بعد سقوط النظام الملكي في مصر على يد الضباط الأحرار عقب ثورة 23 من يوليو عام 1952م وإعلان الجمهورية في 18 من يونيو عام 1953م، دخلت العلاقات المصرية ـ الإيرانية مرحلة جديدة اتسمت بالتوتر حيناً ووصلت إلي شبه القطيعة حيناً آخر.
آنذاك عمل جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية، على إقامة علاقات طيبة مع الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن مع تأسيس حلف بغداد عام 1955م، مال عبد الناصر إلي التيار اليساري الذي كان يتزعمه في ذلك الوقت الاتحاد السوفيتي.
ضم حلف بغداد كل من بريطانيا وتركيا والعراق وإيران وباكستان، وهو من التحالفات التي شهدتها حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وكان هذا الحلف يهدف إلي وقف المد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة فكرة تأسيسه وتعهدت وقتها بتقديم العون الاقتصادي والعسكري للدول الأعضاء ولكنها لم تشارك فيه بشكل رسمي وأوكلت تلك المهمة لبريطانيا نيابة عنها. وقد أدي تأسيس حلف بغداد ودعم إيران له إلي توتر العلاقات بين القاهرة وطهران، ورفض عبد الناصر الانضمام إلي هذا الحلف وعارضه بشدة واعتبره محاولة من جانب بريطانيا لعودة نفوذها مرة أخرى إلي دول الشرق الأوسط، خاصة بعد استقلال مصر عنها وتقلص النفوذ البريطاني في المنطقة.
كان عبد الناصر يري أن حلف بغداد سيغير موازين القوى في المنطقة لصالح بريطانيا وأمريكا وشاه إيران وإسرائيل ضد الاتحاد السوفيتي ومصر والعرب. وفي مقابل ذلك قام عبد الناصر ـ بالتعاون مع “جوزيف تيتو” رئيس يوغسلافيا و”جواهر لال نهرو” رئيس وزراء الهند و”أحمد سوكارنو” رئيس إندونيسيا آنذاك ـ بتأسيس منظمة “عدم الانحياز” عام 1955م التي مازالت قائمة حتى الآن ومن أهم مبادئها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها[1].
بعد إعلان جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية في 26 من يوليو عام 1956م، وذلك لتوفير تكاليف إنشاء السد العالي في أسوان، رفضت الدول الغربية الاعتراف بالإدارة المصرية للقناة وقامت بتضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على مصر، ودعت بريطانيا وفرنسا وأمريكا إلي عقد “مؤتمر لندن” في 16 من أغسطس عام 1956م. وعقد المؤتمر بمشاركة 22 دولة بدون حضور مصر، وأعلن “جون فوستر دالاس” وزير الخارجية الأمريكي آنذاك خلاله أنه يتم تشكل إدارة دولية تشرف على تشغيل القناة وصيانتها وتطوير وإعداد تقارير دورية عن أدائها تقدم إلي منظمة الأمم المتحدة. وهو الإعلان الذي قوبل بموافقة 18 دولة. واقترح دالاس أن يكلف المؤتمر وفداً من خمس دول يسافر إلي مصر ليعرض مشروع القرار على عبد الناصر. وكانت الدول الخمس التي وقع عليها الاختيار هى: “الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والسويد وإيران وإثيوبيا”.
تشكلت لجنة عرفت باسم “لجنة السويس” برئاسة “روبرت منزيس” رئيس وزراء أستراليا و”لوي هندرسون” ممثل وزير الخارجية الأمريكية و”أوستن أوندن” وزير خارجية السويد والدكتور “عليقلي أردلان” وزير الخارجية الإيرانية و”آتو آکلولوهابت ولد” وزير الخارجية الإثيوبية[2].
سافرت هذه اللجنة إلي القاهرة لإبلاغ عبد الناصر بنتائج مؤتمر لندن والتقته في 3 من سبتمبر عام 1956م، وحينها رفض عبد الناصر مشروع القرار وقال لوزير الخارجية الإيرانية: “لماذا قد وافقتهم على عضوية هذه اللجنة التي قد أوفدها معارضو تأميم القناة لعدولي عن قرار التأميم؟! هل قمتُ بأمر غير الذي قام به الإيرانيون منذ خمس سنوات بخصوص تأميم نفطهم؟! إن دولتكم كانت سابقة بخصوص تأميم نفطها على دول الشرق الأوسط كافة”.
