كان لظهور تيمور القوي على مسرح الأحداث في الشرق، وطموحه الشديد للسيطرة على العالم الإسلامي وحشده القوات الكبيرة لهذا الغرض والانتصارات السريعة التي أحرزها في تقدمه نحو الغرب، تأثير مباشر على وجهة الأحداث في مدينة أصفهان، فبعد الحملات الأولى له والمحدودة على نواحي شرق فارس قام تيمورلنك بمجموعة من الحملات الواسعة وطويلة المدى على المناطق المختلفة في فارس وآسيا الصغرى والتي استمرت لمدة طويلة وهي التي اتفق على تسميتها باسم حرب السنوات الثلاثة، وهى مجموعة الحملات التي قام بها تيمورلنك في الفترة من 788هـ/ 1386م حتي عام 790هـ/ 1388م في المناطق المختلفة في فارس مثل مازندران ولورستان الصغرى وأصفهان.
تدور إشكالية البحث حول الأوضاع الاجتماعية بمدينة أصفهان ودورها في القيام بالثورة سنة 789هـ/1387م، ضد حملة تيمورلنك على مناطق حكم الأسرة المظفرية، حيث نستعرض سجلات المصادر في عرضها للأحداث، فمعظم المؤرخين التيموريين ــ كتاب السلطة الحاكمة إن جاز التعبير ــ ركزوا علي جانب واحد أو عامل واحد لحدوث ذلك الحدث، وأغفلوا الجوانب الأخرى لهذا الحدث مثل الدور الاجتماعي وأثره في القيام بالثورة، وكذلك تأثيره على مصير ونتائج الثورة والذي ظل صامتا إلى حد ما. فلقد رسمت لنا مصادر تلك الواقعة في هذه الفترة مسرحاً جاداً باعتبارها واحدة من المؤسسات الشرعية للسلطة الحاكمة حيث تظهر أسباب الثورة والأحداث والنتائج من وجهة نظر السلطة الحاكمة (لأنهم مؤرخي السلطة)، فعند مطالعة الروايات التاريخية في تلك الفترة لمعرفة أسباب الحدث، وجد أن تلك المصادر أغفلت الأوضاع الاجتماعية لأهالي المدينة كسبب مباشر لحدوث الثورة إلى جانب حجم الضرائب المقررة عليهم من جانب السلطات الحاكمة.
بهذا الشكل أغفلت المصادر المكتوبة العلاقة بين الأوضاع الاجتماعية وحدوث الثورة، فالروايات كانت قصيرة إلي جانب أنها كتبت من قبل كتاب البلاط التيموري مما جعلها تغفل الجوانب الاجتماعية واشكالها، مثل الترابط بين المواطنين وكذلك المساعدات التي تلقوها عندما بدأوا في مقاومة جيش تيمور ومحصليه.
فعلى الرغم من الدور الكبير الذى لعبتهُ طوائف المجتمع الأصفهاني، فإنها لم تذكر في المصادر التقليدية إلا بنصف الكلمات، وهو أمر بديهي إذا وضعنا في الاعتبار موقع المؤرخ الاجتماعي، وموقفه من صراع الحاكم والمحكوم والتوتر الذي ميّز علاقة الطرفين، بالإضافة إلى مكوناته الثقافية ونظرتهِ القاصرة للتاريخ، إذ ظل في الغالب الأعم عاجزًا عن الرؤية الواقعية لمسار حركة التاريخ والعوامل الأساسية التي تحدد صيرورته، وبقي اهتمامهُ مُنْحصرًا في المجال السياسي فقط، دون النفاذ إلى عمقهِ ورؤيته من خلال علاقتهِ الجدلية بكل ما هو اجتماعي ومن ثَمَّ عمل على تغييب أخبار الطبقات الاجتماعية التي لم يقدر لها المشاركة في القرار السياسي فاكتفي بتمجيد النخبة في حين أُسْدِلَ ستاراً من الصمت على السواد الأكبر من المجتمع.
