مازالت إيران تسعى جاهدة إلى مواصلة تمددها وتوسعها في المنطقة انطلاقًا من استراتيجية “تصدير الثورة” التي أرست معالمها الثورة الإيرانية في 1979 ونظام ولاية الفقيه، وقد بدأت بإنشاء المنظمات الخيرية والخدمية، لاستمالة قلوب الضعفاء والفقراء، خاصةً في البلدان التي تعاني فقراً مدقعاً وأزمة اقتصادية فادحة، تلك التي انهكتها ويلات الكوارث والحروب ما يسهل تشكيل الحاضنة الشعبية دون أي مجهود يذكر.
أنشطة متنوعة
تنوعت الأنشطة الاجتماعية والخيرية التي تنفذها إيران في الدول الإسلامية، ما بين مستوصفات طبية ومعاهد علمية ودينية ومراكز تهتم بشؤون المرأة وتعليمها وتأهيلها مهنيا، بالإضافة إلى لقاءات دورية وإنشاء حسينيات وتنظيم دورات لتعلم اللغة الفارسية.
كما اتبعت إيران أسلوب الحلقات التبشيرية في المراكز الثقافية التابعة لسفاراتها؛ ما حدا ببعض الدول إلى إغلاقها كما حدث في جزر القمر والسودان على سبيل المثال لا الحصر بعدما اتهمتها الحكومة السودانية بالعمل على “التبشير بالمذهب الشيعي”، متجاوزة “التفويض الممنوح لها والاختصاصات التي تحدد عملها، ما بات يشكل تهديداً للأمن الفكري والأمن الاجتماعي”، حسبما قالت صحيفة “الحياة” اللندنية في سبتمبر 2014.
في سوريا مثلا لم يكتف النظام الايراني بالتدخل العسكري والاقتصادي لدعم وحماية النظام السوري من السقوط منذ العام 2011 على وجه الخصوص فبدأ الادعاء بشرعية وجوده فوق الأراضي السورية وتعدى ذلك إلى السيطرة على المناطق الحيوية خاصة القديمة من العاصمة دمشق مثل منطقة باب توما وباب شرقي والسيدة زينب، هذا على مستوى العاصمة فقط.
ولم يتوقف الاختراق الإيراني عند ذلك الحد، بل راحت طهران تواصل سعيها للسيطرة على مفاصل سوريا كافة، من خلال العديد من الأمور ليس أولها عمليات التجنيس وخلافه، وليس آخرها الاختراق الثقافي والتعليمي المباشر والذي تتكشف معالمه بصورة واضحة تباعًا.
اختراق ثقافي
في حلقة جديدة من حلقات ذلك الاختراق الثقافي والتعليمي وفي محاولة فرض النموذج الإيراني في المنطقة ثقافيًا أعلن وزير الأوقاف السوري محمد عبد السّتار السّيد عن تأسيس كلية المذاهب الإسلامية في العاصمة السورية دمشق، ذلك عقب لقاء جمعه مؤخرا مع رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيراني، كمال خرازي، في إيران، ولفت إلى أن تلك الكلية ستكون بالتعاون مع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الإيرانية (مجمع أسسه مرشد الثورة الإيرانية خامنئي في 1990 لتقريب المذاهب).
ووفق الخبر الذي نشرته وكالة تسنيم الإيرانية في يناير الماضي، نقلًا عن مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية رئيس هيئة مؤسسي “جامعة آزاد الإسلامية” علي أكبر ولايتي، فإن رئيس النظام السوري قد وافق على تأسيس فروع للجامعة في سوريا كما أصدر قرارا بافتتاح فروع لها في جميع المدن السورية.
هذا علما بأن الجامعة المذكورة لها فروع أخرى في دول عربية، ما يدل على كون الجامعة تعمل وفق رؤية واستراتيجية في إطار التوسعات التي يخطط لها نظام طهران في إحكام السيطرة على عمليات الغزو الثقافي، كما أكد الخبر الذي أوردته الوكالة عن لسان ولايتي: “طرحنا خلال لقاء السيد حسن نصر الله الاستعداد لتحويل فرع هذه الجامعة في لبنان إلى فرع شامل، حيث أعلن الأخير استعداده لأخذ موافقة وزارة التعليم اللبنانية لاستكمال المشروع”.
قبل عامين، دعا سفير النظام الإيراني لدى النظام السوري محمد رضا شيباني، إلى تعميم تعلم اللغة الفارسية في جامعات ومدارس سوريا, يأتي ذلك في ظل الاختراق الإيراني لسوريا وسيطرتها بالتعاون مع حليفها الأسد، في إطار سعي إيراني لتغيير الديموغرافيا السورية والثقافة السورية في سياق الغزو الثقافي وتدمير هوية السوريين.
كل ذلك يهدف إلى الدفع ببعض خريجي هذه الجامعات إلى الواجهة المجتمعية وعن طريقهم يتم تشويه التاريخ والثقافة العربية محاولين إبعاد المجتمع السوري عن محيطه العربي وإسلامه الوسطي المعتدل وربطه بالمحور الإيراني وولاية الفقيه حيث بات هذا الأمر أكثر وضوحًا الآن.
إن المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ليس أمرًا جديدًا فمحاولات إيران للتغلغل الناعم للوصول إلى المياه الإستراتيجية على المتوسط هي هدف رئيس، وذلك عن طريق التبشير الديني والنشاط الكبير للمستشاريات الثقافية في بلدان الشرق الأوسط.
خاتمة
المجمل أنه لا أحد بمأمن عن هذه الممارسات والتدخلات، فالنجاح في ردع هذا التمدد يتوقف على وضع استراتيجية عمل موحدة ومحكمة لمواجهة الغزو الثقافي لنظام إيران في المنطقة ووقف تدخلاته في المؤسسات التعليمية يبدأ العمل بها من القاعدة وصولا إلى رأس الهرم.
السؤال المطروح حاليا: كيف يمكن التصدي للتوسع الإيراني الثقافي والتعليمي في ظل الوضع الحالي الذي تمر به المنطقة من أزمات على مستوى التشرذم الداخلي والتفتت الخارجي؟ وكيف يمكن بناء استراتيجية ثقافية دفاعية في منطقة تتأرجح ما بين البحث عن هوية وإثبات ذات الحاضر؟
هذا ما سنجيب عنه في المقالات المقبلة.