القراءة فعل وخيال، خيال للذهن وفعل عقلي يحلل ما تقع عليه العين ويبلوره، والكتاب كالمرآة فكما تكون ترى ما أمامك، وقديما أشار السابقون إلى رواية دون كيشوت لسرفنتيس على أنها ممتعة للصغار، وعبرة وفائدة للكبار، بمعنى أن انعكاس المضمون يتفاوت بحسب الخبرة والإدراك، والكتاب الذي لا تعيد قراءته لا يستحق القراءة الأولى، فإعادة النظر في المادة المقروءة لا غنى عنها، كإعادة النظر في الحياة ذاتها ومواقف الإنسان تجاهها.
وعندما نشير لقراءة التاريخ والتراث لا نقصد فقط المؤرخين والباحثين المتخصصين، إنما نشير كذلك للقارئ الذي يتخذ من الكتاب هواية ونمط حياة عقليا يدعوه للتأمل والبحث.
ويمكن القول إن النظرة للتاريخ والتراث بوجه عام، انقسمت في الغالب الأعم من الحالات إلى نوعين:
أولا: سرد نمطي يركز على الوقائع الرئيسية والتفاصيل الباعثة على الركود لدى القارئ كما أنه النمط الذي تمت تنشئة أجيال من الطلبة في دراسة مناهج التاريخ بناءً عليه.
ثانيا: سرد شائق وذو وجهة نظر لكنه متحيز مع أو ضد التجربة التي يتم الإشارة إليها.
ومع وجود التحيز المتعارف عليه، نجد أن الكتابات التاريخية وقراءة التراث قامت على ما يمكن أن نقول عنه ثنائية الخير/ الشر، أو المثال في مواجهة الوقائع التاريخية السلبية، بحيث سادت عبر عقود وأجيال مفاهيم التعظيم من دون مراجعة نماذج وتجارب تاريخية، والنفور من تجارب أخرى، ونفي (صفة البشرية) عن التاريخ السياسي والإنساني.
تضارب التقييم العام لتجربة “الثورة”
بالنظر في أبرز الأمثلة على ذلك، نجد الكتابات التي تناولت الثورة الإيرانية، وعهد الشاه، حيث سادت كتابات يسيطر عليها التحيز الشخصي بطبيعة الحال مثل مذكرات أعضاء الأسرة المالكة الإيرانية، وكتابات شهيرة مثل ما كتبه محمد حسنين هيكل وغيره لكنها بدلاً من أن تحمل طابع “التحيز الشخصي المستند للموقع الذي شغله صاحبها في النظام السياسي”، حملت طابع “التحيز الفكري”.
كذلك التأريخ والسرد للثورة المصرية 1952 الذي تراوح بين ثلاثة أنماط وهي السرد المدرسي، والسرد الصحفي القائم على الإثارة، والشهادات الذاتية المنحازة مع أو ضد (كُل بحسب رؤيته وموقعه).
سادت كتابات تتبع نهج النقد شبه المطلق مثل عودة الوعي لتوفيق الحكيم عن عهد عبد الناصر، والبحث عن السادات ليوسف إدريس، وخريف الغضب لحسنين هيكل عن (السادات).
وحتى وإن تراجع أصحابها بعد ذلك عن بعض ما قالوه ولو من باب المجاملة كما سبق وأشارت السيدة الراحلة جيهان السادات إلى تراجع “هيكل” عن بعض ما قاله ولكن دوما تكون الحقيقة التاريخية في مهب العاصفة، لا أحد رأى ما حدث ولن يراه، ومن ثم فالمرويات هي السائدة سواء اتخذت طابعا فكريا رصينا أو صحفيا قائما على الترويج والحشد الشعبي (مع أو ضد).
قراءة ازدواجية للتراث السياسي/ الصوفي
في محاولة لإضفاء طابع العقل والتحليل على الفكر الذي يتناول تاريخ الإسلام والتيارات العقلية وجماعات التصوف، نجد على سبيل المثال للدكتور زكي نجيب محمود كتاب “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري”، والذي تتبع مواقف في تاريخنا العربي والإسلامي واتجاهات تنويرية اتسمت بالعقلانية (من وجهة نظره) وأخرى رأى أنها خرجت عن التصنيف، ومن ضمنها رؤيته للفكر الصوفي في الإسلام على سبيل المثال، والذي رأى أنه بابتعاده عن دلالات الحياة المعاصرة يندرج ضمن “الأدب” أكثر منه “فكر متصل بالعقيدة والوجه الإيجابي للحياة”.
