تقف إيران على بعد نحو 3 أسابيع من الانتخابات الرئاسية المقررة في 17 يونيو المقبل، والتي من المرجح منطقيا أن تأتي بآية الله إبراهيم رئيسي، على قمة السلطة التنفيذية، وهو حدث له ما بعده من حيث أن المعضلة الأساسية التي ستواجهه هي علاقاته مع الغرب وما إذا كان سيواصل مباحثات فيينا حول الملف النووي أم لا؟ وهو ما يعني أن الرئيس الإيراني القادم رئيسي كان أم جليلي أم غيرهما، سيضع إحدى عينيه على فلسفة المؤسس آية الله الخميني في بناء الحكم وفي علاقاته الخارجية، وسيضع العين الأخرى على حال بلاده وتذمر أغلب أطياف الشعب بسبب التردي الاقتصادي والعزلة الخارجية التي تعاني منها الجمهورية الإسلامية.
مدخل
تعتمد أغلب النظم السياسية الراسخة على الكثير من العلوم التي تمثل ركائز أساسية ومنطقية لبسط نفوذها وترسيخ قواعدها العلمية قبل ترسيخ قواعدها السياسية، وهو ما يفسر أنه حتى في السياسة لابد من الاعتماد على أصول العلم ومناهجه في ترسيخ سياسات الدول، فكما اعتمدت الحضارة الغربية على أسس المنهج التجريبي والعلوم الطبيعية، اعتمد أيضًا النظام الإيراني الحالي على علم الفلسفة بشكل رئيس بفروعه المختلفة سواء المنطق أو الفلسفة الإسلامية وتوابعها من الفروع الكلامية.
وقد رسخ الخميني نفسه لضرورة الاعتماد على علم الفلسفة والمنطق كركيزة لبناء منهجه السياسي منذ أن كان مدرسًا في الحوزة الدينية في مدينة قم، إذ بمجرد ما بدأ يطلب العلم إلا والتحق بحوزة آية الله حائري، ودرس الفلسفة والمنطق ثم أصبح مدرسًا لهذه العلوم، وقد كان ينظر إليه من رجال الدين كالبروجردي وشريعتمداري والمرعشي على أنه مدرس للفلسفة والمنطق وليس فقيهًا ولا مجتهدًا.
فلسفة الخميني البرجماتية
شرع الخميني في ترسيخ منهجه السياسي خلال تلك الفترة وتحديدًا عام 1926 حين كان يعتمد في أحاديثه واجتهاداته السياسية في ذلك الوقت على آراء الفلاسفة بعامة سواء من ظهر منهم قبل الإسلام أو الفلاسفة المسلمين، وقد كان يمتدح الفلاسفة ويأخذ بأقوالهم على أنها مسلمات، ويستدل بها على مسائل في أصول الاعتقاد، لأنه عد نفسه واحدًا منهم إذ إنه درس الفلسفة وتفرغ لتدريسها منذ هذا العام.
في تلك الفترة بالتحديد عمل الخميني على الكشف عن فكره المتطور وتحدى قواعد المجتمع الديني، فاعتنق أفكارًا بديلة. وعمل على التكريس لتدريس الفلسفة، بينما كان الارتقاء ضمن المؤسسة الدينية الشيعية يقتضي التركيز على دراسة الشريعة الإسلامية، ناهيك عن إطلاعه على المذهب الصوفي والشعر.
ومن أجل تكريس برجماتيته السياسية واستخدام المناهج الفلسفية والمنطقية لخدمة أفكاره السياسية، استعان الخميني بخطاب اليساريين والماركسيين طيلة مسيرته حين تحدث عن الطبيعة الظالمة للغرب، وما تعيشه الشعوب الشرقية من تبعية للغرب وسياساته الظالمة، وأسقط تلك الخطابات الفلسفية والسياسية على سياسات الشاه في ذلك الوقت، فجذب منهجه الفلسفي مريدين كثر عاشوا في رحابه وتعلموا على يديه المعارضة الفلسفية التي ذخرت بها كتب اليونان المترجمة إلى اللغة الفارسية.
وفي الوقت الذي بدأ الخميني يمارس فيه تدريس فلسفة الشريعة في قم، شرع في إصدار أحكام بارزة في مسائل حقوقية إسلامية كما كان يتابع الأحداث السياسية ويتخذ منها موقفًا بوعي وبدراية موضوعية، وباتت مواقفه السياسية مبنية على مبادئ فلسفية ومنطقية لا تتزعزع، كما استخدم المنطق الأرسطي في التوصل إلى نتائج صادقة من مقدمات صادقة، فجذب الكثير من الشبان إلى درسه الفلسفي والسياسي.
ومن خلال ذلك الخطاب الفلسفي الماركسي والمنطقي المغلف بسياق ديني، دعا الخميني إلى استمالة الشباب باسم الإسلام التقدمي، فوضع تساؤلًا مؤداه: “بات من المسلم بالنسبة للاعقلانيين أن رجال الدين يستخفون بحكم المنطق ولا يعيرونه أي اهتمام أو لم يكن رجال الدين من سطروا كل الكتب عن الفلسفة ومبادئ التشريع والمنطق؟!”.
