أفرز الانخراط الروسي العسكري المكثف والمتصاعد في سوريا عددا متزايدا من النتائج السياسية الملموسة والآنية بواحدة من أعقد القضايا الإقليمية في تاريخ الشرق الأوسط؛ ولئن كان هذا الوجود يخدم في المقام الأول اللاعب الإيراني ذلك الذي أنفق رأس مال سياسيا باهظا من أجل الإبقاء على نظام بشار الأسد، مستهدفا من وراء ذلك الحفاظ على الخط البري الرابط بين إيران وحزب الله في جنوبي لبنان؛ إلا أن إيران حجزت لنفسها كذلك من جراء الوجود الروسي الكثيف في منطقة شرقي المتوسط على الساحل السوري، مكانا لا تخطئه عين في قائمة الخاسرين.
فمع الإعلان الروسي عن إرسال قواعد حربية في الأراضي السورية قلبت روسيا الموازين السياسية ـ العسكرية في سوريا تلك التي جرى تسييد مشهدها منذ بداية الربيع العربي على نحو عُدّ من المسلمات الجيوبوليتيكية في الإقليم، وهي كون إيران الكفيل العلني الرئيس للنظام السوري، واستحواذها على الكلمة الأخيرة في قراراته، وبدا ذلك جليا من خلال إرهاصات مؤتمري جنيف1 وجنيف2 ومخرجاتيهما.
وبناء عليه لم يعد اللاعبون الإقليميون الداعمون للنظام السوري (إيران) والمناهضون له (المملكة العربية السعودية وتركيا) هم المتحكمون الرئيسيون في المشهد، فقد غيّر الانخراط الروسي العسكري المباشر في الحرب السورية شكل الصراع الدائر على الأرض، وحوّله من صراع بين قوى إقليمية إلى صراع مباشر بين إرادات دولية، وبالتالي باتت القوتين العظميين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أمام سيرورة جبرية من المواجهة، يستتبعها خصم فوري من رأس المال السياسي لكل اللاعبين الإقليميين وعلى رأسهم إيران.
إطلالة على التاريخ
تشير وقائع التاريخ إلى أن ما يفرق بين روسيا وإيران أكثر مما يجمعها، فقد شهدت العلاقات الروسية ـ الإيرانية على الأقل خلال القرنين الماضيين عددا من نقاط التباعد في وجهات النظر حول القضايا الطارئة جعلت من العلاقات بين البلدين واحدة من أكثر النماذج تنافرا في تاريخ العلاقات الإيرانية الخارجية، وطالما نظر صناع القرار في إيران إلى روسيا باعتبارها تمثل تهديدا وتحديا خارجيا رئيسيا، على مر العصور.
بشكل عام، لا ينظر المحافظون والقادة السياسيون في إيران إلى روسيا على أنها شريك يمكن الوثوق به، فلإيران سجل حافل بشن هجمات على سفارات أجنبية على أراضيها، ولم تسلم البعثة الدبلوماسية الروسية في طهران من ذلك حيث تم استهدافها مرات عديدة، وتم الاعتداء الأول بعد الحرب الروسية ـ الفارسية بين عامي 1826 و1828، تلك التي أدت إلى توقيع “اتفاقية تركمنجاي”([1]) حين قام عدد من المتظاهرين بعد عام من الاتفاقية بالاعتداء على السفارة الروسية في طهران، وقتلوا السفير الروسي الذي لعب دوراً رئيسياً في المفاوضات التي مهّدت لتلك الاتفاقية التي انتقلت بموجبها منطقة جنوبي القوقاز من سيطرة بلاد فارس إلى الإمبراطورية الروسية. وإلى الآن ما زال كثير من الإيرانيين يستخدم مصطلح “اتفاقية تركمنجاي” للدلالة عن أي تسوية غير عادلة بين طرفين.([2])
قبل نشوب الثورة الإسلامية الإيرانية وتحديدا في العهد الشاهنشاهي كان محمد رضا بهلوي ينظر إلى روسيا على أنها التهديد الرئيسي لإيران من جهة الشمال، مدركا بعمق الرغبة الروسية التاريخية في الوصول إلى المياه الدفيئة عن طريق الأراضي الإيرانية.
