تتضمن دوائر الأمن القومي المصري على المستوى الإقليمي عمقا استراتيجيا ممتدا على مختلف الاتجاهات، بدءا من الاتجاه الشمالي الشرقي المتمثل في سوريا، وشمالاً في منطقة شرقي المتوسط شاملة قبرص واليونان، وغربا في ليبيا وشرقاً في دول الخليج، ليبقى الاتجاه الجنوبي الذي يتسع ليشمل حزام الساحل والصحراء ودول حوض النيل والقرن الإفريقي ومضيق باب المندب.
وبالتالي يتضح أن محددات الأمن القومي المصري في العمق الاستراتيجي الجنوبي على هذا الامتداد هي كالآتي:
أ ـ أمن دول حزام الساحل والصحراء واستقرارها في ظل ما تشهده من أنشطة للإرهاب العابر للحدود بين بعضها البعض وبين ليبيا.
ب ـ أمن منطقة القرن الإفريقي ومضيق باب المندب واستقرارها بما تمثله من قصبة هوائية وحيدة لقناة السويس أهم ممر ملاحي دولي وواحدة من أهم مصادر الدخل الأجنبي لمصر وبما تملكه من مستقبل واعد لمحور قناة السويس بما يتضمنه من مناطق لوجيستية ومجمعات صناعية ومشاريع استراتيجية طويلة الأمد.
جـ ـ وجود علاقات قوية وراسخة وخطط ومشاريع تنموية مُستدامة مع دول حوض النيل بما تمثله من منابع لنهر النيل الذي يُعد شريان الحياة الرئيس لمصر التي تعتمد على مياهه بنسبة 95% كمصدر للشرب والري.
ويُعد المحدد الثالث – مُمثلا في سد النهضة الإثيوبي – مسألة بالغة في الحساسية للأمن المائي المصري، وخاصة في إطار تعنت أديس أبابا في الآونة الأخيرة ومماطلاتها المستمرة دون التوقيع على اتفاق نهائي مع مصر والسودان يضمن حقوق الأولى في التنمية وإنتاج الكهرباء ويضمن حقوق دولتي المصب في مياه نهر النيل، بما سيتضمنه من قواعد للملء والتشغيل للسد.
“رغم استغلال إثيوبيا لحالة السيولة والفوضى التي تعرضت لها الدولة المصرية عام 2011، لتشرع في بناء السد بقرار أحادي الجانب، إلا أن الدولة المصرية بعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، وفي ظل قيادة جديدة ذات رؤية استراتيجية قائمة على استعادة النفوذ المصري الناعم في إفريقيا من خلال الشراكة والمنفعة المشتركة والتنمية والتعاون مع الأشقاء والاصدقاء، اختارت طريق التفاوض لا الصدام، ليخرج الرئيس عبدالفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي -آنذاك- هايلي مريم ديسالين في 28 يونيو 2014 ببيان مشترك بعاصمة غينيا الاستوائية مالابو، أكدا فيه محورية نهر النيل كمورد أساسي لحياة الشعب المصري ووجوده، وكذلك إدراكهما لاحتياجات الشعب الإثيوبي التنموية”
ثم تطورت مسارات التفاوض بين مصر وإثيوبيا والسودان إلى توقيع اتفاق المبادىء الصادر في العاصمة السودانية الخرطوم في مارس 2015 يحدد إطار التزامات وتعهدات تضمن التوصل إلى اتفاق كامل يشمل 10 مبادئ أساسية تنسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولى والاتفاقيات الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية، نص على عدم ملء بحيرة السد إلا بالتوافق بين الدول الثلاثة، واشرك القاهرة والخرطوم في وضع قواعد تشغيل السد وملء بحيرته بما لا يؤثر عليهما، وكذا تنفيذ التوصيات الخاصة بأمان السد بناءً على الدراسات الفنية التي تحدد آثار السد على دولتي المصب، وليمنح مصر تعهداً إثيوبياً كتابياً بعدم الإضرار بحقوقها التاريخية في مياه النيل.