ولعل أهم ما يلفت النظر في أساليب تيمورلنك الحربية أنه كان يستند على مجموعة من الأعذار والأسباب للقيام بحملاته على المناطق المختلفة، ولقد وجد عذره للقيام بحملته على مدينة أصفهان طبقا لوصية الشاه شجاع المظفري ـ والتي أرسلها قبل موته إلى تيمورلنك ـ يوصيه فيها بالعناية بأولاده وتدعيم أشقائه، ومن هذا المنطلق استولي جيش تيمورلنك على مدينة أصفهان بعد أن توصل مع أهالي المدينة إلى اتفاق يُقضيِ بجمع مبلغ من المال من أهالي المدينة عرف باسم “مال الأمان” مقابل سلامتهم وعدم المساس بهم.
أ ـ أسباب القيام بالثورة
كان هذا المال سببًا في قيام الثورة بالمدينة، إذ مارس المحصلون مع بعض الرعايا التشدد والقسوة، مما أثار غضب أهالي المدينة من جراء تصرفاتهم السيئة؛ نتيجة تعرضهم للمال والعيال فأفرغت من المال خزائنهم؛ نتيجة ما فرض عليهم من ضرائب جائرة، الأمر الذي أوجب تحرك سكان المدينة للقيام بالثورة، ويدلل على ذلك ابن عربشاه، وهو مؤرخ خارج نطاق السلطة التيمورية، على فظائع ما ارتكبه محصلي تيمور بالمدينة قائلاً(.. وتفرق فيهم المستخلصون فكانوا يعيثون فيهم ويعبثون، واستطالوا عليهم فجعلوهم كالخدم، وتوصلوا أن مدوا أيديهم إلى الحرم فانتهكوا منهم أي نكاية فرفع أهل أصفهان إلى رئيسهم الشكاية، وكثرت منهم الشكية، وهم قوم لهم حمية، وقالوا أن الموت على هذه الحالة خير من الحياة على هذه الاستطالة فقال لهم رئيسهم: إذا أقبل المسا فإني أضرب الطبل لكن تحت كسا، فإذا سمعتم الطبل قد دق والقول قد حق، فليقبض كل منكم على نزيله، وليحتكم منكم بسمين رأيه وهزيلة… ).
الجدير بالذكر أن المصادر الموالية للسلطات التيمورية أغفلت حجم الضرائب المقررة علي المدينة لدرجة أن حافظ آبرو يفصح عن حجم الضرائب المقررة على مدينة أصفهان بأنها ضئيلة لدرجة أنها كانت أقل من ثمن حدوة أقدام الخيول على حد قوله، وحتي شرف الدين اليزدي ـــ صاحب كتاب النصر ـــــ يُفصح عن الضريبة المقررة على شيراز وهي (ألف تومان كُبكي) في حين التزم الصمت في موضوع مال الأمان المفروض على مدينة أصفهان. ويبدو أن سكوت المؤرخين ـــ مع أنهم بلا شك ـــ كانوا على علم بمحتوي القضية لا يقلل من قيمة ما فعله أهل أصفهان، ومما لاشك فيه أن سلوك المحصلين مع أهالي المدينة وأفعالهم كانت سبباً في تحريض أهالي المدينة للتمرد والثورة لماذا؟ لأنه أثناء جمع الأموال حدثت المناوشات بين الطرفين فكانت دافعًا للقيام بثورتهم.
بالإضافة إلي عدة أسباب أخري تمثلت في: سوء الأوضاع الاقتصادية في المدينة نتيجة مجريات الحروب التي كانت قائمة بين أفراد الأسرة المظفرية والثى أثرت ــــ بلا شك ــــ على أوضاعها الاقتصادية ونستشف ذلك من خلال تعليق صاحب الحوادث التاريخية على حالة المدينة قائلاً (.. بأن حالة البيع والشراء في المدينة قد ساءت…) ويعتبر هذا دليل مقنع لاندلاع الثورة.
