يبدو من الوهلة الأولى أن مسألة الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 4+1، تصل إلى محطتها الأخيرة، خاصة بعد تسلم إيران الرد الأمريكي على المقترح الأوروبي لإنقاذ الاتفاق النووي؛ إلا أن بواعث القلق في الداخل الإيراني، يزداد ضراوة في أوساط تياراته السياسية بين العودة واللا عودة للاتفاق النووي.
بعد تسلم الرد الأمريكي، انتشرت دعوات في الداخل الإيراني تطالب بتأجيل الرد على أمريكا، بل وحتى تأجيل التوقيع على الاتفاق النووي، بدعوى زيادة فرص إيران، مقابل تنازل الجانب الأمريكي لها.
فقد طالبت صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد الإيراني علي خامنئي، الحكومة يوم السبت 27 أغسطس 2022 بتأجيل المفاوضات لمدة شهرين، لأن: “إيران ليست في عجلة من أمرها لإحياء الاتفاق النووي، بل إن أمريكا ودول أوروبا هي من تحتاج للاتفاق”.
تلك الدعوة تعرضت لهجوم ساخر من الناشط الإصلاحي عباس عبدي، وهو ما لقيّ قبولًا لدى الصحف ووكالات الأنباء الإصلاحية. فقد كتب عباس عبدي ساخرًا: “كيهان تطالب بتأجيل التوصل إلى اتفاق مدة شهرين، قائلة: هذه الحكومة أظهرت أنها بإمكانها القيام بأشياء عظيمة بدون الاتفاق النووي ومجموعة العمل المالي “FATF”. لكن من رأيي أنه لو كانت الحكومة مثل كيهان تعتقد أنها فعلت أشياء عظيمة بدون خطة العمل الشاملة المشتركة، لكانت قد عطلت المفاوضات النووية للأبد، وليس لمدة شهرين”.
ما وراء دعوات التأجيل
دعوة صحيفة “كيهان” المحافظة لم تكن الدعوة الوحيدة، بل لم تكن مبنية على رأي فردي للمؤسسة الأصولية، فقد سبق أن نشرت صحيفة “جمهوري إسلامي” الحكومية مقالة تحليلية بعنوان “هل تفوح رائحة المماطلة في الاتفاق النووي وفشل المفاوضات؟ أمريكا لم تقبل بشروط إيران”.
وناقشت الصحيفة في هذه الافتتاحية جزءًا من الرد الأمريكي، نشرته بعض وسائل الإعلام بشكل غير رسمي، على المطالب الإيرانية، وأظهر جوانب مهمة من تلك المطالب مع رفض أمريكا لها. وعلى حد قول الصحيفة: “إذا كان هذا النص هو حقًا الرد الذي أرسلته أمريكا إلى الاتحاد الأوروبي، فيبدو أن مفاوضات إنقاذ الاتفاق النووي ستعود إلى طريقٍ مسدودة من جديد، ولن يتم الوفاء بالوعود التي قطعها مفاوضو الدول الأعضاء في خطة العمل الشاملة المشتركة، للتوقيع على الاتفاقية”.
كتب فريق التفاوض الأمريكي في رسالته إلى مبعوث الاتحاد الأوروبي “أنريكي مورا”: “أولًا سنضمن توقيع الاتفاقيات، ثانيًا سنوافق على الاتفاقية في الكونجرس حتى لا يتمكن الرئيس المستقبلي ــ أي كان اسمه وحزبه ــ من الانسحاب منها بسهولة من جانب واحد. ما يعني إيجابية الموقف الأمريكي خلال رد واشنطن على طهران، وهو أمر لم يعلن الوفد الأمريكي عن استعداده لفعله حتى الآن.
من جهة مقابلة، ترى الصحيفة أن الموافقة على الاتفاقية في الكونجرس الأمريكي، بهدف منع الرئيس الأمريكي القادم من الانسحاب الأحادي من خطة العمل الشاملة المشتركة، هو نفسه ما طالب به الوفد الإيراني في السابق والحاضر، لكنهم لم يذعنوا له من قبل، لكنهم الآن يوعدّون بذلك. وعلى هذا المنوال، إذا أوفت أمريكا بهذا الوعد، سيتم إعمال أحد المطالب المهمة لإحياء الاتفاق النووي، وسيعتبر خطوة استباقية للتوصل إلى اتفاق.
حيثيات الرد الأمريكي على إيران
في هذا السياق يمكن استحضار الأسباب الحقيقية خلف دعوات التأجيل التي ذكرتها الصحف الرسمية الإيرانية، وذلك لأنها رأت في تسريبات الرد الأمريكي على إيران، تهاونًا من الجانب الأمريكي، ورفضًا لثلاثة مطالب مهمة بالنسبة لإيران، تعوق الأخيرة في اكتساب أية منافع اقتصادية مرجوة من توقيع الاتفاق النووي من جديد.
وكان الرد الأمريكي على تلك المطالب وفق النحو الآتي:
ــ فيما يخصّ حقيقة أن إيران تطلب منا السماح للشركات الأجنبية ولاسيما الأوروبية والأمريكية والأسيوية ــ باستثناء تلك الخاضعة للعقوبات الأمريكية ــ بالعمل مع إيران، بالفعل سنصدر قرارًا يجيز ذلك. لكن اشتراط إيران أن توقيع الاتفاق النووي، بل والاستمرار فيه، مرهون بقدوم الشركات الأجنبية واستثمارها فيها، أمر غير مقبولٍ لنا. وذلك لأن عمالقة النفط وشركات صناعة السيارات الأوروبية والأسيوية، ليسوا تحت تصرفنا لنأمرهم بالذهاب والعمل في إيران. أي إنّ قدوم تلك الشركات من عدمه واستثمارها هناك، متوقف عليها فقط وعلى تقديرها الخاص للربحية، لأنه لربما لا ترغب بعض الشركات في العمل أو الاستثمار في إيران لأي سببٍ كان.