ففي مايو من 1972م قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ومعه وزير خارجيته هنري كيسنجر، بزيارة طهران، وهما في طريق عودتهما بعد الاجتماع مع بريجينيف في موسكو، ووجدا نفسيهما يتحدثان مع رجل يفكر تماما بطريقتهما نفسها، وقد قدم لهما الشاه تحليلا للموقف كما كان يراه، محاولا في أثناء الجلسة التي جمعته بضيفيه الأمريكيين، أن يوضح نقطتين أساسيتين:
الأولى: أن الاتحاد السوفيتي، كان ولايزال مستمرا في محاولته للوصول إلى مياه الخليج الدافئة، وهو حلم حكام روسيا منذ أيام بطرس الأكبر.
الثانية: أنه بالقدر نفسه الذي يعلمه الإيرانيون تماما، يطمع السوفيت في بترول إيران، وليس هناك من يراقب التنبؤات الخاصة، بعرض مستقبل البترول، وطلبه في السوق العالمية أكثر منه، فآخر تقييمات الموقف حسب تقارير المخابرات في ذلك الوقت بينت أن الاقتصاد السوفيتي بحلول عام 1985م، لابد وأن يعتمد على بترول إيران، أو على أي مصادر رئيسية أخرى في الشرق الأوسط.([3])
ولا ينسى النظام الإيراني الحالي، لروسيا أنها كانت أحد الداعمين لنظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين إبان حرب الخليج الأولى أو الحرب الإيرانية ـ العراقية، إذ أمد الجانب الروسي في الأشهر الأخيرة للحرب، الجيش العراقي، بمنظومة صواريخ متطورة ساعدت على توازن القوى بين الدولتين الجارتين، ما أدى إلى تظاهرة نظمتها عناصر تنظيم الباسيج أمام السفارة الروسية بطهران، على غرار ما حدث للسفارة السعودية بطهران مطلع يناير/ كانون ثاني 2016.
وبالإضافة إلى ذلك لم يستطع الزعماء الدينيون في إيران بعد مرحلة التهدئة بين البلدين تحقيق إنسجام كامل مع ما يوصف دائما في طهران بأنه “وجهات النظر الملحدة التي يتبناها الشيوعيون في روسيا، لتعارضها مع الإسلام”.([4]) ثم زادت الفجوة بين روسيا وطهران عندما شعر الإيرانيون بالتهديد الحقيقي الذي شكّله التغلغل الروسي في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين، وهو ما اضطرهم إلى إيواء الجهاديين الفارين من تلك الحرب وخاصة من يعرفون بـ”العرب الأفغان” وأدى هذا السلوك إلى إحداث شرخ عميق في العلاقات الإيرانية ـ الروسية من جهة، ومن جهة أخرى في العلاقات الإيرانية ـ المصرية، إذ اشترط الجانب المصري تسليم العناصر الجهادية الخطيرة قبل التفاوض حول إعادة العلاقات، وهو ما لم يتم حتى وقت كتابة هذه السطور.
بناء على ما سبق يمكن القول إن الإيرانيين يتعاملون مع الروس باعتبارهم حليف مؤقت لا يمكن الوثوق به على المدى البعيد للاعتبار التاريخي الذي يظل ثابتا في الوعي الجمعي الإيراني مع تغير الأنظمة وتوالي العصور.
ما بعد الاتفاق النووي
بالرغم من موقف موسكو الداعم لطهران طيلة جولات التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني، وخاصة في المرحلة الأخيرة والحاسمة التي تلت انتخاب الرئيس حسن روحاني وتعيين محمد جواد ظريف وزيرا للخارجية ورئاسته لفريق التفاوض، وانتهت بالتوصل إلى الاتفاق النووي التاريخي بين إيران والسداسية الدولية صباح الأربعاء 14 يوليو/ تموز2015، إلا أن التدخل الروسي في سوريا يعد أحد إفرازاته، حتى لو بدا ذلك عن طريق غير مباشر؛ لأنه زاد من تعقيدات المشهد على نحو يجعل من التدليل الواضح على هذا المذهب غير يسير.
