ما يزال كتاب وزير الخارجية الإيراني السابق الدكتور محمد جواد ظريف الذي نشره قبل نحو شهر يلقي بظلاله على الحياة السياسية في إيران، وعلى فهم أبعاد السياسات الإيرانية الإقليمية بشكل عام، خاصة أن الكتاب تعرض بالوصف والشرح والنقد لكثير من كواليس السياسة الإيرانية في السنوات الثمان التي قضاها ظريف فوق قمة الدبلوماسية الإيرانية في ولايتي الرئيس السابق حسن روحاني (2013 ــ 2021).
فقبل أيام أعلن ظريف عن صدور الطبعة الثالثة من كتابه الذي نشرت طبعته الأولى في مارس 2024 بعنوان “پایاب شکیبایی” أي “طاقة الصبر” عن دار نشر اطلاعات، ويتضمن الكتاب مذكراته السياسية عن تلك السنوات الثمان التي جلس فيها على مقعد وزير الخارجية.
سبب تسمية الكتاب
لم يفت على الوزير محمد جواد ظريف أن يعلل سبب اختيار عنوان الكتاب الذي يعتبر غير مألوف في عالم السياسة الراهن، وذكر في مقدمته وكذلك في اللقاءات الصحفية التي أجراها تعليقا على ما ورد في ثنايا الكتاب أنه كان هناك اقتراح أن يعنون الكتاب بـ”معالي الوزير” كاستكمال لكتاب “سعادة السفير” الذي كان عبارة عن حوار صحفي امتد لأكثر من أربعين ساعة أجراه الصحفي الإيراني الذائع محمد مهدي راجي حينما كان ظريف سفيرًا لإيران في الأمم المتحدة.
غلاف كتاب “پایاب شکیبایی” أو “طاقة الصبر” لوزير الخارجية الإيرانية السابق محمد جواد ظريف
وفي كتاب “سعادة السفير” لم يكن ظريف هو المؤلف ولكنه كان الراوي الذي يحكي إلى صحفي تمرس على سرد الحكايات السياسية ذات الصلة، لكن في هذه المرة ألف ظريف الكتاب بنفسه، وبالتالي رأى الوزير أنه ليس من اللائق أن يتحدث عن نفسه ويصف شخصه بـ”معالي الوزير”، وتحرج الرجل من فعل ذلك هروبا من الاتهام الشهير لمن يكتب المذكرات وهو النرجسية وتمجيد الذات وغيرها من التهم المعروفة في هذا الصدد.
ولقد حكى ظريف أن أحد أصدقائه من الدبلوماسيين بوزارة الخارجية كان يناديه بـ”الوزير باسم الثغر، الحزين”، وكانت هذه العبارة أيضا مقترحا لعنوان الكتاب، لكن شعر في النهاية أنه يضفي شعورًا سلبيًا على نفس المتلقي، وكذلك عندما تتبادر إلى الذهن عناوين ثقيلة الوزن مثل “الدبلوماسية في عالم ما بعد القطبية” تكون غير جذابة بالنسبة إلى كتاب عبارة عن مذكرات سياسية وليس بحثا أكاديميا أو ما شابه.
ويقول ظريف إن مهدي دانش يزدي أحد أصدقائه ونائبه وقت مأموريته في نيويورك هو من اقترح عليه عنوان الكتاب مقتبسًا إياه من غزلية من أشعار حافظ الشيرازي ــ ترجمها الدكتور إبراهيم الشواربي في كتابه أغاني شيراز ــ وفيها يقول حافظ:
في بعدي عنك قد ثقل عليّ
الاشتياق والهجر
بحيث كادت أن تفلت من يدي
القدرة على الاحتمال والصبر
ولكن دانش يزدي أحدث تغييرا في البيت كي لا يعبر عن نفاذ صبر ظريف فقال:
مصلحة الوطن في رأسي
على الدوام كي لا تفلت
من يدي القدرة على الاحتمال والصبر
وعبر ظريف في حوار له مع الصحفية الإصلاحية سارة معصومي بموقع جماران الإصلاحي، عن أن عبارة “پاياب شكيبابى” أي “طاقة الصبر” تشير إلى نظرته الخاصة بالأمور السياسية خلال توليه منصب وزير الخارجية إذ تعرض إلى كثير من النقد الداخلي الشديد والتحديات الخارجية المعقدة؛ لأن إيران من وجهة نظره بحاجة إلى تأمين مصالحها القومية، وعلى من يتصدى للشأن العام التحلي بالصبر والاستعداد لتحمل الضغوط وأذى الألسنة وطعنات الخناجر التي تأتي من الظهر.
ما الهدف من الكتاب؟
ذكر الدكتور ظريف في مقدمة الكتاب التي شرحها في مقابلته مع معصومي أن الهدف من الكتاب الذي يحكي تاريخ ثمان سنوات من الدبلوماسية الإيرانية ومقتطفات من أربعين عامًا من العلاقات الخارجية لإيران، هو استفادة الجيل الجديد من الوصول إلى معارف أفضل للقيادة والدبلوماسية الأكثر فاعلية.
