يخيل لدى البعض من متابعي الشأن الإيراني الداخلي أن تثبيت دعائم نظام ولاية الفقيه، الذي يقوده المرشد الحالي علي خامنئي، تقوم بالضرورة على عاتق أنصار التيار المحافظ من المتشددين الذين يتغنون دائمًا بضرورة الاستناد إلى مبدأ الولاية في كل التحركات السياسية والفكرية، والتي اعتبروها منطلقًا للسياسات الإيرانية منذ نجاح الخميني في ثورته عام 1979، على اعتبار أن الجناح المتشدد في إيران يجعل من الحديث عن الإسلام والدين والتدين والولاية والإمامة دائمًا مصطلحات حية تسري في لعابه مسرى الدم في العروق.
هذا بالتأكيد على خلاف أنصار التيار الإصلاحي من الليبراليين واليساريين، الذين يتحدثون عن مصطلحات الحرية والسوق الحرة والانفتاح على العالم وسيادة القانون والديمقراطية، وغيرها من المصطلحات الفلسفية والسياسية الحداثية، في حين أن هؤلاء متهمين دائمًا بالمحاباة للغرب الذي لا يجوز الوثوق فيه على الدوام.
ترشح خاتمي للرئاسة
وقد كسر الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي هذه النظرية تمامًا، حين أعلن عن ترشحه في الانتخابات الرئاسية في إيران في العشرين من شهر يناير من عام 1997، وأعلن عن برنامجه الانتخابي كمرشح ينتمي للتيار الإصلاحي، وأدرج في برنامجه الانتخابي الكثير والكثير من المصطلحات الفلسفية التي جذبت إليه الكثير من أصوات الناخبين.
”
تمثلت تلك المصطلحات في «سيادة القانون» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«المجتمع المدني» و«دعم الصحافة الحرة» و«حوار الحضارات» و«الانفتاح على العالم» و«تعدد قراءات الإسلام طبقًا لمقتضيات العصر».
“
هذه المصطلحات تسببت في هجوم ضاري شنه أنصار المرشح المنافس له والمنتمي للتيار المتشدد وهو علي أكبر ناطق نوري، ودعم ذلك الهجوم فتوى أية الله تقي مصباح يزدي، رجل الدين المتشدد والذي أوعز إلى كل صحف اليمين المحافظ وأبرزها صحيفة «صبح» إلى الهجوم على أفكار خاتمي واعتبرتها ضلالات لا تجوز أن تنتشر في المجتمع الإيراني.
فلسفة البرنامج الانتخابي
لقد كان للفلسفة السياسية في برنامج خاتمي وسياساته أبعادًا مهمة جعلته يفوز بنسبة كبيرة جدًا في الانتخابات الرئاسية في إيران عام 1997، حيث تم الإعلان عن فوز خاتمي على منافسه ناطق نوري بنسبة تصويت تجاوزت الـ70% من أصوات الناخبين، وهي أكبر نسبة تصويت شهدتها إيران خلال تاريخها.
لكن كانت هناك واقعة محددة تسببت في أن ارتفع نجم خاتمي وسط الناخبات على وجه التحديد، إذ طلبت منه إحدى الصحف النسائية في طهران إجراء حوار معه فوافق على الفور، بعد علمه أن الصحيفة نفسها طلبت من منافسه ناطق نوري إجراء حوار ورفض ناطق نوري، ما تسبب في زيادة نسبة تصويت المرأة والنساء بشكل عام في إيران لصالح خاتمي المتفتح، وهبوط أرصدة فوز المنافس المتشدد تجاه المرأة ناطق نوري.