بينما رأى تيار مغاير مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد في دراسته عن محيي الدين ابن عربي، ما معناه أن النموذج والتجربة الصوفية “نموذج مشرق روحاني ووجه إيجابي للحضارة الإسلامية الفكرية”، علاوة على الكتابات التي تعلى من شأن المتصوفة وتنتقد الأدوار التي شارك فيها كل من النظم السياسية والفقهاء لإطفاء جذوة الصوفية واتهامها بالزندقة.
من ثم يتكرر السؤال عن حقيقة الموقف والرؤية الصائبة، خاصة أن الاعتقاد الشعبي حول تاريخ الإسلام يرتبط بما يمكن أن نصفه بـ”المعلومات العامة” وفيما يتعلق بالفكر الصوفي، من المؤسف أن الأمر يرتبط في الذهن لدى العوام بصورة “الدراويش” وما يتصل بهم من نماذج الغياب عن الواقع والدجل وما يدعو إليه من السخرية.
منهج التاريخ (اللاحق يهدم السابق)
كذلك فيما يخص تاريخ الإمبراطورية العثمانية، طرحت إحدى الدراسات بعنوان “عرب وعثمانيون” صدرت منذ سنوات عن دار الشروق، مقولة تعني أن التاريخ ينطلق في سرده من قاعدة التحيز وهدم اللاحق للسابق.
وذلك في إشارة إلى التعميم الذي ساد في إدانة الدولة العثمانية المسيطرة على ولايات الشرق آنذاك وربط الحكم العثماني بالتراجع والانحطاط النسبي مقارنة بدولة سلاطين المماليك السابقة.
وفي محاولة لتجميل وجه حكم أسرة محمد علي اللاحقة، ومن ثم ينشأ التشويه الحقيقي والذي لا يسهل محو آثاره بمجرد الإشارة إلى نماذج لدراسات المستشرقين المعاصرين للحقب التاريخية محل الدراسة أو بعض الكتابات المنصفة أو التي تقدم صورة مغايرة للسائد.
التاريخ وفن “صناعة الأصنام والمعتقدات الصلبة”
في سياق الإشارة إلى تقديم الصورة المغايرة، سعت بعض الكتابات إلى مناقشة بعض المسلمات في صورة إعلاء شأن أشخاص تاريخية محددة، أو تقييم لفئات اجتماعية معينة عاشت في مصر.
على سبيل المثال: دراسة للكاتب مصطفي عبيد بعنوان (ضد التاريخ) والتي ناقشت ما يعرف بـالتصنيفات الخاطئة للشخصيات التاريخية ما بين ثنائية صورة البطل/ الخائن أو المُدان، إذ طرحت أقاويل وأراء مغايرة حول شخصيات متفق على تأييدها في الوعي الجمعي العام مثل مصطفي كامل، وتوظيف الفن بصورة موجهة في عهد ثورة يوليو، مدى مصداقية الصورة السائدة عن الجالية اليهودية التي عاشت في مصر حتى حقبة الخمسينيات وأوائل الستينيات وارتباط صورتها في الوعي العام بالصهيونية وإسرائيل التي تنتهك باستمرار حقوق العرب.
بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهة نظر الكاتب، لكن المبدأ مطلوب وهو طرح الاحتمالات خاصة وأن تفاصيل ما حدث بالفعل نسبية وحقيقتها يمكن أن نطلق عليها أنها من “الغيبيات التاريخية”.
من ناحية أخرى تطرح بعض الكتابات مفهوم السير عكس الاتجاه السائد فيما يعرف بإعلاء قيمة إرضاء الجماهير ثقافياً واجتماعياً، انطلاقاً من مفهوم أن “الإنتاج الكبير” بمعناه الواسع وليس السلع والخدمات الاستهلاكية فقط لإرضاء القاعدة الشعبية في كل شيء يهبط بالمحتوى إلى أسفل للوصول إلى نمط معين يُرضي ما يعرف ببطل العصر وهو “الرجل المتوسط والمرأة المتوسطة”.
وقد سبق ونشر المفكر الكبير الراحل جلال أمين كتاب “عصر الجماهير الغفيرة” والذي شرح الانعكاسات السلبية على مجالات عديدة منها الثقافة، الصحافة، وغيرها من جراء الاعتماد المطلق على مفهوم الرضاء الجماهيري.