ويرجع البعض القيام بالثورة بطريق غير مباشر إلي القرار السياسي الخاطئ لتيمور في إرسال محصليه لجمع الأموال، ولم يعتمد على القيادات الكبرى من رجال المدينة ، خاصة أن المصادر ذكرت أنهم تجنبوا المشاركة في الثورة خوفاً من سخط تيمور وعقابه؛ إذ إنه من المعروف أن المواجهة بين المحصلين بطبيعتهم البدوية الباحثة عن ذرائع وبين أهل أصفهان وضعت المدينة على أعتاب المواجهة، مما مهد لقيام الثورة.
والتساؤل هنا: لماذا لم يُخول تيمور للقيادات العليا بالمدينة أمر جمع مال الأمان وواجه بقواته العسكرية أهل أصفهان بصورة مباشرة؟ هل لأنه لم يطمئن لممثلي وكبار أهل المدينة بجانب الخوف من توبيخ الأهالي لهم في حالة إرسالهم? أو تجنباً لإثارة المشاكل ضده من جانبهم؟.
علي أية حال لا توجد شواهد مباشرة للإجابة على هذه الاسئلة والمصادر التي بين أيدينا لا تعطينا إجابة واضحة، ولكن وبدون شك أن الوفد الذي خرج لمقابلة تيمور والذي كان تحت قيادة مظفر الدين كاشي ـــ خال زين العابدين ــــ إلي جانب أن أعضاء هذا الوفد كانوا من المواليين لحاكم المدينة، بالإضافة إلى أنه في السابق كان لهم دور كبير في تولي زين العابدين مقاليد الحكم بالمدينة، فلهذا ومن المحتمل أن تلك الأمور كانت موجبة لعدم ثقة تيمور في العناصر التابعة إلي العدو الفار زين العابدين؛ لذلك لم يكلفهم بجمع مال الأمان.
ويرجع البعض قيام أهل المدينة بالثورة لأنهم اتصفوا بخبث طبيعتهم وجهلهم المجبولين عليه، فلم يتحملوا دفع ما عليهم من أموال فبادروا بالعصيان والتمرد، ويعلق أحد المؤرخين الفرس على ذلك السبب أنه بتلك الصورة تعطينا المصادر تقييم لدور الأهالي في الثورة غير منطقي، ويفتقد للواقعية، والظاهر على ما يبدو أن تلك الشعارات المرفوعة كانت بهدف كسب تأييد شرعي لتيمور في القضاء على ثورة أهل أصفهان وإضفاء نوع من الهالة الشرعية لتبرير القمع الشديد الذي حدث لهم عقب القيام بالثورة.
وهناك سبب آخر يعود به ستودة إلى طبيعة تعرض جنود التركمان لعورات النساء بأحد الأسواق بصورة كبيرة؛ فعورات النساء وصراخهم جعلت الالاف من الرجال من أهل المدينة على استعداد للموت والقتل من أجل حماية الأعراض، ومع أن التعدي على الأهل والعيال موضوع نستطيع تجميع الدلائل عليه، إلى جانب ما صدر من الجنود في السوق وبدون شك مع استمرارهم في تحصيل الأموال، إلى جانب ما كان يحدث ليلاً عند استضافة الأهالي للمجندين في بيوتهم كان لذلك أهمية كبري في قيام أهل أصفهان بالثورة، وفي هذا يجب أن نطرح بعض المسائل الضرورية وهي أن الضيافة في بيوت الرعايا كان من سنة المغول والحكومة الإيلخانية، وكذلك كان من مراسيمهم استضافة كبار الضباط في بيوت الرعايا، وبدأ هذا التقليد عمومًا عندما كانت مهام المسئولين الحكوميين تقتصر على بعض أو جزء منهم وليس الجيش بأكمله، ويعطينا صاحب كتاب دستور الكاتب في تعيين المراتب صورة على استضافة أهالي المدن لكبار رجال الدولة فيقول(.. أن أمراء وأركان الدولة الإيلخانية والمتغلبين عليها كانوا ينزلون ضيوفاً عند الأهالي والمواطنين بالمدن…) غير أن الانتقاد الذي قد يوجه إلى كبار الموظفين هو عدم احترامهم للأعراض وهتك الحُرمات، ولا شك أن ما تعرض له المواطنون والرعايا من المحصلين وما تحملوه منهم كان نذيراً للقيام بالثورة.