فمع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، ارتابت موسكو من أن أمريكا ربما تكون أقرب إلى تسهيل إسقاط النظام السوري لمعادلة النفوذ الايراني في المنطقة، ولعل لقاء الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي باراك أوباما في البيت الأبيض والتصريحات الثنائية بخصوص سوريا قد قرع أجراس إنذار مدوية في الكرملين، وبالرغم من امتناع أوباما عن التورط العسكري المباشر ضد النظام السوري حتى الآن بما أفقده صدقيته وهزّ صورته بوضوح، إلا أن بوتين ربما شعر بعدم وجود ضمانات كافية لاستمرار ذلك الامتناع في الفترة المقبلة. ومع تحليق الطيران الروسي في الأجواء السورية، يستبعد بوتين بخطوته الأخيرة وفوراً إمكانية توجيه ضربات جوية أمريكية للنظام السوري من قائمة الاحتمالات الممكنة. وبالرغم من فوائد التسلسل الزمني للأحداث في تسليط الضوء على التطورات السورية، إلا أن قدراته التفسيرية تظل غير كافية.([5])
وهناك نظرية بارزة بشأن تأثير الاتفاق النووي بين إيران ودول (5+1)([6]) على المنطقة العربية تقول إنّ التدخل الإيراني في الشؤون العربية الداخلية سيزيد، نظراً لأن الاتفاق سيمنح إيران القدرة على الوصول إلى موارد مالية كبيرة كانت مجمدة في السابق. ولقد قامت إيران بالفعل بتمويل حربين ـ في سوريا واليمن ـ على الأقل، في حين أنها تخضع لعقوبات دولية صارمة، وهنا يمكن للمرء أن يتخيل ماذا سيفعل الإيرانيون مع عشرات مليارات الدولارات الإضافية التي تدخل خزانة طهران بعد رفع العقوبات.([7])
عليه يمكن القول إن الانخراط العسكري الروسي في سوريا استهدف إحداث توازن قوى على نحو ما، حتى لا تنفرد إيران بنصع القرار في دمشق، ما سيؤثر بالتأكيد على مكانة روسيا في السياسة الدولية لعدة اعتبارات، على رأسها: أن دمشق تعد الحليف العربي الوحيد لموسكو في المنطقة، خاصة أن مخرجات الاتفاق النووي وتحرير الاقتصاد الإيراني، سيؤدي حتما إلى زيادة الإنفاق الإيراني على النظام السوري باعتبار أن “سوريا تمثل بالنسبة لإيران أولوية إستراتيجية تفوق أهمية الأراضي الأحوازية”.([8])
هناك العديد من المؤشرات التي تدعم هذا التحليل وتؤيده أهمها اللقاءات العربية المكثفة التي تمت في موسكو وخاصة تلك التي قام بها ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان يوم 18 يونيو/حزيران 2015 ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمدينة سان بطرسبورج، ثم زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يوم الثلاثاء 11 أغسطس/ آب 2015 والتي اتفق فيها على صفقة أسلحة روسية، فضلا عن الزيارات الأردنية والإماراتية والمصرية التي تمت في إطارات مشابهة.
إلى جانب عوامل أخرى، ساعدت تلك الزيارات، في فهم السلوك الروسي من الأزمة اليمنية، وهي الأزمة الأكثر أهمية بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وهنا يمكن الإشارة إلى الامتناع الروسي عن استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ضد القرار الأممي الذي دعم عملية عاصفة الحزم، وحمل رقم 2216، ذلك الذي عكس موافقة روسية ضمنية على العملية برمتها، تلك التي قامت بها المملكة العربية متكئة على توسيع دائرة التحالف العربي ـ الإقليمي ليشمل حربيا وسياسيا القوى الكبرى الثلاث في الإقليم (مصر ـ تركيا ـ باكستان)، وهو ما أضفى غطاءً شرعيًا صريحًا على العملية، وأماط الثام عن رغبة روسية لا تخطئها عين في المشاركة برسم مستقبل التوازنات الإقليمية على الأرض، وبالتالي نتائجها التفاوضية التي تصب في مصلحتها بالمحصلة النهائية.
حسابات طهران الأمريكية
توقن إيران أن الدول الكبرى غالبا لا تدخل حروبا من أجل مصالح الدول الصغرى، مهما بلغت درجة التحالف الإستراتيجية بينهما، ولكن تخوض حروبها من أجل حماية مصالحها، ولذلك تراقب باهتمام بالغ التعاطي الأمريكي مع التواجد الروسي الحربي في سوريا من خلال عدد من المعطيات، لعل أبرزها حرصها على مواصلة الانفتاح الاقتصادي على الغرب كواحد من أهم بنود برنامج الرئيس حسن روحاني الانتخابية والتي وعد بها ناخبيه في 2013 ويسعى لتحقيقها، إلى جانب رغبتها في عدم فقد الحليف الروسي كقوة سياسية وعلمية لا يمكن الاستهانة بها، وكونه ورقة ضغط في مفاوضات الغرف المغلقة التي تتم غالبا في الخفاء بين وزيري خارجية طهران وواشنطن محمد جواد ظريف وجون كيري، فضلا عن مواصلة واشنطن دعم الكتائب السورية المعارضة بأحدث ما توصلت إليه مصانع السلاح الأمريكية.
