بنهاية الستينيات كانت السينما الإيرانية نشطة للغاية، وبلغ عدد الأفلام المنتجة حدا كبير جدًا بالمقارنة مع السينمات المناظرة في إقليم الشرق الأوسط، وبدأت بعض الأفلام تخالف المألوف وتلفت الانتباه بشدة نقديًا وجماهيريًا؛ ما أعطى آمالًا واسعة للسينمائيين في استمرار هذه الحالة الجيدة في السبعينيات أيضًا، ولكن على عكس المتوقع جاء العقد الجديد مخيبًا لآمال أهل السينما في إيران، وأخذ الاهتمام يقل تدريجيًا بالسينما الوطنية لصالح الأفلام المستوردة من الخارج، بحكم أنها أقل في التكلفة وأعلى في التقنية، إلى جانب تغير أذواق الجمهور، وفقدان المخرجين والمنتجين بداية من عام 1971 القدرة على تحديد أي القصص يمكن أن تنجح جماهيريًا وأيها يمكن أن تفشل، فأفلام توقع الكثيرون نجاحها بشكل باهر، فشلت بشكل مريع، في حين كان النجاح من نصيب أفلام أخرى لم يتوقع أحد نجاحها.
وبالرغم من المؤشرات الجديدة التي ظهرت بداية من عام 1971، إلا أن المنتجين لم يتنبهوا لحقيقة الأزمة إلا مع العام التالي، حين أنتجوا 87 فيلمًا لم يكتب النجاح إلا لعدد قليل منها، ما جعل من عام 1972 عامًا كارثيًا على العديد من المنتجين الذين أفلسوا، أو توقفوا عن الإنتاج لفترة.[1]
في تلك الأثناء بُذلت محاولات معالجة الأزمة المالية، بل وانحدار مستوى الأفلام المقدمة، لتصبح – في أحيان كثيرة – نماذج ممتلئة بالجنس والعنف، رغبة في تقليد الأفلام الأجنبية الناجحة حينها إلا أن المسألة لم تحل، وزادت الخسائر السينمائية عامًا من بعد عام، بالتالي لم يستفد المنتجون من نجاح مالي، إنما أصابت نوعية السينما التي كانوا يقدمونها غضب المجموعات اليمينية التي كان نفوذها المجتمعي آخذًا في التصاعد في هذا الوقت.
الحقيقة أن عقد السبعينيات كان صعبًا إذًا، وكانت السينما الإيرانية تواجه تحديات إنتاجية ضخمة، لدرجة أن عددا من النقاد في ذلك الوقت كتبوا مقالات نقدية تتوقع إفلاس السينما عام 1976، ثم تحول التنبؤ في العام 1977 إلى حديث عن موت السينما بالكلية.
وأحدثت عناوين مثل “السينما الإيرانية على وشك الموت”، و”السينما الإيرانية تموت” ضجة في المجتمع السينمائي الإيراني وصار مستقبل السينما محل تساؤل حقيقي، التساؤل الذي صار ملحًا وخطيرًا مع عام 1978 حين بدأت التظاهرات ضد نظام الشاه تتصاعد، وصار الظرف السياسي للبلاد غير مشجع نهائيًا على الإنتاج السينمائي.
وقتها أخذ المحتجون يحرقون دور السينما، واعتبروها محرضًا على الفساد، ووصل عدد دور السينما التي تم إحراقها إلى 200 دار، ولعل أكثر هذه الحوادث مأساوية كان في مدينة عبّادان العربية جنوبي إيران، حين أحرق محتجون غاضبون السينما بمن فيها في 18 أغسطس من عام 1978.
في ذلك الحين تبادل النظام والمحتجون الاتهامات، ففي حين اتهم النظام متشددين إسلاميين بإحراق السينما والتسبب في مقتل أكثر من 400 مواطن، اتهمت المعارضة بدورها النظام ومنظمة المخابرات والأمن القومي “سافاك” بتدبير الحادث لإلصاق التهمة بهم، وتطويق الاحتجاجات، ويبدو أن السينما مثلت في هذا الوقت معركة سياسية كبرى بين نظام الشاه ومناهضيه، وكانت رأس حربة في هجوم الشاه على المعارضة التي كانت تواجه اتهامات بمعاداة السينما.
الحق أن المزاج الشعبي الغاضب من سياسات الشاه وقتها كان أميل لتصديق رواية المعارضة، والاعتقاد بتدبير نظام الشاه تلك الجرائم، في الوقت ذاته فطن الخميني إلى المعركة السياسية السينمائية، وأهمية السينما في الوجدان الشعبي، فخرج يطمئن الجماهير ويحاول نفي تهمة معاداة السينما عن نفسه وعن من يقودهم فقال في حديث نشرته الجارديان في نوفمبر من عام 1978 بالحرف الواحد:
“إننا نعارض دور السينما التي تساهم في إفساد أخلاق الشباب، بما أنها مغايرة للثقافة الإسلامية، لكننا نوافق على البرامج التي تساعد في التهذيب، وتكون في صالح التربية الأخلاقية والعلمية السليمة للمجتمع”[2].
ثم عاد قائد الثورة الإيرانية ليؤكد هذه التصريحات مع مجلة دير شبيجل الألمانية حين قال: “كانت السينما تحاول تعطيل روح المقاومة في جيل الشباب في البلاد.. أعطونا نموذجًا للسينما الأخلاقية، والسينما العلمية، فلا نعارضها”.[3]
العجيب أنه في حين كان طرفا الصراع يتحدثان عن السينما، ويستخدمانها كأداة ضغط سياسي، كان صناعها يعانون الأمرين، ويجاهدون لأجل ألا يخسروا كل شيء، فعدد الأفلام التي عرضت عام 1978 لم يتجاوز العشرين فيلمًا، وقد عرضت في ظروف غاية في الصعوبة، وفي وقت كثرت فيه إضرابات أصحاب دور السينما إما بسبب حوادث إحراق السينمات، أو بسبب رفض الحكومة زيادة أسعار التذاكر أو تخفيض الضرائب لدعم الصناعة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.
الخلاصة أنه إذا كانت الأفلام التي عرضت وقتها قد واجهت ظروفًا صعبة، فإن أفلامًا أخرى كانت جاهزة لم تعرض إلا بعد الثورة، ولم تر بعض الأفلام التي أنتجت في الساعات العصيبة النور قط، وخسر منتجوها كل شيء، لكن كيف استطاعت السينما الإيرانية النجاة رغم كل هذه التحديات؟ وكيف بُعثت من جديد لتضحى عملاقًا له بصمته في المحافل العالمية؟ وكيف حدثت المعجزة؟
ربما نتحدث عن هذا في المقالات اللاحقة.
ـــــــــــــــ
[1]مسعود مهرابي، تاريخ سينماي إيران، ص 166
[2]السينما الإيرانية تاريخ وتحديات، فاطمة برجكاني، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2009، ص 98
[3]المرجع السابق، ص 99