خلاصة القول أن طابع أهل أصفهان الثوري، ورفضهم للظلم؛ لشعورهم بقيمة بلدهم كان أكبر دافع للقيام بثورتهم، ولا شك أن حجم مال الأمان وطريقة جبايتها الاستفزازية قد هيأت السبل للقيام بالثورة، ولكن كان لابد من وجود شرارة للحرب والتي تمثلت في التعرض للمال والعيال مما أدي إلى نشوب الثورة.
ب ـ أحداث الثورة
أما عن قيام الثورة ذاتها وأحداثها، فتعطى المصادر التي بين أيدينا معلوماتها القليلة عنها، وكأن هذه الثورة قد تمت بطريقة مفاجئة، فمن غير المعقول أن تندلع الثورة بمجرد قرع الطبول، دون أن يسبقها إعداد جيد؛ لذلك من البديهي أن يكون قد سبقها إعداد يحمل الطابع السرى، وربما على نطاق واسع مستغلين فرصة وجود جيش تيمور خارج المدينة، وحسب ما روى بن عربشاه (.. أن لأهل أصفهان حمية ورفعوا إلى رئيسهم الشكاية وقالوا أن الموت على هذه الحالة خير من الحياة على هذه الاستطالة فإذا أقبل المسا فإني أضرب الطبل…. فإذا سمعتم الطبل فليقبض كل منكم على نزيله..) وفي هذه العبارة إشارة واضحة إلى وجود المحصلين وقوات الجيش في منازل أهل أصفهان واصطلاح رئيس الذي تم ذكره كان يعني رتبة عالية في الديوان، وهو ما يعني التأكيد على أن الزعيم والمنسق الذي ظهر بين تلك المجموعات المختلفة من السكان والذي وصفته المصادر باسم على كچه با، والذي استفاقت أصفهان في الليل على قرع طبله، يدعو أهاليها إلى الانقضاض على الجنود والحامية داخل المدينة، فكان من الطبيعي قيام بعض أهالي المدينة بقتل أكثر المحصلين والجند الذين كانوا داخل المدينة بعد معركة نشبت بين الطرفين، هكذا تمت عملية ذبح الحامية وهذا إن دل فإنما يدل على دقة التخطيط الكامن وراء تنفيذها، وقد قدر عدد من قتل من جيش تيمور بحوالي ثلاثة الأف مقاتل، ثم قام الأهالي بتحصين مدينتهم استعدادًا لمواجهة تيمور وكان ذلك في يوم الأثنين السادس من ذي القعدة عام 789ه/ 17نوفمبر 1389م.
