سعت الولايات المتحدة الأمريكية من عقوباتها على إيران إلى زعزعة الاستقرار الداخلي عبر سياسة الضغوط القصوي التي انتهجتها تجاه طهران على أساس أن تردي الأوضاع الاقتصادية المترتبة على العقوبات سيؤدي إلى تزايد وتيرة الاحتجاجات الشعبية ضد النظام ما يدفع المجتمع إلى القيام بموجات انفجار اجتماعي وصولاً لإضعاف النظام الإيرانى وإجباره على الجلوس للمفاوضات لإبرام اتفاق نووى جديد.
إيران بعد مقتل قاسم سليماني
فبالرغم من أن النظام الإيرانى حاول الرد على سياسة الضغوط الأمريكية القصوى عبر استراتيجية حافة الهاوية وسياسات الصبر الاستراتيجي والحرب بالوكالة من خلال استهداف السفن التجارية فى الخليج العربى وخليج عُمان، واستهداف منشآت شركة أرامكو النفطية فى السعودية، بل وإسقاط طائرة أمريكية مسيرة، إلا أن قيام البنتاجون باستهداف قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وقتله ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وثمانية من القادة الميدانيين العراقيين واللبنانيين، بالقرب من مطار بغداد الدولي منتصف ليل الجمعة 3 يناير 2020، قد شكل تحولاً مهما فى اتجاه التصعيد العسكرى فى العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية.
يضاف إلى ذلك التصعيد فى الخطاب السياسى منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووى فى مايو 2018 حين دخل التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية مرحلة أخرى في المتتالية الأمنية التصعيدية بين الجانبين؛ إذ ربما تفرض تلك الخطوة قواعد ومعطيات جديدة تؤثر من دون شك على المسارات المحتملة للمواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، خاصة أنها تتوازى مع تصاعد حدة الأزمات الداخلية والإقليمية التي تواجهها إيران وحلفائها على خلفية الحراك الشعبي الذي ما زال مستمراً في لبنان والعراق، ويندلع على فترات داخل إيران نفسها.
ومثلما سعت واشنطن إلى توجيه رسالة للداخل الأمريكي عبر هذه العملية؛ واستغلال ذلك لتعزيز موقع الرئيس الأمريكي بالداخل في مواجهة خصومه السياسيين، ودعم فرصه في تجديد فترته الرئاسية باعتبار أن مقتل قاسم سليماني يدخل في إطار العمل على حماية الأمن القومي الأمريكي، فبالقدر ذاته ستسعي طهران جاهدة لاستثمار الحدث في إعادة ترتيب المشهد السياسي الداخلي بكل ما يفرضه ذلك من انعكاسات على الساحة الداخلية الإيرانية.
والحقيقة أن مقتل سليماني شَكل ضغوطاً كبيرة على النظام الإيراني خاصة في توقيته. إذ إنه يأتي في خضم أزمة داخلية تواجهها طهران؛ بسبب استمرار الاحتجاجات الرافضة سواء للقرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة والخاصة برفع أسعار الوقود، أو للتوجهات التي يتبناها النظام في الخارج وتقوم على دعم الحلفاء على حساب معالجة الأوضاع المعيشية في الداخل، فضلاً عن التأثير علي صورة “التمرد والردع” التي حرصت طهران على تصديرها للمجتمع الدولي، ومع ذلك فإن المرجح أن تتمكن طهران من إعادة توجيه الضغوط المتصاعدة في الداخل؛ إذ ستسعي جاهدة لاستثمار الحدث على كل المستويات السياسية والاقتصادية بل وحتي الثقافية، وذلك على النحو التالي:
أولا: تأجيج المشاعر الوطنية والعسكرية في الداخل
عبرت الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة عن رغبة شعبية عارمة في استرجاع مفهوم الدولة من اختطاف النظام القائم له لجهة الثورة، وهو ما عكس قلق النظام الإيراني من هذه الاحتجاجات وتصريحات مسؤوليه تجاه المتظاهرين وعموم الشعب بالوعيد بالملاحقة والسجن وأن تطبيق اشتراطات تصحيحية مرهون بوقف تدفق المظاهرات ذات الزخم الحاد للاحتجاجات والغضب الشعبي الذي استبدل عبارة “الموت لأمريكا”، بـ”الموت للديكتاتور”، في إشارة إلى المرشد الأعلى “على خامنئي”.
عليه، فسوف يشكل مقتل سليماني فرصة مواتية لمعالجات ضرورية لمراكز القوى داخل بنية النظام السياسي الإيراني عبر تبديل مواقع بعض القيادات من مؤسسة لأخرى بما يؤدي في نهاية المطاف لتصاعد نفوذ التيار المتشدد داخل النخبة السياسية الايرانية أخذاً بعين الاعتبار اقتراب الانتخابات البرلمانية لمجلس الشورى الإسلامي “البرلمان” في فبراير المقبل، وبعدها الانتخابات الرئاسية في مايو 2021.