في تلك الزاوية يمكن الغوص في العقلية الإستراتيجية الإيرانية التي تتدبر مواقع أقدامها في التكيف مع تلك المتناقضات القائمة بالفعل بين موسكو وواشنطن، إذ تعرف إيران أن التدخل الروسي في سوريا، وإن كان لا يصب في مصلحتها تماما (أي الولايات المتحدة)؛ إلا أنه يخدم الرؤية الأمريكية المستدامة تجاه الأنظمة في الشرق الأوسط، ويمكن من خلال ذلك التأكد من أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب جديا في إنهاء الأزمة بل زيادة إشعالها عن طريق السماح للآلة الحربية الروسية بالعمل في الأراضي السورية ودعم الأطراف الأخرى بالسلاح.
وترصد إيران بدقة الحسابات الأمريكية شديدة التعقيد من السلوك الروسي في سوريا، وتعلم أن واشنطن متكيفة تماما مع هذا التواجد من خلال معطيين بالغي الأهمية:
أولا: ثقة الولايات المتحدة الأمريكية تماما بإخلاص روسيا في الحرب ضد الجماعات الإسلامية، وقد أعلنت صراحة ـ أي روسيا ـ أنها تستهدف تنظيم الدولة؛ فتاريخها حافل بهذا الأمر في أفغانستان([9]) وجروزني([10]) على سبيل المثال، وعليه تشعر الولايات المتحدة بالامتنان وليس بالقلق من زيادة الالتزام العسكري الروسي بالحرب ضد الجماعات الإسلامية لا سيما أن تحالفها ـ أي الولايات المتحدة ـ الذي شكلته لمحاربة تنظيم الدولة قد مُني بالعديد من الهزائم، ولم يحقق أي تقدم.
ثانيا: يتمخض عن التدخل الروسي في سوريا منع الانهيار المفاجئ للنظام السوري، بمعنى أن الانتقال المنظم للسلطة هو أحد أهم المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية الأمريكية التي تكره الفراغ والانتقال إلى المجهول.([11])
للدلالة على التكيف الأمريكي من الواضع الراهن يمكن لفت الانتباه إلى استخدام الجيش السوري الحرّ المدعوم من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية صواريخ بي جي إم-71 تاو الأمريكية المضادة للدروع والتي ظهرت للمرة الأولى في أيدي المعارضة في إبريل/ نيسان 2014، بمعدّل أكبر (زيادة بنسبة حوالى 850 بالمائة) منذ التدخل الروسي: تمّ تسجيل 82 استخداماً بين 1 و20 أكتوبر/ تشرين أول 2015، مقابل 13 استخداماً فقط طيلة شهر سبتمبر/ أيلول 2015. وتُقدّر قيمة كلّ صاروخ بما لا يقل عن 50 ألف دولار، ما يعني أنه قد تمّ إنفاق أكثر من 4,1 مليون دولار في ثلاثة أسابيع.
يرى كثير من المحللين الأمريكيين أن توفير وكالة الاستخبارات المركزية صواريخ تاو بشكل منسق كان له تأثير فعال على الصراع، وهو ما أكده قائد الفرقة 13 المقدم أحمد السعود وقادة ثلاث مجموعات أخرى من الجيش السوري الحر المدعومة من وكالة الاستخبارات المركزية، إذ قالوا إنهم تلقوا مؤخرا كمية أكبر من المعتاد من هذه الصواريخ وأكدوا أنها كانت مفيدة للغاية. وعلق السعود بالقول: “ستدمّر صواريخ تاو الروس وأهدافهم، وقد تلقينا كمية أكبر مؤخرا”.([12])
وكم كان خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مناسبة لا تتكرر أمام صناع القرار في طهران لكشف تلك الإستراتيجية الأمريكية، خاصة حين أعلن صراحة عن استعداد الولايات المتحدة الأمريكية لما وصفه بـ”العمل مع روسيا من أجل إيجاد تسوية سياسية في سوريا”.([13])
عليه يمكن القول إن إيران تراقب حثيثا السلوك الأمريكي تجاه التدخل العسكري الروسي في سوريا وتتعامل مع الموقف الراهن في ضوء الحسابات الأمريكية المعقدة والمربكة للجميع، مدركة في الوقت ذاته أن هذا التدخل يعني أنها الآن أصبحت طرفا أقل أهمية من فترة ما قبل التدخل الروسي العسكري في الأزمة.