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن علي كچه پا هو المسئول الأول عن قيام الثورة وفقاً لوجهة نظر المؤرخين التيموريين في توضيح ما قام به أهل المدينة من شغب ضد تيمور، وفي التخلص من أتباعه وجنوده، وإن كانت الثورة في ماهيتها تتمثل في الصراع بين تيمور كزعيم للحق ـــ من وجهة نظرهم ـــــ من جهة وأهالي أصفهان من جهة أخري، فحاولوا ربط الثورة بالشخص للانتقاص من العمل الذي قام به الثوار، كذلك فإن الاشارة الواردة في رواية اليزدي حول كون الشخص الأخير قروياً لا تخلو من الانتقاص منه؛ لأنه من السائد آنذاك أن يعمد أهل القلم إلى الاستعانة بالقرويين بشتي الطرق، ومهما يكن من أمر فإن علي كچه پا كان ذائع الصيت في أصفهان وكان قادراً بشدة على استغلال القوي الاجتماعية الموجودة بأصفهان لصالحه، فكل تلك المؤهلات جعلت منه قائداً للثورة. وهنا نود طرح بعض التساؤلات كيف حدث التنسيق بين على كچه پا وأهل اصفهان؟ وما هي وسائل الاتصال بينهم؟ فالمصادر الموالية للحكم التيموري جاءت عباراتها غامضة ووصفتهم بأنهم مجموعة من الأرذال والأوباش وقطاع الطرق، ومن الواضح أن استخدام مثل تلك العبارات يشير إلى عدد محدود وخاص من السكان، أو بعبارة أخري تشير المصادر إلى أعداد كبيرة من الفقراء المشاركين في الثورة وفي الوقت نفسه تقول بأن أعدادهم منخفضة وتلك النقطة غامضة في حد ذاتها فالكلمات التي وصفوا بها أهل المدينة كالأرذال والأوباش من الصفات العمومية والخصائص العامة لأهل أصفهان فالسلطة الحاكمة كانت تطلق تلك المسميات علي حرفيات معينة من العمال أمثال الحدادين؟ أو بعبارة أخري لا تستخدم المصادر صفات مناسبة لوصف سكان المدينة من جهة في محاولة لتشوية أو للتقليل من قيمة المعارضين، في حين أن قمع الثورة وقع علي مجموعة من سكان المدينة فقط؟ ولكن هناك بعض الكلمات المستقاة من المصادر والتي تفيد بأن مجموعة من أصحاب الأعمال والفئات الاجتماعية شاركوا في الانتفاضة، فالبعض من المصادر يستخدم كلمة الأصفهانيين في إطلاقها على مجموعة المتمردين, حتي حافظ آبرو ــــ الذي يعتبر شاهد عيان على هذا الحدث ــــــ كان يستخدم لفظ أهل أصفهان، وفي كتاب أخر له وصفهم بالأرذال والأوباش، وهذا يعطي تناقضا لما أورده في كتابه ذيل جامع التواريخ رشيدي. ويتبين لنا من خلال مقاومة أهالي المدينة لجيش تيمور وكذلك من خلال معرفة عدد القتلى؛ حدوث تنسيق بين القوي المختلفة تقريبًا، وهذا ينفي قول اليزدي بأن عدد محدود من الأهالي شاركوا بالشغب.
لا شك أنه بعد أن علم تيمور بما حدث لجنوده بالمدينة أعطى أوامره بالقتال، ولا تعطينا المصادر التي بين أيدينا جواباً حول كيفية بدء القتال بين الطرفين، والظاهر أن قوات الجيش التيموري تفاجئوا جدًا بالهجوم عليهم، إلى جانب عدم ذكر أي مقاومة من جانب أهل المدينة ضدهم، أو قتل القوات المحلية لهم، وأكتفت المصادر بالتصريح حول عدد القتلى فذكر ابن عر بشاه أن أهل أصفهان قتلوا ستة الأف جندي، حتى حافظ آبرو نفسه ــــ الذي كان شاهد عيان على تلك الأحداث ــــ بخلاف ما أورده عن وصف أبراج القتلى والمآذن التي اقيمت بالمدينة بطريقة دقيقة ويعطي أرقامًا دقيقة لعدد الأبراج، إلا أنه في تلك المرحلة لم يذكر قتلي جيش تيمور واستخدم عبارة بعض قتلي قوات تيمور بيد أهالي المدينة، في حين ذكر اليزدي عدد قتلي حامية تيمور بثلاثة الأف جندي.
