قبل وفاته بنحو أربعة أعوام وتحديدا في السادس والعشرين من شهر سبتمبر عام 1999 زار عضو مجلس الرئاسة فى البوسنة والهرسك، علي عزت بيجوفيتش، العاصمة الإيرانية طهران، ومن هناك وقف الرجل بجوار مُضَيِّفِه، حسن حبيبي، نائب الرئيس الإيراني في ذلك الوقت محمد خاتمي، وطالب العالم الإسلامي كافة بالتضامن مع شعب البوسنة والهرسك في نضاله ضد العدوان الصربي المدعوم روسيًا بحق مسلمي هذا البلد.
وأمام جمع من الصحفيين في مطار طهران الدولي نصب الرئيس الفيلسوف قوامه وأسس لتلك الفكرة ثم أطلق عباراته العميقة الرنانة التي وضع لبناتها الأولى في العام 1980 حول أهمية تضامن شعوب الأمة الإسلامية في تلك الأزمة التي كانت حديث العالم في العقد الأخير بالكامل من القرن العشرين.
وكان بيجوفيتش قد تناول هذه الفكرة قبل نحو عشرين عاما من زيارته تلك، في كتابه الذائع “الإسلام بين الشرق والغرب” الذي شكل نموذجاً للقائد المفكر، الجامع بين الطبيعة الفلسفية والواقعية في آن واحد، غير أن أصداء الفكرة في بلد يجلس على قمته التنفيذية فيلسوف بحجم محمد خاتمي كان لها وقع آخر.
وفي هذا الكتاب توصل بيجوفيتش إلى أن العلاقة بين الدين وبين السياسة أو العالم المادي بوجه عام تمثل جدلية قائمة عبر السنوات الطويلة تتباين فيها الآراء ما بين مؤيد ومتحمس، ولعل التناقض بين النظريات والتطبيق هو ما يولد الصراع الخارجي بين الرافض لتطبيق الدين على “الحياة” والمؤيد لتلك الفكرة.
ثنائية الإنسان والإسلام
خلق الله الإنسان جامعاً بين المادة وبين الروح، يسعي لتغطية احتياجاته الأساسية وفي الوقت ذاته تصبو عيناه إلى السماء وحقائق الكون من حوله فيما يمكن أن يطلق عليه “الدوار الميتافزيقي” الذي عرفه الإنسان البدائي ولا يزال كامناً في أعماق النفس الإنسانية وإن غطته رواسب الحضارة المادية.
ولعل من أبرز مساوئ الحكم الاستبدادي الذي قد يعرفه أي مجتمع ينطلق من قاعدة أساسية وهي التعامل مع الإنسان من منظور أحادي النزعة (محاولة تحويل الروح الحية لشيء أو جماد) وفي ذلك صدام مع أعمق ما في الإنسان وهو “الحق في الإرادة والحرية وانتهاكاً لمبدأ أن الحر يمجد الله وليس المخلوق”.
إذا تم النظر إلى الواقعية الإسلامية التي تتعامل مع الحياة، نجد أنها على النقيض من المسيحية على سبيل المثال، فقد أكدت على صلاحيتها للواقع والنهضة الحضارية من منطلق أن الإسلام خاطب الإنسان بكل ما فيه مادياً ومعنوياً.
من ثَمَّ أكدت ثنائية الرؤية الإسلامية الصحيحة على الجمع بين الروح والمادة في اعتراف سماوي بثنائية الإنسان ذاته، فالإسلام لم يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان، حيث قام بإلغاء “البطولة” حين تعامل مع “الفرد البشري” وألغى المثالية المرهقة للنفس حين اعترف وتعامل مع الطبيعة.
ويري علي عزت بيجوفتيش أن سجود الملائكة للإنسان في المشهد السماوي عميق الدلالة على تفوق الدراما “التناقضات البشرية” على المثل العليا المجردة.
المزج بين الدين والدولة
من الواضح أن الواقع دوماً لا يعترف بالمنطق الأحادي للنظريات، ومن ثم نجد أن محاولة مزج الدين بالسياسة على أرض الواقع أنتجت صورة منبتة الصلة بما سبق على النحو الآتي:
ــ عنف سياسي وتعسف في النظرة لمختلف جوانب الحياة على النقيض من الطبيعة الحقيقية للإسلام والمفهوم الديني بوجه عام.
ــ نماذج فشل عديدة أثبتت وجهة نظر الرأي العام وشرائح من المثقفين بوجه خاص تجاه “تفضيل فصل الدين عن السياسة”، وأنه من الضروري أن نفصل بين ما يريده الله وبين ما يريده “قيصر”.
ــ الانشطار الاجتماعي قبل السياسي في الرؤية لمفهوم الدين بوجه عام ومقدار المزايا والعيوب إذا تم مزجه بالسياسة الواقعية.
ــ تناقض صارخ بين مظاهر تداخل الدين في السياسة وغياب الديمقراطية وبين الأسس النظرية لمكونات الإسلام الرئيسة انطلاقاً من أن الحر يعبد الله (التفسير السياسي إن جاز التعبير لشهادة “لا إله إلا الله”.
ــ ابتعاد عن النموذج الإسلامي الصحيح في صلته بالواقع والذي يستند إلى الجمع بين الدين والدنيا، وارتباط كل مجالات الإبداع الراقية بجذور دينية روحانية، والدفاع عن الحق وحقوق الإنسان، وحتمية مواكبة العصر والتطور) إذ شهد الواقع نقيض ما سبق من خلال “الدروشة الاجتماعية والتركيز المفرط على الشكليات” و”توظيف الدين في السياسة بمفهوم سلبي”.
ــ تجاهل محاولات التطبيق الواقعية لحقيقة محورية وهي أن الإسلام الجامع تحول من التصوف “غار حراء” إلى مفهوم الدولة والحضارة الإنسانية “في دعوة خالدة لمواكبة الواقع عبر الأزمنة المختلفة.
نظام إنساني وليس يوتوبيا
أخيراً يمكن القول إن ثنائية الإسلام الحق بين الدين والدنيا تبتعد عن المنظور التعجيزي إذا أمكن القول لفكرة الطوبيا أو اليوتوبيا التي أشعلت خيال المفكرين عبر العصور ما بين مؤيد ومعارض.
فمن الصحيح والثابت أنه ــ برغم التطور الحضاري الممتد في خط مستمر عبر الأزمنة ــ يستحيل على الطبيعة البشرية الاندماج في مجتمع “مثالي” سياسياً واجتماعياً، إذ إن الطبيعة الإنسانية أقرها الله كمزيج يرفض فكرة “النموذج أو القالب”.
ولعل في تصور الكاتب الإنجليزي بعيد النظرة “جورج أورويل” ما يؤيد ذلك إذ صور المجتمع والنظام السياسي المثالى وكأنه “كوميديا سياسية سوداء” وليس مجتمعاً سوياً للبشر صالح للحياة وإثبات الذات خاصة وأن اليوتوبيا التكنولوجية التي نشهد أحد الوجوه الواضحة لها حالياً والمستمرة في المستقبل بالطبع على سلم التطور، تشهد بصحة مفهوم “التقدم للخلف” إنسانياً في ظل قولبة العقول والسير في طريق صياغة العقل المتقن الصنع من المنظور الآلي البحت.
عليه فإن النظام السياسي الذي يخدم “ثنائية الحياة بين الفكر والمادة” هو الصالح لكل الأزمان وللطبيعة البشرية في آن واحد وليس النظام المقنن “اليوتوبيا” من حيث الممارسات وصياغة العقول.