موسكو وانتخابات فبراير
غابت السياسة الخارجية عن برامج المرشحين لانتخابات مجلسي الشورى الإسلامي وخبراء القيادة التي جرى الاقتراع عليهما يوم الجمعة 26 فبراير/ شباط 2016، ما يعني أمرا واحدا وبارزا وهو أن المرشحين تركوا تحديد ملامح السياسة الخارجية الإيرانية ـ وعلى رأسها الوضع في سوريا ـ للمرشد الإيراني الأعلى آية الله العظمى علي خامنئي الذي يخوله الدستور وضع سياسة البلاد الخارجية.
في كل الأحوال يمثل وصول نسبة المشاركة إلى ما قرابته 60% بالنسبة للنظام السياسي وعلى رأسه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، مكسبا متعديا دلالاته على الحياة السياسية الداخلية بإيران، متجاوزا ذلك إلى إطلاق يديه ـ أي خامنئي ـ فيما تبقى له من وقت وقدرة على إدارة الملفات الخارجية.
فقد أفرزت النتائج التي نشرتها وكالات الأنباء الإيرانية حتى يوم الاثنين 29 فبراير/ شباط 2016 فوز تحالف “الإصلاحيين والمعتدلين” بـ89 مقعدا مقابل 86 مقعدا للمحافظين، في حين انتخب عشرة مرشحين مستقلين، أي أن الإصلاحيين ضمنوا قرابة 150 مقعدا ـ على الأقل ـ من أصل 290، في تفوق كبير على التيار المقابل، وهنا يظهر مدى النصر السياسي الذي أحرزه الرئيس حسن روحاني وفريقه بالقياس إلى الثلاثين مقعدا فقط التي فاز بها الإصلاحيون في الدورة المنتهية والتي تم انتخابها في العام 2012 في الفترة الثانية والأخيرة للرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد.
وتعكس تلك النتائج حالة المزاج السياسي العام للناخب الإيراني الذي وإن كانت السياسة الخارجية لا تعنيه كثيرا، ويرنو بعينينه الواسعتين صوب “البازار”([14]) من خلال اهتمامه البالغ بالسياسات الاقتصادية؛ إلا أن المعروف أن الوضع الاقتصادي لإيران لن يتغير إلا بتغير السياسة الخارجية وانفتاح إيران الكلي على الغرب واعتماد برامج اقتصادية أكثر ميلا للنموذج الغربي والتخلي ـ ولو تدريجيا ـ عن ما يعرف بـ”اقتصاد المقاومة”([15]) الذي تماهى وانسجم كثيرا مع السياسات الاشتراكية المعمول بها روسيا، واللجوء إلى ما يعرف بـ”النيوليبرالية” أو الليبرالية الجديدة([16]) تماشيا مع الصفقات الكبيرة التي حصل عليها روحاني في جولته الأوروبية الأخيرة.
إذن.. يثور السؤال: وما علاقة نتيجة الانتخابات الراهنة وتفوق الإصلاحيين على الوضع في سوريا والعلاقات الإيرانية ـ الروسية؟
للإجابة على هذا السؤال يجب الالتفات إلى الحاجة الروسية الماسة لإيران من الناحيتين السياسية والاقتصادية، فمعنى تلك النتيجة بداءة: شرعنة الاقتراب الإيراني من الغرب، بقوة الصندوق، مع إدراك الإدارة الروسية أن أي تقارب إيراني مع الغرب هو في حقيقته العميقة تباعد عن الشرق، أي أن علاقات إيران الأمريكية والروسية تحكمها العلاقة العكسية وليس الطردية؛ ما يمثل خصما فوريا لكل الأمنيات التي بنتها موسكو على طهران، لجهة حرمان تركيا من بدائل الطاقة الروسية عن طريق إيران بعد أزمة إسقاط الطائرة سوخوي، ولجهة كلالة معسكر الممانعة الذي بنته روسيا ورعته على مر العقود الماضية.
