إيران هي الدولة الإسلامية التي وضعت خطاً فاصلاً بينها وبين العالم الإسلامي، مع إقرارها المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للبلاد، منذ عدة قرون، وهو المذهب الذي مازالت تدين به حتى الآن، وتعمل على نشره والترويج له في كل بلدان العالم الإسلامي.
إلا أن هذا التوجه المذهبي الشيعي الذي عملت الحكومات الإيرانية المتعاقبة على إضفائه على كل مناحي الحياة في إيران، ومازالت تمضي فيه حتى الآن، لم يكن يحمل في طياته أي غرض ديني، ولكن كان الهدف الأساسي منه هو ترسيخ دعائم الدولة سياسياً، واستمالة الشعب الإيراني عن الطريق الدين، لما يمثله من نقطة ضعف لدى معظم شعوب العالم شرقاً وغرباً، وبالتالى التفاف الشعب حول حكومته وإن كانت تصيب قليلاً وتفشل كثيراً، فالدين كان ومازال سلاحاً ذا حدين، قد يكون عاملاً لحرية الأمم وازدهارها، وقد يكون عاملاً لقمعها وتراجعها.
والحقيقة أن كلمة الشيعة منذ ظهورها خلال حروب الصحابيين الجليلين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، وما تلاها من أحداث، لم تحمل فى ثناياها أي توجه ديني، ولكنها كانت تحمل غرضاً سياسياً، ألا وهو الوصول إلى سدة الحكم، فإن كان الصراع بين علي ومعاوية قديماً، هو صراع حول كرسي الخلافة الإسلامية، فإن الصراع الذي تخوضه إيران حالياً مع الدول العربية، هو صراع لمد النفوذ والعبث باستقرار دول المنطقة ومقداراتها، وهو ما نلمسه بشكل جلي في التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية.
وقد لا يخفى على أحد الدور السلبي والتخريبي الذي تلعبه إيران في اليمن وسوريا ولبنان وعدد من دول الخليج العربي. ونسعى في هذه المقالة لإزاحة الستار عن كيفية إقرار المذهب الشيعي فى إيران، وإيضاح الغرض الأساسي من إقراره.
الخلفية التاريخية
بعد وصول الصفويين إلى سدة الحكم في إيران وتأسيس الدولة الصفوية على يد الشاه “إسماعيل الصفوي” عام 1500م، قاموا بإقرار المذهب الشيعي الإثنى عشري مذهباً رسمياً للبلاد.
وعلى الرغم من أن كل المصادر المعاصرة واللاحقة للشيخ “صفي الدين إسحاق الأردبيلي” الذي ينسب إليه الصفويون أنفسهم، تجمع على أنه كان شافعي المذهب، ولم تشر من قريب أو بعيد إلى انتسابه لآل البيت النبوي، إلا إن المصادر والكتب التي دونت فى عهد الشاه إسماعيل الصفوي، أو تلك التي كتبت بعده، اخترعت لصفي الدين نسباً أو صلة بالإمام السابع للشيعة الإثنى عشرية وهو “موسى الكاظم”، وذلك كي يصير له ولأسرته ولخلفائه من بعده الحق والشرعية في اعتلاء العرش وتوارثه، مستندين إلى النسب العلوي فى ادعاء المُلك والسيطرة على الحكم، حتى لا ينازعهم فيه منازع، وكى يُظهروا أيضاً للناس أنهم أحق بتولي السلطة من أبناء جنسهم وبني عمومتهم الأتراك العثمانيين الذين أقاموا لهم دولة فى آسيا الصغرى، ثم تلقبوا بألقاب الخلفاء المسلمين.
ومن ناحية أخرى فإن الفقيه أو الإمام لدى الشيعة، طبقاً لقولهم، له الحق فى خُمس (20%) مكاسب ودخل كل فرد شيعي إعمالاً بالآية الكريمة: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى}[1]، وللقارئ أن يتصور مدى ضخامة المبالغ التى يحصل عليها مجتهدو الشيعة بسبب مناصبهم الدينية، وهو يزيد عما تتحمله الدولة من ضرائب، فكانت خزائن الملوك الصفويين مكدسة بثروات وأموال تتحدث عنها كتب التاريخ بسبب جمعهم لضريبة الخُمس، إلى جانب الضرائب الآخرى.[2]
مراسم فرض المذهب الشيعى فى إيران
تذكر كتب التاريخ أن مراسم فرض المذهب الشيعي في إيران قد جرت بقوة السيف، فحينما دخل إسماعيل الصفوي مدينة تبريز، عاصمة إيران آنذاك، عام 1500م، منتصراً على الملك “الوند ميرزا أوغلو”[3]، حذره رجاله من الأقدام على هذا الأمر، قالوا له إن ثلثي سكان مدينة تبريز من أهل السنة، وإن إعلان المذهب الشيعي قد يؤدى إلى قيامهم بالثورة ضده، ما قد يعرضه للخطر.