كما أن تعيين إسماعيل قاآنى خلفاً لسليماني في قيادة فيلق القدس يعد مؤشراً لسيطرة الخطاب المُتشدد على مراكز صنع القرار في إيران. والعمل على “تجييش” الشعب واستقطاب شبان جُدد إلى فيلق القدس وإلى الحرس الثوري وقوات الباسيج بطبيعة الحال؛ استغلالاً للاحتقان الشديد الذي يسود الأوساط الإيرانية الأكثر تشددا التي تطالب بالثأر لمقتل سليمانى، وهو ما ظهرت مؤشراته في تأكيد الإعلام الرسمي الإيراني على مراسم تجديد الشباب للبيعة والولاء “للشهيد الفريق قاسم سليماني” ورفاقه في جبهة المقاومة في 120 بلدا إيرانياً.
وهدفت تلك التحركات إلى تمكين النظام الحاكم من السيطرة على الداخل الإيراني والقضاء على خصومه تحت ذريعة الثأر وتغذية المبدأ الحاكم للسياسة الخارجية الإيرانية في مقاومة المستكبرين ونصرة المُستضعفين كخيار استراتيجي حاكم للرؤية الإيرانية وموجه لسياستها الخارجية.
فعبر تنظيم جنازة ضخمة ومراسم حداد واسعة لسليماني، تم استغلال الدعاية لجنازة القائد العسكري باعتباره بطلًا وطنيًّا على مدى العقد الماضي، وتوضيح دوره في الدفاع عن البلاد ضد عناصر تنظيم “داعش” والأعداء الخطرين الآخرين لإيران، وكذلك تسليط الضوء على دوره ونشاطه العسكري في الخارج. وذلك قد يفيد النظام من خلال تحويل انتباه الرأي العام عن الأزمات المحلية المتنامية في الفترة الأخيرة، وخصوصًا احتجاجات البنزين التي شهدتها البلاد في نوفمبر 2019، وما تبعها من قمع واسع للاحتجاجات المعارضة من جانب النظام.
ثانيا: تأجيج البُعد المذهبي والطائفي
لا شك أن ثمة مكاسب دينية كبيرة ستجنيها إيران من وراء مقتل سليماني، متعلقة بإعادة اللحمة إلى البيت الشيعي، وتشويه الخصوم السياسيين والمذهبيين من الداخل المذهبي، ومن الخارج كذلك، تلك اللحمة التي فقدتها النخبة الدينية الإيرانية، بعد حرق صور الولي الفقيه في عواصم التشيع المركزية في كربلاء والنجف والبصرة وبيروت والضاحية منذ أكتوبر 2019 على إثر الاحتجاجات الشعبية التى سادت كلاً من إيران ولبنان والعراق، وحتى قبل يوم واحد من مقتل سليماني.
وعليه سوف يتم التأكيد على سرديات متعلقة بالذاكرة الشيعية التي يؤججها الإيرانيون بالتركيز على مسألة الشهادة، وبذل الدماء، وأن هذا هو طريق الأئمة، وفي ذلك إشارة لترسيخ الثقافة الميليشياوية وعدم التراجع عنها، وتخليق حواضن جهادية شيعية لا غني عنها سياسياً وأيدولوجياً في إطار المشروع الإقليمي لإيران عبر مبدأ الحكومة العالمية الحاكم لسياستها الخارجية، والرجوع لفلسفة الخميني الذي كان يرى أن الحرب العراقية ـ الإيرانية لم تكن سوى فرصة سانحة للشبان الإيرانيين كي يعرجوا إلى الله بالشهادة.
أما على المستوى الشعبي، فقد حاول الإعلام الإيراني تأجيج البعد المذهبي والطائفي وصناعة ملحمة مذهبية تُشبه مقتل الحسين، في الذاكرة الشيعية، لذلك انتشرت صور للحسين وهو يلتقي بسليماني في الجنة، وأخرى وهو يحتضنه.
ثالثا: مواصلة الدعم الاقتصادي للميليشيات الموالية لطهرن
في حين قلصت الضغوط الاقتصادية التي مارستها الولايات المتحدة علي إيران من خيارات الأخيرة في مواصلة سعيها لتوسيع نفوذها في المنطقة بشكل كبير عبر الدعم المالى لأذرعها بالمنطقة، إلا أن الرغبة الإيرانية في الانتقام بعد مقتل سليماني، ستدفع طهران لمواصلة دعم الميليشيات العسكرية الموالية لها، لاستهداف المصالح الأمريكية في المنطقة.
ولعل هذا ما ظهرت مؤشراته في إصدار مجلس الشوري الإسلامي قانون يلزم الحكومة الايرانية بتعزيز البنية الدفاعية لفيلق القدس التابعة للحرس الثوري، عبر استقطاع مبلغ 200 مليون يورو من احتياطي الصندوق الوطني للتنمية. واعتبار هذه المخصصات تهدف “لدعم قوات فيلق القدس التي تتولى بدورها دعم المقاومة على مستوى المنطقة”.
ختاماً، ففي التقدير ستسعي طهران لاستغلال ثقل من تصفه بـ”الشهيد قاسم سليماني” في قلب النخبة والعناصر الثورية، بالإضافة إلى موقعه الأمني والاستراتيجي على الأرض في تشديد القبضة الأمنية على الساحة الداخلية الإيرانية والتغني بسيرورة المظلومية التاريخية عبر قمع الداخل، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة “وحق الشهيد”.