يأتي هذا كله في وقت كانت روسيا تروم تدشين علاقات اقتصادية مع إيران تسمح لها بحصد امتيازات تجارية على خلفية دعمها في المفاوضات النووية، مع تأكيدات بأن العودة الإيرانية إلى الغرب سيعود بالضرر على اقتصاد روسيا وسياساتها الخارجية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر تصدر روسيا حالياً نحو 3.5 مليون برميل من النفط يومياً إلى أوروبا، و988 ألف برميل إلى الصين، بينما كانت إيران تصدّر 992 ألف برميل إلى الصين، ولا تصدّر برميلا واحدا إلى أوروبا في ظل العقوبات، أما الآن وقد باتت السوق الدولية مفتوحة أمام طهران؛ فمن المرجح أن ترتفع الصادرات النفطية الإيرانية إلى أسواق العالم في ظل حالة الركود وضعف الطلب على الطاقة؛ ما من شأنه أن يفاقم من انخفاض أسعار النفط ويؤدي ـ كحتمية رياضية ـ إلى تفاقم أزمة الميزانية الروسية في ظل العقوبات الغربية، على خلفية الأزمة الأوكرانية.([17])
أدوات إيران وبدائلها
تحاول الحكومة الإيرانية الحالية اجتراح مشروع اقتصادي جديد يوزان بين “تعاليم الثورة الإسلامية” والحاجة المجتمية الماسة إلى الانفتاح الاقتصادي على العالم وجذب رؤوس أموال غربية، على الطريقة النيوليبرالية، مع مواصلة انخراطها في الأزمة السورية، وتبقى ملاحظة أن البدائل الإيرانية إزاء التعامل مع التغلغل الروسي في سوريا تظل محدودة بالقياس إلى الأدوات السياسية والاقتصادية الإيرانية الراهنة، وهي التي فتحت عددا سائلا من الملفات الإقليمية على التوزاي، مع علمها بأنها تُستخدم ـ أمريكيا ـ كطاقة ضغط على روسيا لمداومة انزلاقها في الفخ السوري المنصوب وفقا لـ”إستراتيجية محور آسيا”، وهنا يبدو السيناريو الأكثر ترجيحا أن تستمر إيران في اللعب على تناقضات الوضع وإرضاء الطرفين؛ محققة من وراء ذلك انفتاحا اقتصاديا ضروريا على الغرب، واحتماء مطلوبا في الخيار الروسي المناهض تماما لإسقاط بشار الأسد.
ـــــــــــــــ
(*) نشرت هذه الدراسة في عدد يونيو من فصلية “رؤية” للدراسات السياسية والاستراتيجية 2016.
([1]) تشير الثقافة الجمعية الإيرانية إلى معاهدة تركمانجاي التي تمت في بلدة تحمل الاسم نفسه إلى الظلم الروسي الواقع تاريخيا على إيران، وهي معاهدة سلام وقعت بين الإمبراطورية الروسية والدولة القاجارية وأدت نتائجها إلى إنهاء الحرب الروسية ـ الفارسية التي دارت بين عامي 1826-1828، ونصت المعاهدة على أن تتنازل الدولة القاجارية عن إقليمي “إيروان” و”نخجوان” لصالح روسيا، فضلا عن التزام إيران بدفع 20 مليون روبل كتعويضات لروسيا كما منحت المعاهدة لروسيا العديد من الامتيازات والحقوق الاقتصادية والجمركية، وبالتالي خرجت فارس (إيران حاليا) من المعاهدة في حالة ظلم بين ما ترك أبلغ الأثر لدى الإيرانيين من الروس الذين ما يزالون يعتبرونهم أعداء تاريخيين. /الباحث وانظر:
Encyclopedia Britannic, SCHOOL AND LIBRARY SUBSCRIBERS, Treaty of Turkmenchay, Russia-Iran [1828].
([2]) Panahov, Huseyn, Russian Expectations for Post-Sanctions Iran, Washington Institute, February 19, 2016.
([3])هيكل، محمد حسنين، مدافع آية الله، دار الشروق، طـ7، 2006، صـ134.
([4] (Panahov, Ibid.
([5]) اللباد، مصطفى، روسيا تقلب الموازين في سوريا والمنطقة، السفير اللبنانية، الاثنين، 21 سبتمبر 2015، ص15.