غير أن إسماعيل أخبرهم أن الإمام “علىّ بن أبى طالب” قد كلفه بهذه المهمة، ثم أمر القزلباشية[4] بالوجود فى المسجد “الجامع” يوم الجمعة، وهو اليوم الذي حدده لإعلان المذهب الشيعي رسمياً، وذهب إسماعيل إلى المسجد وحمل القزلباشية أسلحتهم كاملة، وصعد المنبر وهو شاهر سيفه، وعندما قرأ الخطبة باسم الإمام علي وأئمة الشيعة سرت همهمة بين المصلين، فأطبق عليهم القزلباشية، وقالوا لهم: “تبرأوا[5].. وإلا فإن القتل هو جزاء من يرفض التبرؤ”، فتبرأوا جميعاً من شدة الخوف، وخرج قائد “التبرائيين” يسير أمام إسماعيل ويحمل فى يده تبراً[6]، وهو يردد عبارات التبرؤ، وكان كل من لا يرددها بعده، ويلعن الخلفاء الثلاثة، أبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، يُقطع رأسه فوراً.
وعلى هذا النحو جرت مراسم فرض المذهب الشيعي في تبريز، وتلتها بعد ذلك مازندران ولُرستان وإصفهان وغيرها من المدن الإيرانية، تلك التي تحولت منذ ذلك الوقت من سنية إلى شيعية، لتكون إيران (بلاد فارس) بذلك أول دولة شيعية في العالم الإسلامى بقيت على هذا المذهب إلى يومنا هذا.[7]
خاتمة
يتضح من العرض السابق أن الشاه إسماعيل الصفوي لم يفرض المذهب الشيعي إيماناً منه بهذا المذهب، بل فرضه لهدف سياسي ـ اقتصادي بحت، فكل ما كان يعنيه فى المقام الأول هو إضفاء الصفة الدينية على حكمه، إلى جانب الصفة الدنيوية، لترسيخ دعائم الدولة الوليدة، خاصة أن الدين يعد وسيلة نافذة إلى قلب كل إنسان، وكذلك مجابهة الدولة العثمانية التى مثلت المذهب السني وأخذت على عاتقها الدفاع عن الإسلام والدول الإسلامية آنذاك.
وتجدر الإِشارة هنا إلى أن التشيع بشكل عام قد ظهر في المقام الأول لغرض سياسي وهو قصر الإمامة والخلافة في الإسلام على آل البيت النبوي من دون غيرهم، ثم انتحى بعد ذلك منحى دينياً كما نراه الآن، وإن كان يخفي تحت عباءته أهدافا سياسية، نلمسها من وراء الستار من حين لآخر.
ــــــــــــــــ
[1]. سورة الأنفال، آية 41.
[2]. نصر الله فلسفي، إيران وعلاقاتها الخارجية في العصر الصفوي، ترجمة وتقديم: محمد فتحي يوسف الريس، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1989م، مقدمة المترجم، ص ج، و، كب.
[3]. الوند ميرزا أوغلو، من أحفاد السلطان أوزون حسن “حسن الطويل” مؤسس دولة الآق قويونلو “أصحاب الخراف البيضاء” التركمانية التي كانت تحكم إيران قبل مجيء الصفويين/ الكاتب.
[4]. قزلباش: لقب كان يطلق في العصر الصفوى على أفراد الجيش من الطوائف التركية أو أتباع حيدر ميرزا، والد إسماعيل الصفوي، وأبنائه بشكل عام. وقد أطلق على هؤلاء الأفراد لقب “القزلباشية” لأنهم كانوا يعتمرون القلانس الحمراء/ الكاتب.
[5]. أى التبرؤ من خلافة أبى بكر وعمر وعثمان، لأنهم تولوها بغير حق من وجهة نظر الشيعة، ثم الإقرار بولاية علىّ وبقية أئمة الشيعة الأثنى عشر، وقد يغالى بعض الشيعة بلعن الخلفاء الثلاثة ومعهم السيدة عائشة، رضي الله عنها، لموقفها فى معركة الجمل/ الكاتب.
[6]. التبر أو الطبر: وهو فأس يستخدم فى قطع الأشجار، ويستخدمه الجزارون فى العراق والسودان فى تقطيع اللحوم، وفى مصر يسمى بلطة/ الكاتب.
[7]. نصر الله فلسفي، إيران وعلاقاتها الخارجية في العصر الصفوي، ترجمة وتقديم: محمد فتحي يوسف الريس، مقدمة المترجم، ص ك، كا، وإدوارد براون، وتاريخ الأدب فى إيران “من بداية الحكم الصفوي حتى نهاية الحكم القاجاري”،الجزء الرابع، ترجمه إلى الفارسية: رشيد ياسمى، ترجمه إلى العربية: محمد علاء الدين منصور، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد 377، الطبعة الأولى، 2002م، ص 57، 58.