صورة من الحوار الذي أجرته الصحفية الإصلاحية سارة معصومي، بموقع جماران الإصلاحي، مع وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف تعليقا على ما ورد في مذكراته “پایاب شکیبایی” أو “طاقة الصبر”.
ويقول بعبارات لا تقبل التأويل إن الشرط الأساسي لهذا الهدف هو الذهاب لأكثر من مجرد قراءة بسيطة للأحداث وامتلاك منهج تساؤلي نقدي بدقة وذكاء. فقط بهذه الطريقة يتسنى للتعليم الحالي أن يصبح أساسا استرشاديا ورؤية للمستقبل.
ويرى ظريف أن الشعوب والحكومات بدون نظرة دقيقة إلى آثار الماضي وإعادة قراءة حكيمة للتجارب لا بد أنها ستعيد ارتكاب أخطاء الماضي مرة أخرى؛ لذلك لم يتردد في الحديث عن كواليس الأحداث الجسام التي مرت بإيران وقت أن كان في الحكومة، ومن ذلك مثلا: مسألة اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، وإسقاط الطائرة الأوكرانية، وكل ما دار في الغرف المغلقة بخصوص مفاوضات الاتفاق النووي لعام 2015 الذي يعد أبرز نجاحاته في عالم الدبلوماسية متعددة الأطراف.
محتويات الأبواب الستة
جاء الكتاب في نحو ٥٣٨ صفحة قسمها ظريف إلى مقدمة وستة أبواب وخاتمة وملاحق، وقد جاء الباب الأول تحت عنوان “العودة إلى وزارة الخارجية” وتحدث فيه عن مسألة اختياره نائبا لوزير الخارجية في عهد محمود أحمدي نجاد وما تم في تلك الفترة العصيبة التي عانت فيها إيران من عزلة دولية وإقليمية.
أما الباب الثاني فجاء تحت عنوان “وزارة الخارجية.. نظرة من الداخل” وتحدث فيه عن دولاب عمل وزارة الخارجية الإيرانية وطريقة صنع القرار من الداخل ولم ينس ظريف أن يستشهد بكثير من المواقف التي دارت في أثناء تلك الفترة خاصة المواقف العصيبة المتعلقة بالعلاقة بين وزارة الخارجية وبين مؤسسات الدولة الدستورية والسياسية الأخرى.
وفي الباب الثالث الذي حمل عنوان “العلاقة بالهيئات الإدارية” تحدث ظريف عن العلاقة بالقيادة، والعلاقة برئاسة الجمهورية، وقصة استقالته المدوية من الوزارة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى إيران ولم تستدع الخارجية إليها، فضلا عن علاقته بالسلطة القضائية، والعلاقة بالمجلس الأعلى للأمن القومي، وكارثة الطائرة الأوكرانية، والعلاقة بالمؤسسات العسكرية، والعلاقة بالمؤسسات الأمنية والاستخباراتية، ودعم المؤسسات الاستخباراتية في الخارج، والعلاقة مع سائر أجهزة الدولة.
وقد خصص ظريف الباب الرابع للحديث عن “إطار العلاقات الخارجية” وسرد فيه رؤيته للسياسة الخارجية والمصالح القومية، وتنوع مصادر السلطة ومكانة الشعب، والأولويات التي على الأمة الإيرانية أن تتبعها، وعهد ما بعد القطبية.
وحمل الباب الخامس عنوان “التواصل مع الجيران وجنوب العالم” وتحدث فيه عن أولوية العلاقات مع الجيران العرب، ومسألة حرب اليمن، والعلاقات مع العراق، والعلاقات مع تركيا، وما وصفه بـ”خطأ تركيا الإستراتيجي في سوريا”، ومعاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين، والعلاقات مع دول القوقاز ودول أسيا الوسطى، وأفغانستان، وباكستان، وطبيعة النظرة الإيرانية إلى المحيط الأسيوي وإلى دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وفي الباب السادس والأخير والذي حمل عنوان “إيران والقوى العظمى” تحدث ظريف عن العلاقات مع روسيا ومسار أستانا، والعلاقات مع الصين، وطبيعة التركيز على الذات الأوروبية في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي”، وموقفه من سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تجاه الاتفاق النووي، ومسألة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الأخير على إيران وأخيرا انتخاب الرئيس الديمقراطي جو بايدن وأثره على العلاقات مع إيران.
خاتمة
يعد كتاب “طاقة الصبر” أحد المفاتيح المهمة لفهم السياسات الإيرانية في بيئتيها الداخلية والخارجية، وهو كتاب لا غنى عنه ولا يمكن تجاهله لمن أراد أن يعرف ما دار في تلك السنوات الثمان التي قضاها ظريف وزيرا للخارجية، كما أن أهمية الكتاب في هذه الأيام هو أنه نشر بداخل إيران وفي حياة كل أبطال القصة الذين ما يزالون على قيد الحياة والذين يمكنهم تكذيب الوزير السابق أو تصديقه، خاصة في المجلس الأعلى للأمن القومي بالبلاد، فضلا عن وزراء خارجية العالم الذين هم جزء لا يتجزأ من روايات الكتاب وحكاياته ومواقفه الكثيرة.