في ما مضى كانت إيران تعلم أن برنامجها النووي في مأمن من أي عدوان إسرائيلي؛ نظرا لوجود أغلب المفاعلات الأساسية وأغلب أجهزة الطرد المركزية فائقة التطور أسفل منحدرات جبلية تحت الأرض بنحو 80 مترا، كما هو الحال في منشأة فوردو المهمة للغاية في منظومة البرنامج النووي لإيران.
رسائل القنابل الغبية
غير أن دخول ما يعرف بـ”القنابل الغبية” أو قنابل “مارك 84” ــ أمريكية الصنع والتي أمد بها البنتاجون تل أبيب ــ إلى ساحات الصراع ربما يغير من طبيعة التفكير الإستراتيجي لصانع القرار في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي يجتمع ببيت المرشد الأعلى علي خامنئي في شارع فلسطين جنوبي العاصمة طهران.
ففي واقعة اغتيال حسن نصر الله استخدمت إسرائيل ــ وربما للمرة الأولى ــ نحو 85 قنبلة خارقة للتحصينات من طراز “مارك 84” تزن الواحدة منها طنا كاملا تقريبا وأسقطتها على مكان وجود الأمين العام لحزب الله ما أدى إلى مصرعه ورفاقه، وعلمت إسرائيل بوقوع الاغتيال قبل علم غيرها، ما يشير إلى أن لتل أبيب عناصر بشرية في قلب الميدان.
هذا بالرغم من أن نصر الله كان يجلس في مقر قيادة حزب الله بالطابق الرابع عشر أسفل الأرض، أي على عمق نحو 60 مترا من مكان سقوط تلك القنابل أخذا في الحسبان أن كل طابق على ارتفاع نحو 3 أمتار مع وجود 6 طوابق فوق الأرض.
إدراك صانع القرار الإيراني
يعني ما سبق إمكانية وصول مثل تلك القنابل ــ المتوحشة الرهيبة القادرة على إبادة أحياء بأكملها ــ إلى قلب المنشآت النووية الإيرانية التي لطالما اعتقدت طهران أنها عصية على الاستهداف، إلا باحتلال ميداني وغزو بري لأراضيها كما سبق في خبراتها الطويلة مع التاريخ الدامي على مر القرون السالفة.
على هذا المنوال ربما يدرك صانع القرار في إيران أن العدوان الإسرائيلي الراهن في لبنان واغتيال حسن نصر الله هدفه استدراج طهران إلى الحرب وبالتالي خلق الظروف المواتية لشن هجمات على درة المشروع الإيراني الإقليمي وهو البرنامج النووي الذي قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال.
بالتالي فإنه من المستبعد وفق هذه المعطيات أن تتخذ إيران قرار الشروع في الحرب أو حتى إرسال متطوعين إلى الأراضي اللبنانية بحسب ما أعلنه آية الله محمد حسن أختري، رئيس دائرة السياسة الخارجية في بيت القيادة، كما سبق وفعلت في العام 1981.
التفكير الإستراتيجي الإيراني
هذا النهج من التفكير الإستراتيجي ببساطة يستمد منطقيته وفق المنظور الإيراني من أنه سيترتب عليه توسيع نطاق المعركة وجر الولايات المتحدة الأمريكية الحتمي إلى الصراع.
وبالتالي تعريض رأس المال السياسي والاقتصادي والعلمي الذي أنفقته إيران على ذلك المشروع النووي في 70 عاما إلى الخطر المؤكد؛ لإدراك طهران الواقعي في الظرف الراهن حقيقة الفارق التكنولوجي الهائل بين خندقين تقبع هي في أحدهما حاملة المدافع والأبواق وتنظر إلى جثوم الطرف الآخر على وجهه في أعماقه.
ولعل هذا التفكير ما ذهب إليه قطاع كبير من صناع القرار في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي نقلت التقارير وجود اختلافات حول ماهية الرد الإيراني المناسب على مثل هذا الحدث الجلل، ومنهم جراح القلب المهادن الرئيس مسعود بزشكيان الذي ربما لا يريد أن يُكتب في سيرته الذاتية وفي تاريخ إيران المعاصر أنه عرَّض بلاده إلى خطر تدمير البنية التحية بفعل السلاح الأمريكي.
خاتمة
ما سبق كان تفكيرا بصوت عال هدفه محاولة التعمق في عقلية صانع القرار بطهران الذي ربما يتصور أن رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو أرسل رسالتين في وقت واحد، إحداهما “فعلية” إلى رأس حسن نصر الله، والأخرى “تخيلية” إلى مفاعلات برنامج إيران النووي.