ــ طلب إيران أن نؤمن الشركات الأوروبية أو متعددة الجنسيات، وأن نوافق على دفع تعويضاتهم في حال انسحاب أمريكا من خطة العمل الشاملة المشتركة وعودة العقوبات، في حقيقته ليس طواعية في أيدي مفاوضينا ولا الرئيس جو بايدن. وحتى لو كان هنالك تعهدّ، فلا يوجد ضمانات في أن يقوم الرئيس القادم ــ حتى لو خالف ذلك موافقة غالبية أعضاء الكونجرس الأمريكي ــ بعودة العقوبات أو فرض عقوبات ثانوية على الشركات التي تعمل مع إيران. مع هذا يمكن للرئيس جو بايدن فقط منح تأكيد رسمي للشركات التي ترغب في العمل مع إيران، بأنه لن يعيق عملها حتى نهاية فترة ولايته.
ــ فيما يتعلق بانضمام إيران إلى “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” المعروفة اختصارًا “SWIFT” ومقرها بلجيكا والتداول بالدولار الأمريكي، فوفقًا لما اتفقنا عليه مسبقًا في فيينا، فإننا سنسمح بذلك رسميًا، ولكن لضمان وصول إيران وانضمامها إلى جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، يجب عليها تنفيذ قوانين مجموعة العمل المالي “FATF”، لأن هذه الخطوة مرتبطة بها.
ولعل الملفت هنا، أن فريق التفاوض الأمريكي وبعد إعلانه هذه الإجابات الثلاث صرح قائلًا: “لقد استجبنا بشكل إيجابي لجميع طلبات إيران ونتوقع ألا تفوت إيران هذه الفرصة”، وهو ما اعتبرته صحيفة جمهوري إسلامي الناطقة باسم الحكومة، سلبية وتهاونًا من الجانب الأمريكي تجاه إيران.
بعبارة أخرى وأكثر وضوحًا، بناءً على هذا الخبر، رأت الصحف الإيرانية أن الرد الأمريكي هو بمثابة خطوة للأمام تعقبها ثلاث خطوات إلى الوراء، لاسيما وأن تلك النقاط متعلقة بالإنتاجية الاقتصادية لإيران من توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة.
وإذا لم يتضمن الموقف الامريكي تأمينًا لها، فلا نفع لإيران من وراء توقيع الاتفاق النووي. خاصة وأن مسألة السويفت ذات أهمية لعودة إيران إلى العمل مع البنوك الدولية، وإذا لم تنضم إيران إلى مجموعة العمل المالي ومكافحة غسيل الاموال ــ والذي جعلته أمريكا شرطًا لوصول إيران الى نظام سوفييت ــ فلن تتمكن من الاستفادة منه.
التذبذب بين الحقيقة والكذب
لم تلبث وكالة أنباء “إرنا” الرسمية أن نشرت يوم الأحد 28 أغسطس الجاري بيانًا كذبت فيه محتوى المنشور في صحيفة “جمهوري إسلامي” وأنه ليس له علاقة برد الولايات المتحدة على مسودة إنقاذ الاتفاق النووي، إلى جانب احتوائه على بيانات كاذبة.
ولقد أوضحت الوكالة الرسمية أن العديد من الادعاءات الواردة في افتتاحيات الصحيفة ليست في الأساس موضوع التفاوض ولا المناقشة، وأن بعض الأطراف الخارجية تحاول استغلال الأجواء الإعلامية للضغط على إيران وتنشر يوميًا العديد من البيانات الكاذبة حول مضمون وسيرورة عملية المفاوضات. علاوة على إرباك الرأي العام.
وفي خضم ذلك، صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية مساء يوم الأمس في مقابلة له مع وكالة أنباء إرنا: “أنه يتم التباحث في موضوع الرد الأمريكي في اجتماعات الخبراء والمتخصصين بعناية. ومع ذلك لا يمكنني الإعلان عن موعد محدد، لكن ستعلن الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن ردها بمجرد انتهاء المراجعة والاستنتاج”.
خاتمة
جملة ما أعلاه، أن التضارب بين وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، يؤكد على أن التعارض بين المسؤولين الإيرانيين يزداد مع قرب الموافقة النهائية على مسودة إنقاذ الاتفاق النووي، أما اتهام جهة رسمية باندساس أطراف خارجية ونشرها ادعاءات وبيانات كاذبة لدى جهة رسمية أخرى، ليس سوى هجوما غير مباشر عليها، وعلى ما تروجه من آراء لدى الرأي العام المحلي.
بعبارة أخرى يدلل القلق الإيراني من تعليق إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات لحين التوصل إلى اتفاق بخصوص قضايا الخلاف بينها وبين أمريكا، على احتمالية عدم التوصل إلى اتفاق، في ظل المساعي الحثيثة والخطابات الإعلامية الإسرائيلية في الضغط على أمريكا لرفض مطالب إيران وإفشال محاولات إحياء الاتفاق النووي.
أي إن بعض الجهات في إيران أصبحت ترى أن حلم رفع العقوبات وانتعاش الاقتصاد من جديد مرهون بتنازلها لأمريكا، وهو ما ترفضه جهات سيادية أخرى، ترى أن في هذا الوضع مساس بأسس وأصول الحكم لدى الجمهورية الإسلامية تلك التي اعتمدها الخميني بدءا من عام 1979 وسار عليها خامنئي حتى وقت كتابة تلك السطور.