وفي العام نفسه، وفي بيان عملي من الدولة المصرية على إثبات حسن النية، وإزكاءً لروح التعاون والأخوة بين الدولتين، وبما يدعم ويعزز ما جاء في كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي بالبرلمان الإثيوبي، والتي أكد خلالها على حرص مصر حق التنمية للشعب الإثيوبي مقابل تقديره لحياة الشعب المصري، نجحت مصر في إنهاء أزمة المواطنين الإثيوبيين الذين كانوا محتجزين في ليبيا بعد أن تم ذبح تنظيم داعش الإرهابي 28 مواطناً، وذلك من خلال جهود دبلوماسية واستخباراتية مُكثّفة، وليستقبل الرئيس السيسي بنفسه المواطنين العائدين بسلام لأرض مصر، ومنها إلى إثيوبيا التي أجرى رئيس وزرائها اتصالا بالرئيس المصري عبرخلاله عن خالص شكره وعميق امتنانه لمصر، قيادة وحكومة وشعباً.
إلا أن ذلك لم يُترجم لأي تقدم يُذكر على أرض الواقع في المسار التفاوضي الذي مر بأكثر من فشل في أعوام 2016 و2018 و2019، وتضمن رفضاً إثيوبياً لإشراك البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، ليعلن الرئيس السيسي في سبتمبر 2019 خلال اجتماعات الأمم المتحدة عن التزام مصر بحماية حقوقها المائية، لتبدأ مصر مذاك الحين مسارا دولياً جديداً قائماً على إطلاع المجتمع الدولي بكافة جوانب التفاوض وحقيقة الموقف الإثيوبي المتعنت والغير ملتزم باتفاق المبادىء الموقع عام 2015.
وتبلور عن المسار الدولي تدخل الولايات المتحدة كوسيط بين الدول الثلاثة ممثلة في وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي، لتُعقد عدة جولات من المفاوضات في أديس أبابا والخرطوم وواشنطن تمحورت في المقام الأول حول سنوات ملء بحيرة السد، حيث تمسكت مصر بأن يكون خلال 7 سنوات بينما أصرت إثيوبيا على 3 سنوات. ورغم ذلك، فقد تم الخروج بتوافق مبدئي على خارطة طريق كان أهم بنودها لمصر هو تنظيم ملء السد خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد، بل كانت هناك رؤية متكاملة حول تعاون شامل وربط كهربي ومنفعة متبادلة بين الدول الثلاثة طبقا لتصريحات وزير الري المصري الدكتور محمد عبدالعاطي. إلا أن إثيوبيا قاطعت الجولة الأخيرة من المفاوضات في تغير مفاجىء في موقفها، ولتتهم الولايات المتحدة بالتحيز لصالح مصر.
وبدأ مسؤولو إثيوبيا في اتخاذ مسارٍ إعلامي ودبلوماسي تصادمي مع الدولة المصرية، بإصدارهم تصريحاتٍ تتحدث عن استعداد إثيوبيا للحرب إذا اقتضى الأمر، وكذا تصريحات وزير الخارجية الإثيوبي عن إصرار بلاده على المضي قدماً في بدء عملية الملء دون اتفاق مع مصر والسودان، كما وجه اتهاما لمصر بما أسماه بـ”المقامرة السياسية” وأن بعض المصريين يتوقون للحرب، على حد وصفه.
وأكدت وزارة الموارد المائية المصرية في بيانها يوم 17 من شهر يونيو الجاري أن إثيوبيا خلال اجتماعات وزراء الري للدول الثلاثة، رفضت مناقشة الجوانب القانونية أن تقوم الدول الثلاث بإبرام إتفاقية ملزمة وفق القانون الدولي، وتمسكت بالتوصل إلى مجرد قواعد إرشادية يمكن لإثيوبيا تعديلها بشكل منفرد، كما سعت إلى الحصول على حق مطلق فى إقامة مشروعات فى أعالى النيل الأزرق، فضلاً عن رفضها الموافقة على أن يتضمن اتفاق سد النهضة آلية قانونية ملزمة لفض النزاعات، واعترضت أيضا على تضمين الاتفاق إجراءات ذات فعالية لمجابهة الجفاف.
