أخطو اليوم إلى عتبات عامي الثالث عشر فى دراسات الشؤون الإيرانية، بعد اثنى عشر عاما بالتمام والكمال قضيتها دارسا وقارئا ومتعلما ومنصتا، ثم باحثا ومحاضرا ومصدرا لأغلب وسائل الإعلام العربية والدولية، ومحللا دائما لجُل الأقنية الفضائية الإخبارية، شارحا ما يدور فى إيران ومفصلا أبعاد تفاعلاتها فى بيئتيها الداخلية والخارجية.
ففي مثل هذا اليوم الموافق الأربعاء 15 نوفمبر من العام 2006 بدأت البحث في الشؤون الإيرانية، بعد أول محاضرة تلقيتها في التخصص بين يدي الأستاذ الدكتور مصطفى رمضان، أستاذ الشؤون الأسيوية في جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، والذي كان يدرس لي ـ ولزملائي بطبيعة الحال ـ مادة “المسلمون في أسيا الوسطى والقوقاز”، وهو الذي حضني ودفعني دفعا للإبحار في هذا التخصص، وكم هالني وقتها حديثه عن إيران وثورتها ومصدقها وشاهها وخمينيها، خاصة أنه ركز محاضراته على هذا البلد وأسقط تاريخه الحديث والمعاصر على الواقع، ومن المفارقات أن هذا العام هو العام الذي بدأت فيه القوى الدولية ومجلس الأمن توقيع العقوبات على إيران ومنذ يومها أخذت إيران مكانها في واجهة نشرات الأخبار، ولم تبرح هذا المكان حتى الآن.
فى غضون الأعوام الاثنى عشر حصلت على دبلومتين تمهيديتين مؤهلتين للحصول على درجة التخصص الماجستير من جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، ثم أعددت رسالة ماجستير فى فلسفة التاريخ الدولى المعاصر، عن “العلاقات المصرية ـ الإيرانية”، نالت تقدير “ممتاز” من اللجنة العلمية التى تشكلت من أكابر الأساتذة بموجب القانون الجامعي لمنح درجات التخصص للباحثين، وهى الدرجة العلمية التى لم تكلل تعبا وجهدا كبيرين بذلتهما فى سبيلها فحسب؛ بل جاءت لتمنحني صك التخصص الأكاديمي من أعرق جامعات كوكب الأرض، وبعدها باشرت العمل للحصول على درجة العالمية “الدكتوراه” في العلاقات العربية ـ الإيرانية.
كتبت ونشرت عشرات الأبحاث المحكّمة فى التخصص، فضلا عن آلاف التقارير، واستكتبتني كبرى الصحف والدوريات ومراكز الفكر والدراسات والبحوث فى الإقليم، وكان هدفي الرئيس من هذا العمل هو أن تسبق محاولاتنا العربية للحكم على إيران فهمنا لها؛ أي إنني وضعت نصب عيني مهمة وحيدة وهى: البحث عن الفهم أولا، ثم ترك المجال للحكم فى الخطوة ـ أو الخطوات ـ التالية.
كانت بدايتي فى التخصص أشبه بكثير من الأحكام التى نسمعها ونقرأها يوميا حول إيران الآن، وهى الأحكام التى ذكرتني بحديث لى فى يناير من العام 2007 حين دعاني حجة الإسلام (الدكتور) محمد حسن زماني، المستشار الثقافي لمكتب رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة، إلى مكتبه ووقتها كنت قد أمضيت عاما واحدا فقط في التخصص، قرأت فيه مجموعة كتب مبدئية خُيل إليّ أنني بها أصبحت عالما بالشؤون الإيرانية، ذلك أن الرجل عرض علي منحة علمية للحصول على درجة الماجستير من إحدى جامعات طهران، وبالرغم من أنني اعتذرت له؛ لكنه سألني: ماذا لو قال لك أحد الأساتذة فى الجامعة ماذا تعرف عن إيران؟ أجبته: سأقول له، ماذا تعرف أنت عن إيران؟! ووقتها لم أكن قد كتبت بحثا علميا واحدا عن بلاد فارس، ولا قدمت شيئا بالمرة إلى مكتبتنا العربية حول هذه البلاد المفعمة بالغموض والمترعة بالتناقضات.
الدكتور زماني الذي فوجئ بالإجابة التي يكسوها الغرور الأجوف، مازحنى قائلا: “إذن أنت عُمَر الذي إذا جلس أمام الملكين سألهما عن دينهما وربهما والرسول الذى بُعث فيهما؟!”. وبالطبع وصلتني الرسالة التى انطوت على قدر كبير من التفهم لطبيعة شاب يقبل ـ بالكاد ـ على الاقتراب من “مرحلة السطوح” في دراسة الشؤون الإيرانية.
كتبت هذه السطور لأستخلص درسا واحدا خرجت به من تلك الدزينة التي حاولت فيها ـ جاهدا ـ الاقتراب من قلب إيران، والتعرف على العقلية الاستراتيجية لصناع القرار بها، وهو أن إيران بالفعل مفتاح مهم من مفاتيح العالم، ومن أراد أن يفهم تطور التاريخ البشري ووقائع السياسة الدولية الراهنة، عليه أولا: أن يفهم إيران.
أسوق فى هذا الصدد ما كتبه الفيلسوف الفرنسي، مونتسيكو، فى تحفته الخالدة “رسائل فارسية” بالعام 1721م، حين أراد إسقاط ما يحدث فى إيران على ما يحدث فى فرنسا فى القرن الثامن عشر وقت أن كانت بلاده حبلى بثورة 1789م، تلك التي غيرت ـ من دون شك ـ مسار الفكر البشري وتحولاته الكبرى فى التاريخ الحديث.
ومن بين كل حضارات العالم القديم، احتفظت إيران (أو بلاد فارس) بخصوصية ميزتها عن باقى حضارات العالم القديم، وهى أنها شهدت كل الأديان السماوية والوضعية على حد سواء وساهمت في تطورها، ويمكن الرجوع إلى البروفيسور الكندي، ريتشارد فولتز، الذي استخلص هذه الحقيقة ودلل عليها فى مؤلفه الأبرز “الروحانية فى أرض النبلاء: كيف أثرت إيران فى أديان العالم”.
عليه أدعو إلى الاقتراب من إيران بالبحث والفهم والتحليل، والتخلي عن الأحكام النمطية الجاهزة فى حديثنا عنها؛ لأن فهم إيران يصب فى صالح العرب إذا أرادوا ـ بحق ـ أن يتجنبوا شيئا صادرا عنها أو يستخلصوا عبرة من تاريخها الطويل.