تركيا لا تريد أبدا أن يتكرر في محافظة إدلب السورية السيناريو الذي شهدته الغوطة الشرقية وشمالي حمص، وهو ما يشهده الآن جنوب غربي سوريا، فذلك سيعد انتهاكا لاتفاق أستانا”.
من هذا التصريح يتضح أن تركيا لم تستوعب مبكرا ما دار بالكواليس كي يعود الجيش السوري لدرعا والقنيطرة (جنوبي سوريا)، ورمزية خروج أصحاب الخوذ البيضاء والزمم السوداء، والتى جاء عملها فى الميدان السوري كعمل استخباراتي بامتياز لا إنساني كما يدعى الإعلام الغربي، بعد تدخل الموساد الإسرائيلي بالتعاون مع الأردن وأجهزة استخبارات غربية فى مقدمتها الاستخبارات الخارجية البريطانية وتدخل من حكومات ألمانيا وكندا لإجلاء هؤلاء من سوريا.
إن العقل التركي استهلك وقتا طويلا لترجمة ما بين السطور لإدراك رمزية عملية إجلاء سكان بلدتي الفوعة وكفريا إلى حلب، بعد حصار دام لثلاثة سنوات من جبهة النصرة، والأمر نفسه فى تسليم الولايات المتحدة لأكثر من مرة ببقاء الرئيس بشار الأسد وانتصاره، فى ظل إعطاء الضوء الأخضر لعودة النازحين السوريين لبلادهم، بالتزامن مع فتح روسيا ممرات لعودة اللاجئين السوريين بالأردن ولبنان لبلادهم.
وقد بات تطهير الجنوب السورى مسألة وقت، وبعدها سيفتح الجيش السوري صفحة جديدة فى كتاب التاريخ بعنوان “تحرير الشمال السوري”.
الآن وبعد أن تعمدت القيادة السورية على تجميعها كل الإرهابيين والمرتزقة بجميع أرجاء البلاد منذ البداية فى محافظة واحدة ألا وهي محافظة إدلب، أو بمعنى آخر فى غرفة واحدة.
نعم فى غرفة واحدة بها أكثر من 128 فصيلا إرهابيا، فى غرفة واحدة بها ما يقرب من 60 جنسية، فى غرفة واحدة يتحدث فيها إرهابيون بأكثر من 22 لغة، والأدهى من كل ذلك أن تلك الغرفة ليس لها أي نوافذ غير نافذة واحدة مطلة على شرق تركيا، نعم شرق تركيا الذى قال عنه أردوغان منذ 15 عاما (بعد أن بشره الغربي فى مؤتمر حلف الأطلسي بإسطنبول 2004، بعودة الخلافة ولكن بالنمط الحداثي) سيكون لها الكلمة والقرار فى مصير الشرق الأوسط الجديد.
إدراك أردوغان
فهل أدرك أردوغان الآن حجم القلق الذى ينتاب تركيا تجاه مصير إدلب، فتلك الغرفة (إدلب) التى تحدثنا عنها والتى يعمل أردوغان على جعلها رمح فى وجه الجيش السوري حال تقدمه نحو مناطق نفوذ تركيا بشمالي سوريا، قد تتحول إلى خنجر فى ظهر أردوغان، وبمباركة من الكبار (بوتين – ترامب).
ولو تراجع أردوغان وتعامل مع الواقع كما تعاملت إسرائيل مع روسيا، وسلم إدلب للحكومة السورية، هنا السؤال أين سيكون مأوى آلاف الإرهابيين بعد تطهير إدلب؟ فهل ينتهي أمر هولاء من حيث بدأوا، أي فى معسكرات دياربكر وكارامان وعثمانية وشانلى أوروفا؟ أم ستكون أدلب لهم بمثابة مقبرة كبيرة؟ أم سيكون هناك أكثر من إدلب خارج سوريا وبالتحديد فى بلاد هولاء المرتزقة؟ أم سيكون لهولاء مأوى فى ليبيا؟
من موقف إيران وتركيا أحد أهم الأضلاع فى الحرب السورية تأتى أهمية القمة الثلاثية المرتقبة التى ستجمع الرئيس الإيراني حسن روحاني ونظيره الروسي بوتين ونظيره التركي أردوغان فى إيران الأسبوع الأول من سبتمبر المقبل.
خلاصة القول نحن الآن نعيش مرحلة ما بعد هلسنكي 2018، والتى بات فيها دونالد ترامب فى مواجهة مباشرة مع الدولة العميقة ببلاده، بعد أن أكد بوتين أن الكرة لم تعد بين أقدام الأمريكي وحده، والمباراة لن تعود من جانب واحد كما كانت.
وأن أمن إسرائيل الخط الأحمر الوحيد فى المنطقة، ودول حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي من دون واشنطن كاليتامى (وتقرير ما تدفعه كل دولة بالحلف مقارنة بما تدفعه الولايات المتحدة يبرهن ذلك).
وأن أيام الربيع بين واشنطن وأردوغان انتهت ولن تعود إلا برحيل ترامب لا برحيل أردوغان، ووضعت إيران أمام تحدي جديد، حتى وإن قررت البقاء فى سوريا وبمباركة من روسيا نفسها، فما كسبته روسيا بالأيام الماضية من الصعب التنازل عنه، ويكفي أن رئيس الولايات المتحدة (الخصم التاريخي لموسكو) يعلنها صراحة عدم ثقته فى تقارير أجهزة استخبارات بلاده أمام بوتين وأمام العالم أجمع، بعد أن صرح ترامب أن اجتماعه مع بوتين أكثر أهمية من الاجتماع مع دول حلف الأطلسي، وقبل كل ذلك يضع الأمريكي إطارا مع الروسي للتحكم فى خريطة النفط والغاز وأسعاره، فمن كان يتوقع يوما أن يرى رئيسا أمريكيا يقول هذا الكلام.
أخيرا وليس آخرا.. سؤال مهم يطرحه المشهد، وهو هل ما يحدث الآن من اضطرابات متصاعدة بجنوبي العراق، واستمرار تأخر تشكيل الحكومة اللبنانية له علاقة بالمعضلة التى تواجه إيران وتحدثنا عنها باستفاضة؟!
السؤال الآخر الذى سيستغرق وقتا أكثر فى التفكير فى إجابة له، وهو كيف سيكون مصير الأكراد سواء فى معادلة الشمال السوري أو بشرق الفرات؟!
عموما الأيام المقبلة ستجيب عن الكثير، وسننتظر ما ستسفر عنه القمة الثلاثية بين زعماء إيران وروسيا وتركيا، والتى ستعقد فى العاصمة الإيرانية طهران بالأسبوع الأول من سبتمبر، والتى بتأكيد ستكون مختلفة تماما عن كل القمم السابقة، بحكم ما استعرضناه من تحديات تواجه إيران وتركيا، فى ظل خريطة سياسية تزداد كل يوم تعقيدا وتشابكا وتوترا.