برجماتية إيران في عهد خاتمي
أظهرت إيران تناقضًا كبيرًا في سياساتها في فترات متلاحقة، فليس شرطًا أنه لمجرد أن يكون الحاكم في طهران يرتدي لباس رجال الدين فعليه أن يحكم بالشريعة فقط، لكن النظام الإيراني في كل مراحل حياته أظهر تناقضًا يعبر عن تحركه بمنطق البرجماتية والمصلحة، وهما أساس السياسات الأوروبية الغربية.
وقد تعجب كثيرون من الأوراق والوثائق التي أعلنت حول فضيحة “إيران كونترا”، وشراء إيران أسلحة من إسرائيل لاستخدامها في حربها ضد العراق في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فضلًا عن مساعدة الأمريكان في توجيه ضربات قوية داخل العمق الاستراتيجي لأفغانستان وللعراق في عام 2003 وما قبله.
لكن حتى قبل ذلك التاريخ وبالتحديد خلال الفترة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من دخول القوات الأمريكية إلى أفغانستان، أقيمت مراجعات فكرية داخل أروقة النظام الإيراني في ذلك الوقت وتحديدًا بين العامين 2001 و2003، ساهمت في أن قدمت السلطات الإيرانية مساعدات لوجيستية للأمريكيين بأفغانستان على الحدود، انطلاقًا من مبدأ البرجماتية الإيرانية أو المصلحة في ظل تخوفات كبيرة من تمدد مسلحي طالبان ووصولهم إلى إيران.
وقد كان الرئيس الإيراني في ذلك الوقت محمد خاتمي يرى أن منطقة أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى باتجاه روسيا الاتحادية والصين والهند هي منطقة شديدة المخاطر والغموض وقد تفتح جبهات يتعذر سدها أو التحكم فيها لطول حدود إيران معها، وهو ما دعاه للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الإسلام السني في ذلك الوقت.
في تلك الفترة بالتحديد رأت الولايات المتحدة أنه ما دامت إيران تقدم يد السلام فلا يجب ردها، ما دعا وزارة الخارجية الأمريكية أن ترسل في 12 فبراير عام 2002 رسالة تهنئة لإيران عبر السفارة السويسرية تؤكد فيها رغبتها في الحوار وحل الخلافات من خلال حوار هادئ.
كانت تلك الرسالة إيذانًا بإعلان الرئيس محمد خاتمي إطلاق يد لجنة إدارة الأزمة لإجراء حوار مباشر مع واشنطن على اعتبار أنه لا توجد عداوة بين الأمتين الإيرانية والأمريكية.
من هذا المنطلق أيضًا اجتمعت وفود من كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، واتفقا على إبرام عدد من الاتفاقيات تسهل التعاون بين البلدين في مجالات عدة أبرزها فتح قناة اتصال استراتيجية مع إيران وليس محادثات تكتيكية فقط، وتوسيع التعاون بشأن أفغانستان ليشمل محاربة تنظيم القاعدة والتنظيمات المسلحة الأخرى، وكذلك توسيع التعاون بين الولايات المتحدة وبين إيران فيما يتعلق بتقاسم المعلومات الاستخباراتية الأخرى، وتنسيق دوريات حدودية مشتركة لاعتقال مسلحي تنظيم القاعدة الذين يريدون الوصول إلى باكستان وإيران.
خاتمة
بناء على ما أعلاه يمكن القول إن الخميني استخدم الفلسفة والمنطق كثيرًا في مساجلاته السياسية خلال فترة تدريسه في حوزة قم، واستخدم أيضًا منهج الفلاسفة اليساريين الذين ساروا على طريق كارل ماركس وغيره من الفلاسفة في التعريف بحقوق الشعوب وحقوق العمال وطبقات وفئات المجتمع المختلفة، ما مكنه من تكوين شبكة كبيرة من المريدين الذين أعجبوا بدرسه الفلسفي والسياسي والمغلف بغلاف ديني لا تخطئه العين.
على نهج الخميني نفسه سار رؤساء كثيرون لإيران كان أبرزهم محمد خاتمي (1997 ـ 2005) الذي يمثل الفلسفة الليبرالية والبرجماتية في قمة صورهما، فكما أعلن عن استخدام المنطق في فكرته عن حوار الحضارات، استخدم منطق المصلحة (البرجماتية) في تكريس شكل العلاقات الدولية بين إيران وبين أمريكا وكذلك بين إيران وبين الغرب.
وفي الحقيقة لم يكن المنطق وحده هو الإطار الحاكم لشكل العلاقات بين واشنطن وبين طهران في تلك الفترة، بل كانت البرجماتية الإيرانية ومبدأ المصلحة المشتركة هو ما جمع النقيضين على مائدة مفاوضات واحدة، قدم من خلالها كلا الطرفين للآخر نوعًا من المساعدات لتحقيق مصلحته الشخصية، فأعطت إيران لأمريكا دعمًا من خلال أراضيها لوقف التمدد الطالباني بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك، وكذلك حصلت إيران من أمريكا على دعم عسكري واستخباري واستفادت الكثير من قربها من نظام المحافظين الجدد في البيت الأبيض.
وفق هذا التصور فإن البراجماتية التي اعتادتها إيران عبر العقود الماضية قد تكون دافعا لرئيس إيران المقبل، حتى لو كان بالغ التشدد، كي يحسن علاقات بلاده مع الغرب عموما ومع الولايات المتحدة خصوصا، كما أنها قد تكون المحفز الأكبر لإنجاز مفاوضات فيينا التي تسير جنبا إلى جنب مع تخصيب اليورانيوم بوتيرة متسارعة في نطنز.