برغم التوصل إلى تفاهمات شاملة في الأمور النووية التقنية الخاصة بخطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي”، إلا أن مسألة رفع الحرس الثوري من على قوائم الإرهاب تبدو المعضلة الأخيرة المتبقية أمام أطراف المعادلة السياسية؛ لأنه بعودة أطراف التفاوض من فيينا إلى عواصمهم بات الأمر رهنا باتخاذ القرار على المستوى السياسي الأعلى، ومن المتوقع أن يتخذ المرشد الإيراني علي خامنئي قرار التوقيع على الاتفاق إذا حصل على ضمانات من مجموعة (4 + 1) بالتزام أمريكا بمخرجات الاتفاق.
ملامح المرحلة الراهنة
تعاني مفاوضات فيينا النووية في الملحة الراهنة من حالة عدم يقين منذ انتهاء الجولة الثامنة من المفاوضات في نهاية شهر يناير الماضي واستئنافها ثم عودة المفاوضين إلى عواصمهم لاتخاذ القرار السياسي يوم السابع من مارس، وبالرغم من طول مدة توقف المفاوضات إلا أن حراكا داخليا وخارجيا دائرا ما يزال في مرحلة إنضاج القرار الأخير في تلك المفاوضات تتشكل ملامحه في النقاط التالية:
بروز اختلافات جوهرية حادة داخليا بين مؤيدي المقترح الأمريكي الأخير وبين رافضيه، وينهض هذا المقترح على رفع مؤسسة الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية والراعية للإرهاب، نظير توقيع إيران على التزام مكتوب يقضي بالتزامها بخفض التصعيد في الإقليم.
يدور اختلاف داخلي كذلك حول قبول عرض أمريكي آخر يقضي برفع مؤسسة الحرس الثوري من على قوائم الإرهاب دون التزام إيران بخفض التصعيد لكن مع الإبقاء على بعض التنظيمات التابعة له في قوائم الإرهاب، وعلى رأسها فيلق القدس وهو الذراع الخارجية للحرس الثوري.
تحاول القوى الأوربية معالجة تناقضات المواقف الإيرانية على الطاولة في فيينا من خلال كسر جمود المحادثات بعد تمسك إيران بمطلب شطب الحرس الثوري من القائمة الأمريكية للإرهاب بالرغم من أن إيران تشبثت بفصل القضايا النووية عن القضايا الأمنية والاستراتيجية في هذه المفاوضات.
في المقابل تتمسك أمريكا بموقفها الرافض لرفع الحرس الثوري دفعة واحدة من قوائم الإرهاب دون تقديم إيران امتثالا في المقابل، وذلك اتكاء على اعتبارين، وهما الفصل بين محاولات إعادة إحياء الاتفاق النووي للعام 2015 وبين القضايا الأمنية والاستراتيجية، فضلا عن أن هذه المؤسسة العسكرية الموازية للجيش النظامي الإيراني تشكل ــ من وجهة نظر أمريكية وإقليمية ــ خطرا على الأمن والسلم الدوليين.
يقود مفاوض الاتحاد الأوروبي المسؤول عن تنسيق المحادثات النووية الإيرانية في فيينا إنريكي مورا جهودا دبلوماسية مكثفة للتوصل إلى حل وسط، ولعل آخر هذه الجهود جولته التي تمت في طهران يوم الثلاثاء 10 مايو والتي تعول عليها بروكسل لحس إيران على اتخاذ القرار السياسي.
تتلخص مبادرة إنريكي مورا في ضرورة قبول إيران بالمقترح الأمريكي الذي يتضمن رفع مؤسسة الحرس الثوري، من قائمة المنظمات الإرهابية، على أن تظل كيانات تابعة له ضمنها، خاصة أن حزم العقوبات الأمريكية تشمل نحو 1000 شركة وفرد منضوين تحت مظلة الحرس الثوري أو تابعين مباشرة له.
دخلت قطر على خط الأزمة من خلال مبادرة وساطة يقوم بها أمير قطر تميم بن حمد، وتشمل زيارات له إلى طهران وعواصم غربية للتوصل إلى تسويات ترضي أطراف التفاوض، خاصة أن الخط المباشر بين إيران والولايات المتحدة ما يزال مغلقا بعد إصرار إيران على رفض التفاوض المباشر مع المبعوث الأمريكي للشؤون الإيرانية روبرت مالي من دون عودة أمريكا إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
>> مآل التفاوض المحتمل
ليس من اليسير في هذه المرحلة التنبؤ الدقيق بالقرار النهائي الإيراني أو مآل التفاوض المحتمل، لاسيما بعد أن أبدت الولايات المتحدة الأمريكية تمهلا في اتخاذ القرار السياسي و”ألقت الكرة بكاملها في ملعب إيران”، تماما كما وصفت الخارجية الإيرانية، ومع ذلك فإن أقرب السيناريوهات إلى التطبيق هو موافقة إيران على المقترح الأمريكي مقابل الحصول على ضمانات برعاية أوروبية وبدعم صيني وروسي، وتنهض مسوغات هذا التنبؤ على العوامل التالية:
أن المطلب الأساسي الإيراني هو وجود ضمانات لعدم خروج أمريكا مجددا من الاتفاق في حالة تغير الإدارة الديمقراطية الحالية بإدارة جمهورية في الانتخابات المقبلة، فضلا عن مسألة التحقق من رفع العقوبات قبل الامتثال إلى اتفاق عام 2015 وهي أمور يمكن الحصول عليها بوساطة الاتحاد الأوروبي وبضغوط صينية ــ روسية.