وأكمل ناصر الذي كانت زوجته إيرانية الأصل حديثه مازحاً: “كم من المصاعب التي لا أقوى على تحملها من قبلكم أنتم الإيرانيون، فأنا في البيت مشغولاً بزوجتي الإيرانية وفي الخارج مشغولاً بكم”.
فيما بعد ذكر أردلان أن عضويته في هذه اللجنة لا تعني مطلقاً رغبة إيران في الموافقة على الحلول المقترحة في مؤتمر لندن إزاء مصر؛ لأن إيران تحت أي مسمي لن توافق على ما يخالف حق السيادة المصرية[3].
بعد فشل مباحثات اللجنة، قامت بريطانيا وفرنسا بتحويل ملف قناة السويس في 23 من سبتمبر عام 1956م لمجلس الأمن الدولي ولأن فرنسا كانت رئيس مجلس الأمن آنذاك وطرفاً في الدعوة أيضاً، سلمت رئاسة المجلس إلي إيران، وقبل تشكيل الجلسة قال الدكتور “محمود فوزى” وزير الخارجية مصري آنذاك خلال لقائه مع “جلال عبده” مندوب إيران لدي الأمم المتحدة: “مما لا شك فيه أننا لا نريد من إيران التي ترأس مجلس الأمن، أن تؤيد الجانب المصري، ولكن على الأقل ننتظر منها أن تراعي الحيادية الكاملة”.
ولكن حينما أبلغ عبده الدكتور فوزي أنه يرى من الضروري اختيار مفوض سامي لإدارة القناة من قبل الدول المعنية بالأمر، سعى فوزي أن يصرف عبده عن هذا الاقتراح ولكنه لم يوفق في ذلك[4].
مع وصل الحلول الدبلوماسية بين مصر والدول الغربية إلي طريق مسدود، قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بحملة مشتركة على مصر في ليلة 29 من أكتوبر عام 1956م، للسيطرة على قناة السويس واحتلال سيناء، ولكن الحملة لم تنجح في تحقيق أهدافها أمام المقاومة العسكرية والشعبية المصرية والضغط الدولي الذي مارسته كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على الدول المعتدية في مجلس الأمن لسحب قواتها من الأراضي المصرية[5].
في تلك الاثناء اشتد الصراع بين “محمد رضا شاه بهلوی” و”محمد مصدق” رئيس وزراء إيران، خاصة بعد حركة تأميم صناعة النفط الإيراني التي تزعمها مصدق، فهرب الشاه إلي إيطاليا ووقع مرسوماً بعزل مصدق وتعيين “فضل الله زاهدي” بدلاً منه. وتم التخطيط لانقلاب 19 من أغسطس عام 1953م الذي يعرف في إيران باسم “28 مرداد”، على يد المخابرات الأمريكية والبريطانية وأسفر عن الإطاحة بمصدق وعودة الشاه مرة أخرى.
الحقيقة أن عبد الناصر كان شديد الإعجاب بمصدق نظراً لتوافق الرؤى بين الزعيمين حول عدد من القضايا السياسية في ذلك الوقت مثل فكرة القومية والاتحاد والنضال ضد الاستعمار والظلم. وهو ما جعل عبد الناصر يطلق اسم “مصدق” على أحد الشوارع الواقعة في قلب القاهرة كنوع من التكريم له ومازال هذا الشارع قائماً حتى الآن[6].