([6]) دول (5 + 1) هي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي تضم كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى ألمانيا، وفي بعض الدوريات تتم الإشارة إلى تلك الدول بصيغة (3 + 3) أي: الدول الأوروبية الثلاث الكبرى (ألمانيا ـ بريطانيا ـ فرنسا) بالإضافة إلى الدول الثلاث غير الأوروبية صاحبة العضوية الدائمة بمجلس الأمن: (الولايات المتحدة الأمريكية ـ روسيا ـ الصين). /الباحث.
([7]) فريحات، إبراهيم، هل من فرصة للاحتواء؟ الاتفاق الإيراني والبلدان العربية المجاورة، مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بكلية كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، نقلا عن بروكنجز، 16 أغسطس 2015.
[8])) في إشارة إلى ما قاله المرجع الإيراني، مهدي طائب. /انظر: رجل دين إيراني يصف سوريا بالمحافظة الإيرانية الـ35، العربية نت، 15 فبراير/شباط 2013م.
([9]) في إشارة إلى الحرب الروسية ـ الأفغانية والتي استمرت قرابة عشر سنوات وبدأت يوم 25 ديسمبر/ كانون أول 1979م، وانتهت في 15 فبراير/ شباط 1989م. /الباحث.
([10]) بين شهري نوفمبر/ تشرين ثاني وديسمبر/ كانون أول من العام 1994 شنت روسيا عملية حربية عنيفة ضد الحكومة الشيشانية في العاصمة “جرونزي” وكانت تستهدف إسقاط حكومة الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف. /الباحث.
([11]) فريحات، إبراهيم، التدخل الروسي في سوريا.. هل يقلق أميركا؟، الجزيرة نت، 8 أكتوبر/ تشرين ثاني، 2015.
([12]) ليستر، تشارلز التدخّل الروسي في سوريا: إطالة صراع لا نهاية له أصلاً، ذا هافنغتون بوست، نقا عن بروكنجز 21 أكتوبر/ تشرين أول 2015.
([13]) ألقى الررئيس الأمريكي باراك أوباما كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الاثنين 28 سبتمبر/ أيلول 2015، ويمكن مطالعتها عبر الدقيقة 19:26 من خلال الرابط التالي:
([14]) البازار في اللغة الفارسية يعني “السوق”، لكن في الثقافة الإيرانية يشار به إلى سوق ضخم يحتل مساحة جغرافية واسعة جنوبي طهران، وهو مكان لتمركز رجال المال والأعمال، ولعب التجار الإيرانيون أدوارا مهمة في الحراك الشعبي لإيران إبان الثورة الإسلامية عام 1979م. /الباحث.
([15]) “اقتصاد المقاومة” أو “الاقتصاد المقاوم” اصطلاح اقتصادي ـ سياسي صكه آية الله العظمى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي تعبيرا عن صلابة الاقتصادي الإيراني في مواجهة العقوبات الدولية. وكثيرا ما يستخدمه رجال الدولة بإيران، وأحدث من أشار إلى ذلك وزير الخارجية محمد جواد ظريف يوم الأربعاء 2 مارس/ آذار 2016 في خلال حفل تكريم محرري الملف النووي الإيراني. /الباحث.
([16]) تُعرف الليبرالية الجديدة بأنها مذهب فكري يعتمد على ليبرالية السوق، بمعنى الاعتماد على الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، بما في ذلك تحديد سعر الصرف والرقابة على الأسعار، وتحديد أسعار الجمارك على الواردات، فضلا عن العمل على تعظيم دور القطاع الخاص، وهو منهج اقتصادي يعد تطورا آنيا لليبرالية الكلاسيكية المعمول بها في البلدان الغربية منذ الثورة الصناعية وحتى الآن. /الباحث وانظر: Cohen, Joseph Nathan, The Impact of Neoliberalism, Political Institutions and Financial Autonomy on Economic Development, 1980–2003 Dissertation, Department of Sociology, Princeton University 2007. & Contesting “Neo-Liberalism”, Studies in Political Economy.
([17]) راقبت روسيا عن كثب مجريات الانتخابات الإيرانية، وبدا واضحا تخوفها من تداعيات نتائجها على العلاقات مع طهران، ويمكن قراءة ذلك من خلال تصريحات أدلى بها مساعد رئيس مجلس الدوما الروسي ورئيس مجموعة الصداقة البرلمانية بين إيران وروسيا، نيكولاي ليتشوف، إذ قال: “إن نتائج الانتخابات لن تؤثر على التعاون بين موسكو وطهران فيما يتعلق بالأزمة السورية ومكافحة الإرهاب”. /الباحث.