النوستالجيا: أسطورة خالدة وغياب للوعي
مما لا شك فيه أن أسطورة النوستالجيا العربية والدولية بوجه عام تنتشر ولا يسلم قلب إنسان منها، فدوما كان للماضي السياسي، والاجتماعي، والفني، والثقافي بريق لا يستهان به، وإلى الأبد يشعر الكثير بأن الأيام الطيبة ولت، ويا ليتها تعود.
ولكن نود الإشارة هنا إلى أن حالة التشوش العام السائدة على العقول من جراء الأخذ بالظواهر وعدم التعمق في القراءة الناقدة والمتفحصة لحقائق الأمور تخفي الكثير مما حدث بالفعل في الواقع وتستمر بعض تداعياتها في الحدوث، بحيث أن الصورة في حقيقتها “رمادية وليست ناصعة، كما أنها نسبية وفقاً لاختلاف الظروف الفردية وموقع كل شخص في الخريطة الاجتماعية السائدة.
تظهر كتابات الرواد مثل المنفلوطي في مقالاته تحت اسم النظرات، ومحمد المويلحي في حديث عيسي ابن هشام، وتوفيق الحكيم في مجموعة مسرحياته التي تندرج تحت اسم مسرح المجتمع، وطه حسين (شجرة البؤس والمعذبون في الأرض)، يوسف السباعي (أرض النفاق)، والأعمال الروائية الخالدة لنجيب محفوظ والتي يمكن أن نطلق عليها أنها “وجه مصر في القرن العشرين”، وأدب إحسان عبد القدوس الكاشف بدون تجميل للواقع، ويوسف إدريس ورؤيته للطبقات الكادحة، مقالات الدكتور الموسوعي مصطفى محمود عن حال السياسة والمجتمع حتى قرب نهاية القرن العشرين.
وغيرهم من الكتاب الذين لمسوا الواقع بصدق، بحيث تكشف القراءة عن واقع مصر والعرب بعيونهم ورؤيتهم أن لكل عصر وجه منطفئ وليس فقط الجانب البراق الذي تناقلته الأجيال عبر العصور وانتشر في ثنايا الثقافة الشعبية التي تعتمد على الصورة السنيمائية للماضي.
كذلك تاريخ العرب في العهود الإسلامية، كما عرضه جرجي زيدان في عمله القيم وهو سلسلة تاريخ الإسلام، يكشف عن سلسلة متتالية من تاريخ الخلفاء والدول تمتزج فيه السياسة بالدماء بالخيانة بعشق السلطة، على نحو يبين لنا أن العهد الذهبي (بحق) للرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون كان استثناء على ما جرى ويجري، ولكن عن وعي وفهم موضوعي وليس مجرد شعارات تتداولها الأجيال بدون تعمق.
خاتمة
أخيراً، يتبقي أن نتذكر دوماً أن الوجه الآخر للقراءة التاريخية القاصرة هو ضعف الاهتمام من جانب القراء، وبرغم حالة الإحياء الوهمية للتاريخ التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت بوجه عام بصورة يومية إلا أن الجرعة المقدمة سطحية أو تستند لمصادر لكنها سريعة الذوبان في عقل المتلقي، وتختلف عن القراءة المتأنية الناقدة بالنظر إلى أن العرض التكنولوجي للمعلومات بصورة متنوعة يذكرن دوما باسم محل قديم أشارت له أم كلثوم في ذكرياتها في الطفولة، حيث كانت تتمني أن تشتري من (محل ألف صنف وصنف) وقد انبهرت في مرحلتها العمرية الصغيرة بالاسم وما يمكن أن يحتوي عليه المكان.
الفكرة هنا أن العرض المعلوماتي الحديث فعلا ينطبق على اسم المحل المشار إليه: كل شيء يجاور الآخر، القيم والرديء، والنتيجة أن الوعي يقع فريسة للمسلمات، والقشور، ومن تضطرب رؤيته لماضيه، تتشوش لديه حاسة فهم الحاضر واستشراف المستقبل، لأن التفكير كفعل يعتمد على تفعيل ملكة النقد وإعمال العقل، ما ينعكس على الإنسان في كل جوانب حياته الخاصة والعامة، ورؤيته لمستقبل الوطن.