في 24 من يوليو عام 1960م أعلن محمد رضا شاه بهلوي في مقابلة صحيفة أنه قد اعترف رسمياً بدولة إسرائيل كأمر واقع ومسلم به وأن الحكومة المصرية قطعت علاقتها الدبلوماسية مع إيران. في ذلك الوقت هاجم عبد الناصر الشاه في خطاب له وقال: “إن شاه إيران قد باع نفسه بثمن بخس للمستعمرين، ولو كان الشاه قد باع نفسه رخيصاً، فليس من الممكن أن تبيع الأمة الإيرانية نفسها بالذهب والكنوز.. إن الأمة الإيرانية لن تخضع لحكومة المستعمر وهذا ليس بإمكان الصهيونية الدولية التي تحكم في إيران، ولا نرى ضرورة لإبقاء سفارتنا في في هذه الدولة”. ويوضح حديث عبد الناصر أنه فصل حكومة الشاه عن الشعب الإيراني، أي كان على علم بالسخط الذي كان يعم البلاد من حكومة الشاه[7].
في 5 من يوليو عام 1963م اندلعت مظاهرات حاشدة في إيران التي تعرف باسم “انتفاضة 15 خرداد” عقب اعتقال “الإمام الخميني” بسبب خطابه المناهض لإسرائيل والنظام الملكي، وكانت مصر من أوائل الدول التي اتهامها محمد رضا شاه بهلوي بالتدخل في الشؤون الإيرانية ودعم الثوار وتقديم المساعدات المالية لهم.
بعد إخماد هذه الانتفاضة، هدد “أسد الله علم” وزير البلاط الإيراني خلال حديث له مع صحيفة “هيرالد تريبيون” الدولية الصادرة في 7 من يوليو من العام نفسه بأن الخميني وعدد من الملالي الآخرين سوف يحاكمون عسكرياً، ومن الممكن أن يصدر حكم الإعدام بشأنهم. وبعد يومين أيضاً اعتبر محمد رضا شاه بهلوي خلال حديث له أن خطاب الخميني ومظاهرات الشعب تمت بتحريض الأجانب وأموالهم، وكان يقصد حينها “جمال عبد الناصر”.
في هذا الصدد قالت وسائل الإعلام التابعة للشاه إن شخصا باسم “عبد القيس جوجو” من لبنان دخل مطار “مهرآباد” بطهران في الأول من يوليو، وحينما أثار شك مسؤولي الجمرك قاموا بتفتيشه فوجدوا بحوزته مبلغاً من المال يعادل مليون تومان وبعد التحقيقات اعترف جوجو أن المبلغ المذكور قد أحضره من قبل جمال عبد الناصر لأفراد بعينهم في إيران. وقال شاه إيران في أعقاب ذلك: “إنه من المؤسف أن يأخذ رجال الدين الشيعة في إيران الأموال من حكومة سنية في مصر لإسقاط نظامهم”[8].
ويذكر العميد “منوجهر هاشمی” رئيس إدارة مكافحة التخابر على السافاك[9] في كتابه “داوری، سُخنی در کارنامه ساواک: الحكم، تعليقات على أداء السافاك” يتضح من التحقيق الدقيق الذي تم على هذا الملف، أنه لا يوجد أي دليل يشير إلي أن هذا المال قد أرسله عبد الناصر أو كان الهدف منه الدعاية ضد النظام في إيران والقيام بأعمال تخريبية. ومن المحتمل أن الضابط الذي أجرى التحقيق بسبب قلة خبرته أو من وجه نظر أخرى أنه كان شاباً مثلاً ويبحث عن الشهرة في تلك الأيام التي كان يسيطر عليها النضال ضد الغرب وعبد الناصر والدعاية ضد النظام الإيراني في الأجواء الإيرانية، فقام هذا الشاب بالتأثير على المترجمين الذين كانوا حديثي العمل وأوعز إليهم أن يفهموا هذا الشاب أن السبيل الوحيد لخلاصه من هذا الأمر أن يجيب كل شخص في أي مكان يسأله من أعطاه هذا المال ولمن سيوصله وما الهدف من حضوره إلي إيران، أن يجيب بأن هذا المال قد أعطاه له عبد الناصر كوسيلة للدعاية ضد النظام وتنفيذ عمليات تخريبية في إيران[10].
وقيل أيضاً إن هذا المال كان يخص تاجر شهير يبيع الجواهر في طهران وكان يجري صفقات مع بعض الدول العربية ومن بينها لبنان والمال الذي وجدوه بحوزة الشاب اللبناني قد أحضره لعقد صفقة جديدة.