وعلى ما يبدو أن عدد القتلى بلغ ستة الأف شخص حسب رواية ابن عر بشاه، ولا يمكننا أن نتصور الحد الأدنى للقتلى دون النظر إلي أن العدد ربما يكون أعلى من ذلك، لأنه بعد ذلك تعدد القتلى حيث أقدم أهالي أصفهان واحتشدوا ضد محمد بن خطاب بهادر وهو من كبار قادة جيش تيمور بالمدينة إذ لقي مصرعه أمام تلك الجموع، وبعد ذلك الإجراء قام أهالي المدينة بالاستيلاء على المناطق الهامة وقاموا بتحصين بعض البوابات، ومن الواضح حدوث معارك كثيرة واشتباكات بين الجانبين بحيث هرع الكثير منهم نحو مناطق المحصلين وجاء مجموعة من الأهالي وشاركوا بالثورة، ونتيجة للأحدث مارة الذكر قتل أكثر المحصلين إلا في بعض المناطق التي كان فيها بعض العقلاء على حد قول اليزدي.
ج ـ رد فعل تيمور ومقاومة أهالي أصفهان
كان تيمور قد وصل إلى أصفهان بعد هزيمته لأعدائه في لورستان، ولكن بدلاً من الحصول على مال الأمان وإعلان التبعية له خسر ثلاثة الأف من قواته المدربة ومن ضمنهم أحد كبار قادته وتعتبر هذه خسارة كبيرة ويمكنها أن تؤثر على انتصاراته السابقة في المناطق الأخرى؛ فلهذا السبب كان من الطبيعي أن تكون ردة فعله بهذه الطريقة الوحشية، فبمجرد سماعه خبر الثورة أرسل على الفور قواته لقمعها، فأيقن أهالي المدينة أنهم بفعلتهم تلك ــــ أي ثورتهم ــــــ قد وقعوا على مراسيم إعدامهم الجماعية بدلاً من تحرير المدينة، وأصبح الترقب بحدوث ما لا يُحمد عقباه سيّد الموقف داخل المدينة، وقد قام الأهالي بالدفاع عن مدينتهم بكل شجاعة وتضحيه، لكن جنود تيمور تمكنوا من اقتحام المدينة والاستيلاء عليها.
علي الرغم من عدم وجود تفاصيل أو جزئيات تدل على تحصين أبواب المدينة نتعرف من خلالها على قدرة الأهالي على المقاومة، ولكن من المتفق عليه أن تيمور كان يمتلك قوة عسكرية مجهزة لاحتلال المدن كما أشارت المصادر حيث كان يستخدم في جيشه المهندسين ــ والمنجنيق ــ ورماة النفط أصحاب المهارات العالية في القتال وكانت أكثر انتصاراته تتم بالاستعانة بتلك المجموعة من جيشه. وبالرغم من معاصرة حافظ آبرو للأحداث فإنه يروي روايتين مختلفتين عن هجوم تيمور على أصفهان الرواية الأولي يذكر فيها أنه عندما عرف صاحب قران هذا الوضع أمر أن يستعد الجيش للحرب ليلاً في الحال واستردوا البوابات من الأصفهانيين ودمروا الحصن وعسكروا هناك، وعندما حل النهار دخل الجيش المدينة وحارب أهل أصفهان في الأزقة والحارات حتي صلاة الظهر وقتلوا خمسين ألف شخص من أهل المدينة، والرواية الثانية من كتابة زبدة التواريخ إذ يذكر فيها أنه في البداية تقدم جيش تيمور واستولي على كل أسوار المدينة واستمرت الحرب للصباح، ولما صار الصباح قلت مقاومة الأهالي فانتصر عليهم واستردوا المدينة.