أن إيران تخطط لزيادة الإنتاج النفطي بعد أن حصلت على عوائد قدرها 100 مليار دولار من بيع الخام في الأشهر الأخيرة وهي تريد الاستفادة القصوى من الأزمة الأوكرانية والحلول محل روسيا في السوق النفطية الدولية، تعويضا للعجز الفادح في موازنة العام المالي الفارسي الراهن (21 مارس 2022 ــ 20 مارس 2023).
أن إيران اختبرت المواقف الأمريكية وتبين لها أن أمريكا وضعت أفضليات عدة في هذه المرحلة وهي إمكانية الانتظار إلى مرحلة ما بعد انتخابات التجديد النصفي، وبالتالي أصبح الانتظار إلى الخريف خسارة إستراتيجية لإيران، لاسيما أنها قضت أكثر من عام في الجولات التفاوضية بالعاصمة النمساوية.
أن أمريكا ردت على كل خطوة اتخذتها إيران لإبداء الصلابة السياسية بالمثل، ومنها خطوة مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي عارض الدخول في صفقة مع إيران صوتت عليه أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ، بمن فيهم 16 ديمقراطيًا، مساء الأربعاء 4 مايو، ردا على خطوة إيرانية مماثلة سابقة في البرلمان الإيراني يوم الثلاثاء 5 إبريل.
أن إيران كانت قد وافقت بالفعل على المقترح الأمريكي الخاص برفع الحرس الثوري من قوائم الإرهاب نظير التزام سري بخفض التصعيد، إلا أنها تراجعت لاحقاً عندما علمت أن التزامها هذا لن يظل سراً، وأن أمريكا قد تميط اللثام عنه، أخذا في الاعتبار أن وزير الخارجية الإيراني أعلن أن قادة الحرس الثوري طالبوه بعدم عرقلة المفاوضات مقابل رفع الحرس من قوائم الإرهاب.
>> التداعيات الإقليمية للاتفاق
من المؤكد أنه في حال التوصل إلى اتفاق في فيينا فإن مخرجاته الجيوستراتيجية على الإقليم ستتجاوز الأمور النووية التي حسمها المفاوضون في الأسابيع الأولى من التفاوض، وبالتالي ستكون هناك ارتدادات فورية على تموضع إيران الإقليمي يمكن إجمالها فيما يلي:
تثبيت إيران تموضعها في سوريا على سبيل التحديد ومواصل العمل في إطار ضرورة أن يكون الرئيس بشار الأسد من دون غيره جزءا رئيسا في مستقبل أي تسوية سياسية بالبلاد، مع زيادة العمل في المشروعات الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي مثل الاتصالات والموانئن وتوسيع حضورها العسكري في البلاد.
توسيع إيران من نفوذها بالعراق بعد نجاح قائد فيلق القدس الجديد إسماعيل قاآني في السيطرة نوعيا على الأطياف المسلحة والجماعات ذات البعد الطائفي في البلاد، كما يمكن قراءة ذلك من خلال خطوة تغيير السفير الإيراني في العراق إيريج مسجدي، وتعيين الضابط في الحرس الثوري محمد كاظم آل صادق، المولود في مدينة النجف، محله.
إمكانية مقايضة إيران وجودها في اليمن بوجودها في لبنان وجنوبي فلسطين، بمعنى التحلل الجزئي من دعمها للحوثيين مقابل السماح لها بالعمل بحرية في الملفين اللبناني والفلسطيني؛ إذ إن الملف اليمني كان هو المطلب الرئيس لجماعات الضغط العربية على المفاوض الأمريكي.
تحسن العلاقات الإيرانية ــ الخليجية حال التوصل إلى اتفاق يراعي الأبعاد الأمنية لدول الخليج العربي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تزامن جولات التفاوض في فيينا وبغداد، وتواصل التفاوض الإيراني ــ الخليجي في بغداد برغم توقف مفاوضات فيينا.
>> خاتمة
إذا كان هناك ثمة درس تعلمه المراقبون للشؤون الإيرانية من جولات التفاوض النووية التي استمرت بين أغسطس 2013 ويوليو 2015 والتي أفرزت الاتفاق النووي في الأخير، فهو أن إيران تتخذ قرارها بتمهل وتتريث قبل الإقدام على توقيع المعاهدات والاتفاقات ذات الأبعاد الاستراتيجية؛ لأن مثل هذه الاتفاقات تترتب عليها ليس تغيرات في السياسة الخارجية للبلاد فحسب؛ بل تصاحبها طرديا تغييرات جبرية في بنية المجتمع وفي المعادلات الاقتصادية الداخلية، وعليه يمكن التنبؤ بالتوصل إلى اتفاق ولكن ليس على المدى القريب.
ــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن: المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية ECSS
قم بتحميل الملف لقراءة المزيد