وتجدر الإشارة هنا إلي ما ذكره الصحفي والكاتب المصري الشهير “محمد حسنين هيكل” بهذا الخصوص في كتابه “مدافع آية الله”، حيث يذكر أن عميلاً للمخابرات المصرية غادر مطار بيروت وهو يخفي في ثيابه 150 ألف دولاراً وكان عليه أن يوصلها طبقاً لتعليمات عبد الناصر إلي الزعيم الروحي والسياسي آية الله الخميني في المدينة الشيعية المقدسة “قم”، ولكن السافاك ألقي القبض عليه واعترف الرجل بعد دقائق معدودة من التعذيب. وكان الخميني قد بعث رسائل إلي حكام العالم العربي والإسلامي كافة، يطلب منهم مساعدة الأسر التي فقدت ذويها في الانقلاب الذي دبرته المخابرات الأمريكية لإعادة الشاه وإسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية.
ومن بين كل من تسلموا الرسائل لم يستجيب سوي عبد الناصر، فكلف مسؤول المخابرات في سوريا، وكانت الوحدة بين مصر وسوريا ما تزال قائمة، بإرسال ذلك المبلغ من الدولارات ليتم وضعه تحت تصرف لجنة الإغاثات والمساعدات في إيران لسد حاجة الأرامل والأيتام، فكان ما كان. وبعد عودة الخميني من منفاه في باريس بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران صرح بأن عبد الناصر هو الزعيم الوحيد الذي ساندهم[11].
ويذكر السياسي المصري “فتحي الديب” في كتابه “عبد الناصر وثورة إيران” أنه في 2 من فبراير عام 1963م قدَمَ “محمد ناصر القشقائى” إلي السفارة المصرية في “برن” وقدم نفسه إلي فتحي الديب السفير المصري آنذاك كرئيس لقبائل القشقائية التي تقيم في الجبال الممتدة جنوب غربي إيران ويزيد تعدادها على مليون نسمة، وقد سمع منه الديب عن قدرة الإمام الخميني على تحريك الشارع الإيراني وطلاب الجامعات والتنظيمات الطلابية في الخارج. وطلب القشقائي من مصر المال والسلاح وتدريب رجاله على حرب العصابات في القاهرة. ولكن ناصر كان يرفض شراء القبائل كما أنه كان يري أن أي حركة نضالية يجب أن تعتمد في المقام الأول على مواردها المحلية وإلا تحولت الثورة إلي وسيلة للارتزاق.
في 12 من إبريل جاء إلي السفارة المصرية في برن “على شريفيان رضوي” كمندوب عن “محمود الطلقاني” رئيس حركة “الحرية الإيرانية” الذي كان مسجوناً في ذلك الوقت في إيران. وتواصل رضوي مع المصريين وكانت مطالب هذه الحركة توفير الحماية لأسر الشهداء والمعتقلين السياسيين وتأهيل عدد من الشباب الإيراني لتولي زمام الحكم في البلاد وتطوير الإذاعة الموجهة إلى الشعب الإيراني بالقاهرة[12] وتركيز الصحافة المصرية وإذاعة صوت العرب التي كان وراء تأسيسها فتحي الديب شخصياً على القضية الإيرانية لتصبح قضية جوهرية[13].
في الأول من سبتمبر وصل إلي برن “إبراهيم يزدي” الذي أصبح فيما بعد أول وزير خارجية في حكومة الثورة الإيرانية، والتقي بالديب ليبحث معه أوجه التعاون المرتقب بين الثوار في إيران وعبد الناصر. وقد رفع الديب تقريراً مفصلاً إلي عبد الناصر يتضمن الصورة الكاملة للحركة وإمكانياتها المتاحة داخل إيران وخارجها. وكان رأي عبد الناصر هو التريث وضرورة توحيد جهود القوى الوطنية الإيرانية وأبدى موافقته من حيث المبدأ على دعم الثورة في إيران.