“نتيجة لهذا التعنت واللهجة الاستفزازية، وفي إطار التزامها بالمسار الدبلوماسي وبالقوانين والأعراف الدولية، قررت مصر إحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن للتدخل لإيجاد حل عادل قضية السد وكذا الحيلولة دون أية إجراءات أحادية تؤثر على فرص التوصل لإتفاق، واستندت القاهرة على المادة ٣٥ من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز للدول الأعضاء أن تنبه المجلس إلى أي أزمة من شأنها أن تهدد الأمن والسلم الدوليين”
وخلال تفقده لاصطفاف عناصر القوات المسلحة في المنطقة الغربية، وفي كلمات هادئة النبرة ومُتّزنة، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي أن مصر متمسكة بالمسار السياسي والدبلوماسي حتى النهاية، والتي كانت نابعة من مركز قوة وثقل وثقة تتحرك بهم الدولة المصرية، استناداً على حقوقها المشروعة على كافة الأوجه والأصعدة وعناصر قوتها الشاملة بقدراتها الدبلوماسية والعسكرية ونفوذها الإقليمي والدولي المؤثر، بل وحرصاً منها على عدم الصدام مع عمقها الاستراتيجي حتى لا تتسبب في إحداث فراغ ستسارع الكثير من قوى الإقليم المعادية لها في ملئه واستغلاله، على عكس الجانب الإثيوبي الذي لم يوقف مسلسل التصريحات غير المسؤولة والتي لا تتسق ولا تتفق مع حقيقة أوضاعه السياسية والاقتصادية وأزماته الداخلية ومشاكل سده الفنية الناجمة عن دراسات غير مكتملة، والتي يسعى جاهداً ليخفيها خلف هذه التصريحات.
في النهاية، يأتي التعنت الإثيوبي مُنبثقاً من عدة عوامل أهمها:
1 ـ محاولة رئيس الوزراء أبي أحمد أن يستكمل مكتسبات فوزه بجائزة نوبل للسلام ومحاولات الاصلاح السياسي الداخلية من خلال الحفاظ على شعبيته استعداداً للانتخابات التي أثار تأجيلها عدة أشهر مخاوف المعارضة من حدوث أزمة سياسية وتأجيج للموقف السياسي الداخلي المتأزم فعليا.
2 ـ إثيوبيا دولة ذات عرقيات وقوميات متعددة كالأورومو – التي ينتمي لها آبي أحمد – والأمهرة والتيجراي والصوماليون وغيرهم، ودائما ما تندلع الأزمات والاحتجاجات التي يموت ويُعتقل خلالها الكثيرون، وآخرها محاولة الانقلاب الفاشلة التي قتل على إثرها عدد من مسؤولي الحكومة أبرزهم رئيس أركان الجيش سيري ميكونن. لذا، كان الضروري أن تكون هناك قضية وطنية مدعومة بخطاب شعبوي لتوحيد الجبهة الداخلية المتشرذمة حول أحمد، وتمثلت في سد النهضة.
3 ـ سد النهضة يواجه الكثير من المشاكل الفنية وعوامل الأمان غير المستوفاة والفساد المتسببين في تأخر أعمال البناء، وكذا نتج عنه انخفاض انتاجية السد المنتظرة إلى الثلث تقريبا فلن تتجاوز 2000 ميجاوات من أصل 6000 ميجاوات كانت مستهدفة، مما يعني هدراً حقيقياً لأموال الشعب الإثيوبي، وتلك حقيقة كارثية لا يستطيع مسؤولو الحكومة مواجهة شعبهم بها.
عليه، وأمام الخطاب الدبلوماسي المصري الذي جمع ما بين الحزم والهدوء والثقة بعيداً عن أية إشارة لحرب أو مواجهة العسكرية كما يفعل الجانب الآخر بلا مبرر أو داعٍ، فإن الحكومة الإثيوبية لا مفر لها من هذا المأزق إلا المماطلة وإطلاق التصريحات الاستفزازية لمصر على أمل منها في الخروج منه بشكل أو بآخر. ولكن، وفي إطار مركز القوة الثقل الذي تتحرك على أساسه مصر، وبما تقوم به من جهود لإطلاع المجتمع الدولي على التصرفات الإثيوبية غير المسؤولة أو الرشيدة، فإن على أديس أبابا أن تعيد حساباتها فيما تفعله وما تنوي فعله، حتى لا تجد القاهرة نفسها مُضطرة للدفاع عن أمنها القومي والمائي من خلال اتباع حلول لا يرغب أي طرف في اتباعها.
ــــــــــــــ
نقلا عن مجلة “مصر معاك” الصادرة عن وزارة الهجرة المصرية وشؤون المصريين بالخارج.