التساؤل هنا ما الثمن الذي دفعه تيمور لقمع هؤلاء الثوار والسيطرة علي المدينة؟ ولا تعطينا المصادر المتوفرة جواباً، لكن خبر مقتل أحد الأمراء البارزين لتيمور والذي أورده اليزدي لابد أن يكون غيضا من فيض ينبئ عن عدد كبير من القتلى بقوات تيمور ومن المستبعد أن يكون تيمور قد نجح في السيطرة على المدينة وقمع ثوارها الذين كانوا يتخذون من أزقتها وحاراتها متاريس لهم دون أن يتلقى جيشه ضربة موجعة، وكان من الطبيعي نتيجة استمرار مقاومة أهالي أصفهان لجيش تيمور أن يقتل عدد كبير من أهالي المدينة بصورة ملفتة للنظر، وعلي الجانب الأخر القوات التيمورية أيضا لم تواجه ثورة لأناس غير مسلحين كما في الانتفاضات الأخرى، بل الكثير من الناس قتلوا أثناء المقاومة بشجاعة ودليلنا على ذلك وصف خواندامير: حتي في أصفهان خرج النساء والرجال وجاءوا إلى ميدان القتال والنزال..) ومن الجدير بالذكر أن حضور النساء في معترك القتال والمقاومة في المدن ظاهرة يجب أن ينتبه لها في الأبحاث التاريخية في تلك الفترة ، ومن الواضح أن الثورة استفادت من انسجام وترابط مجموعة العشائر؛ لأن التعبئة النسوية تحتاج إلى أرضية وركائز مجتمعية عميقة والتي كانت موجوده بأصفهان آنذاك؛ مما يعطينا صورة مقنعة لحدوث تنسيق بين جميع سكان المدينة بدليل مشاركة النساء معهم بالثورة.
للوقوف على حجم الأضرار البشرية والمادية التي ألحقها تيمور بالبلاد التي اخضعها بالقوة له ومنها مدينة أصفهان، والدمار الذي تركه بها نستعين بقول الاستراباذي(ت 801ه/ 1399م) الذي عاصر الأحداث وعايشها ورأى بنفسه جانباً منها، فاعترته الدهشة والحيرة من شدة الأهوال فيذكر قائلاً: (..أن تيمور سخر بلاد فارس وأذربيجان والعراق وخوزستان بالقوة وجعل من بلاد إيران خرابًا يبابًا وأنه اجتاح المنطقة بجيش عرمرم من ملاعين الكفار وعفاريت الجغتاي والتتار الذين بلغت اعدادهم حداً، بحيث قصرت أوهام المحاسبين عن حصرهم واحصائهم وعجز قياس المهندسين عن تعدادهم وتحديدهم،هكذا نجم عن حروب تيمور كثير من المعاناة والشقاء سواء لشعوبه أو لشعوب البلاد التي غزاها، فتحولت مدن مزدهرة إلى خرائب وحمل من تلك البلاد الكثير من الغنائم، وهذا إن دل فإنما يدل على هول ما لاقاه أهل أصفهان من جراء حملة تيمور على إيران، ولا تعتبر النزعة التيمورية التي ظهرت فيما قاموا به من تدمير وتحطيم وقتل وغيرها، إلا نتاجاً لسياسة الرعب التي توارثوها عن المغول.
الخاتمة
يتضح من خلال إشكالية البحث أن التحليل المنطقي للمقتلة العظيمة التي قام بها جيش تيمور في أهالي أصفهان وإقامة عدداً من المنارات من جماجم القتلى، لا تكتمل بدون معرفة خلفيات هذا الحادث، فيما يخص المقاومة التي أبداها الأصفهانيون بوجه تيمور منذ تبلورها وحتى قمعها, وهي بلا شك عبارة عن سلسلة من الصراعات وردود الأفعال ولا تمثل منارات الجماجم التي صنعها تيمور من القتلى إلا الحلقة الأخيرة منها.