وكلف عبد الناصر “فتحي الديب” و”كمال الدين رفعت”، أحد الضباط الأحرار، بالتعرف على موقف الإيرانيين بعد نجاح الثورة إزاء نظام الحكم والأسس الاقتصادية والاجتماعية لنظامهم المزمع إقامته وعلاقتهم بالنظام الدولي وموقفهم من المصالح الأجنبية الموجودة في إيران، وكذلك موقفهم من فكرة القومية العربية والمشكلة الكردية وإقامة دولة إسرائيل ومشاكل الحدود المائية بين إيران وجيرانها في الخليج العربي.
على هذا يتضح أن دعم عبد الناصر للثورة الإيرانية كان مشروطاً بخدمة المصالح القومية العربية في المنطقة.
وفي 8 من ديسمبر حمل إبراهيم يزدي إجابات الإيرانيين عن الأسئلة التي طرحها عبد الناصر في تقرير بخط يده نشره فتحي الديب لأول مرة في كتابه المذكور، وجاء فيه أنهم سيتخلصون من الشاه ويعلنون الجمهورية الإيرانية ويؤسسون نظاماً اشتراكياً يتماشى مع مبادئ الإسلام المستنير وسيعارضون التحالفات العسكرية، مع الاحتفاظ بالتراث الإيراني آنذاك والعزوف عن كل ما يثيره الشاه من مشاكل بالنسبة للإمارات العربية في الخليج.
الملاحظ أن كل ما سبق لم يتحقق منه شيء بعد نجاح الثورة بل تحقق كل ما يخالفه تماماً[14].
وقد عقدت خمس اجتماعات لقيادات الثورة الإيرانية بالقاهرة، تم الاتفاق خلالها على أهداف الثورة وتوجهاتها ونهج عملها، وتقرر بدء تدريبات قيادات الثورة فكرياً وعسكرياً في معسكرات خاصة بالقاهرة في موعد أقصاه يونيو 1964م، على أن تتولي ذلك المخابرات المصرية. وقد تم وضع برنامج التدريب وكانت مدته 10 أسابيع ويتضمن قتال الصاعقة وحرب العصابات والعمليات السرية مثل التجنيد والمراقبة والعمليات الفنية مثل التصوير والدعاية والإعلام وعلم النفس الاجتماعي والعقائد السياسية.
توافد الإيرانيون على القاهرة للمشاركة في التدريبات واستمر تدريبهم في معسكر “أنشاص” بمحافظة الشرقية، ويذكر هيكل أنه قد نشب خلاف بين الإيرانيين والمصريين بسبب أن المخابرات المصرية كانت تريد من اللاجئين الإيرانيين العمل في الإذاعة الموجهة من القاهرة إلي إيران للهجوم على الشاه، لكنهم رفضوا وأصروا على أنهم قد حضروا إلي القاهرة للتدريب على فنون القتال فقط وأن الكلمات لن تفلح في الإطاحة بحكم الشاه. ولم يفلح أحد في إقناع الإيرانيين بأن المقاومة المسلحة في بلادهم كانت في حكم المستحيل وأن الدعاية عن طريق الإذاعة هي سلاح قوي في ترسانتهم إلي أن تأتي اللحظة الحاسمة[15].
يعزي السفير فتحي الديب مغادرة الإيرانيين للقاهرة في آواخر عام 1966م إلي صعوبة الاتصال بقادتهم في إيران وكذلك صعوبة الحفاظ على السرية التامة، ومن ثم فإنهم يفضلون الانتقال إلي بيروت الأقرب لإيران، حيث لا يثير السفر منها إلي طهران والعكس الشبهات، كما أن الشيعة في لبنان سيوفرون لهم المزيد من الحماية والدعم، وكذلك أنهم تلقوا من الخبراء المصريين ما يحتاجونه من برامج تدريبية سيطبقونها، فضلاً عن إن الذين قد تدربوا في القاهرة سيقومون بتدريب غيرهم. وقد وافق عبد الناصر على قرار الإيرانيين، وقال: “إن أقدر الناس على تحديد المناخ الصالح لممارسة النضال هم المناضلون أنفسهم وإننا لن نتخلى عنهم إلي أن تتحد بلادهم”[16].
بنظرة عامة على موقف عبد الناصر من الثورة الإيرانية يتضح أن موقفه هو الموقف ذاته الذي اتخذه لدعم الحركات التحريرية في منطقتي الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا القائم على النضال ضد “النظم الملكية الديكتاتورية والمستعمر الأجنبي”.
مع بدايات عام 1967م عقدت الدول العربية المصدرة للنفط اجتماعاً لمواجهة السياسات الإسرائيلية المستفزة في المنطقة وقررت تفرض عقوبات نفطية على إسرائيل، وأعلن “محمد حسن الزيات” وزير الخارجية المصري خلال بيان: “إن النفط الذي تستخدمه إسرائيل حالياً ينتقل عن طريق الخليج العربي إلي ميناء إيلات، ومما لا شك فيه أن إيران تؤمن مصادر الطاقة للإسرائيليين في المنطقة، فإسرائيل تتلقي سنوياً من إيران أكثر من 3 ملايين طن من النفط وهذا المعدل يبلغ تقريباً 80% من حاجة إسرائيل من مصادر الطاقة”[17].
وحينما غارت إسرائيل على مصر يوم 5 من يوليو عام 1967م بسبب التصعيد العسكري بين الطرفين وغلق مصر لمضيق تيران في خليج العقبة أمام السفن التي تحمل علم إسرائيل، لم تنقطع صادرات النفط الإيراني عن إسرائيل. وفي العام التالي أي في عام 1968م عقدت الدول العربية المصدرة للنفط اجتماعاً آخر في القاهرة وحذرت كل الشركات المصدرة للبترول بأنها ستصطدم معها إذا قامت بإرسال النفط الإيراني عبر خطوط ميناء إيلات.
وأصرت كل الدول العربية على أن يتم نقل النفط الإيراني عن طريق خطوط قناة السويس، وألا تتم أي عملية نقل عن طريق خط إيلات. ولكن إيران لم تهتم بهذا الموضوع مرة أخرى ولم تعتبر قرار الدول العربية المصدرة للنفط جدياً. وكانت إيران تعي جيداً أن أي شكل من أشكال التقارب أكثر من اللازم مع مصر والتحرك لتلبية مطالبها، سوف يسفر عن قطع العلاقات مع إسرائيل والشروع في النزاعات والصراعات معها. كما لم تقم الحكومة الإيرانية خلال تلك الفترة بالإعلان عن حجم علاقاتها التجارية مع إسرائيل بشكل صحيح وعلني حتى لا تثير مشاعر العرب الناقمة على إسرائيل[18].
ــــــــــــــــــــ
[1]. سید نیما حسینی، ردپای ایرانی در تاریخ مصر ناصری، http://tarikhirani.ir.
[2]. المرجع السابق.
[3]. المرجع السابق.
[4]. المرجع السابق.
[5]. المرجع السابق.
[6]. المرجع السابق.
[7]. المرجع السابق.
[8]. معمای جوجو و کمک یک میلیون تومانی ناصر به انقلابیون ایران، http://tarikhirani.ir
[9]. السافاك: هو جهاز المخابرات في العصر الپهلوی، والکلمة اختصار لـ “سازمان اطلاعات و امنيت كشور: منظمة المخابرات والأمن القومى”، وتكتب في الفارسية “ساواک”.
[10]. منوچهر هاشمی، داوری: سخنی در کارنامه ساواک، لندن، چاپ اول، 1373ش، ص 262.
[11]. محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله، ترجمة: عبد الوهاب المسيرى، القاهرة، دار الشروق، 2006م، ص 92.
[12]. تأسست الإذاعة الموجهة إلي إيران من القاهرة عام 1954م.
[13]. انظر: فتحي الديب، عبد الناصر وثورة إيران، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2000م.
[14]. المرجع السابق.
[15]. محمد حسنين هيكل، مدافع آية الله، ترجمة عبد الوهاب المسيرى، القاهرة، دار الشروق، 2006م، ص 98.
[16]. انظر: فتحي الديب، عبد الناصر وثورة إيران، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2000م.
[17] شهرام چوبین، روابط ایران و مصر قبل و بعد از جنگ شش روزه، ترجمه: نسرین رضایی، http://tarikhirani.ir.
[18]. المرجع السابق.