أما الحلقات الأولى فيمكن إعادتها إلى طريقة جمع أموال الأمان والاعتداءات التي كان يمارسها جيش تيمور على الأهالي، والتي أدت إلى مقتل عدد كبير من جنود تيمور، وهذا الشيء لا تتطرق إليه أغلب المصادر التاريخية, وعلي الرغم من أنه يمكن اعتبار إقامة المنائر من جماجم القتلى أن يكون مثالاً لأسلوب البدو في مواجهة الثوار الحضريين، وأن الاعتماد على مثل هذا النوع من التحليل يشير إلى خبايا تاريخية كثيرة، وإذا افترضنا منطقيًا أن ما قام به تيمور ضد الأصفهانيين كان ردة فعل على ما قاموا هم به ضده؛ أمكننا الاستنتاج بأن ما فعلوه كان عظيماً؛ إذ لابد من وجود تناسب بين فعل الأهالي ورد فعل تيمور من حيث النوع والكم، وعلي الرغم من الفرق الواسع بين خسائر جيش تيمور(6000 جندي كحد أقصي) وقتلى الأهالي (50000 كحد أدنى) لابد من القول أن قتلى الأهالي سقطوا نتيجة مقاومة وحرب شوارع شملت الأزقة والحارات والبيوت وهذا أمر لا علاقة له بقوة جيش تيمور بل إلى طبيعة أهالي أصفهان وخاصة بعد الهزائم الأولى التي لحقت بهم، ومن الناحية الأخرى فإن الخسائر التي مني بها الجيش التيموري تفوق من حيث الأهمية النوعية خسائر الثوار؛ إذ فقد خيرة ضباطه ومقاتليه المدربين الأكفاء، في حين كان قتلى الشعب من غير المدربين المدفوعين بالحماس الوطني.
أخيرًا لابد من التساؤل عن دقة تلك الاحصائيات ومدى تجردها من الأغراض السياسية للمؤرخين العاملين في خدمة البلاط التيموري، فكم جرى التقليل من قيمة عمل الثوار من أجل خفض روحهم المعنوية؟ كذلك يمكن القول أن المقتلة العظيمة التي أوقعها الأهالي في الجيش التيموري كانت ردة فعل على ممارساته التي لم يتطرق إليها المؤرخون؟ وهنا لابد من الاشارة إلى أن التعسف في الاعتداء على الأهالي والتشدد في جمع أموال الأمان وطريقة جبايتها يمكن أن تكون هي التي دفعت بالأصفهانيين إلى الثورة .
نظراً إلى أن فعل تيمور ورجاله لم يكن بالضرورة ليسبب هذا النوع من رد الفعل فلابد من الوضع في الاعتبار دور الأوضاع الاجتماعية لمدينة أصفهان كعامل مؤثر في تطور الأحداث، ولابد من القول بأن تلك التركيبة السكانية واتساع المدينة، جعل من المستحيل على الأصفهانيين تحمل تجاوزات رجال تيمور، وهنا لابد من الإشارة إلى المصادر التي تناولت تلك الحادثة، فالمصادر تحاول تقديم تحليل ووصف منحاز لدولة تيمور، ومن جملة ذلك أنها تتجاهل الأسباب الأولية لقيام الثورة وتقليل أرقام خسائر جيش تيمور، أو حصر الثورة بعدد محدود من الناس ووصفهم بالأوباش والأراذل والتغاضي عن الأسباب الكثيرة للثورة.
وعليه فإنه في ظل غياب المصادر الأخرى ونظراً لمشاركة القوى المحلية في الثورة لابد من البدء بالتحليل من نتائجها، ولابد من معرفة التنسيق الذي جرى بين القوى المختلفة وطريقة تبادل المعلومات وترتيب أمور المدينة بعد مقتل الجنود العسكريين وتنظيم المقاومة، وبعبارة أخرى كان تنظيم الثورة كفيلًا بنجاحها ولكن مثل هذه المعلومات يتجاهلها المؤرخون المرتبطون بالدولة.