أما عن الوجه الجميل لسياسات خاتمي فتمثلت في أفكاره حول حوار الحضارات الذي جعلها منطلقًا لتحسين علاقات إيران مع دول الجوار، وإبرام اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع كل الدول الإقليمية، كان أهمها اتفاقية الدفاع المشترك بين طهران وبين الرياض، فضلًا عن محاولته فتح ثغرة في جدار العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، للخروج من مأزق العقوبات التي فرضت على طهران عقب اقتحام السفارة الأمريكية في طهران بعد ثورة 1979، علاوة على جولاته المكوكية في دول العالم العربي وإلقائه محاضرات تتمحور موضوعاتها حول التعايش السلمي رغم الاختلاف في المذاهب، والانفتاح الدائم على الجميع.
هروب خاتمي من كريستين أمانبور
وبلغ الأمر مبلغه من خاتمي لدرجة أنه عندما سألته المذيع الأمريكية إيرانية الأصل كريستين أمانبور خلال لقائه بفضائية سي إن إن عن حقيقة شعار «الموت لأمريكا» برغم دعوته للانفتاح على أمريكا، فقال «إن شعار الموت لأمريكا لا يرمي لمعناه الحرفي بل يقصد منه الموت لسياسة العداء والاستعداء الأمريكي تجاه الإيرانيين وليس لأمريكا نفسها».
”
بهذا الشرح هرب خاتمي ببراعة من مأزق سؤال أمانبور حول الشعار الذي يردده أنصار التيار المتشدد في وقت يحاول فيه فتح آفاق للتعاون مع العالم، وإخراج إيران من عزلتها الإقليمية والجغرافية والعالمية إبان تلك الفترة.
“
لكن من أجل أن يكسب خاتمي المجتمع الإيراني الداخلي ورجال الدين على حد سواء أعلن أنه ينطلق في أفكاره السياسية من إيمانه المطلق بمبدأ «ولاية الفقيه»، حتى يبعد الأنظار تمامًا عن اتهامات اليمين المتشدد له بتبني سياسات «العدو» و«الشيطان الأكبر» أو «الغرب الفاسق»، ما جعل خاتمي ابنًا شرعيًا للثورة الإيرانية التي كان أحد رجالاتها بالفعل، وكذلك أحد الإصلاحيين الذين قدموا فسحة من الزمن للنظام الإيراني الجديد لبقائه لفترة أطول.
ولعل هذا ما خدم بقاء النظام في ذلك الوقت، وصنع ثغرات تمكن من خلالها الحرس الثوري أن تمتد أياديه إلى تبني سياسة تربية حلفاء ورجال في النخب السياسية لبعض الدول، الذين أصبحوا فيما بعد رجال إيران في منطقة الشرق الأوسط.
الوجه الجميل لولاية الفقية
وأبلغ دلالة على أن خاتمي هو الوجه الجميل لسياسة ولاية الفقيه، أنه كتب مقالًا ردًا على سجال نشأ بينه وبين مهدي بازركان في البرلمان الإيراني، حيث قام الثاني بإلقاء خطاب أمام البرلمان انتقد فيه سياسة الثورة حول التصفيات وتضييق الحريات وممارسات اللجان الثورية والتدخل في مهام الحكومة، فكتب خاتمي في صحيفة «كيهان» عندما كان مشرفًا عليها عام 1981م مقالاً على ثلاث حلقات بعنوان “هلاك السادات وكلمة السيد بازركان”، قرن فيه بين حادثة اغتيال الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات وكلمة بازركان في البرلمان.
”
اتهم خاتمي في مقالته بازركان بالتبعية لأمريكا مصنفاً إياه بالعدو للثورة وقادتها، كما زعم في مقالته تلك أن اغتيال الرئيس الشهيد ـ عليه رحمة الله ـ أنور السادات كان بسبب قربه من الولايات المتحدة الأمريكية التي أجبرته على التطبيع مع إسرائيل».
“
وكانت سياسات خاتمي كفيلة بأن تضرب بكلماته تلك عرض الحائط، خاصة بعد أن تبنى خطابًا سلسًا تجاه أمريكا، وحاول تطويع الأوضاع لصالح إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد.
خاتمة
بمنطق البرجماتية السياسية أخطأ التيار المتشدد في هجومه الصارخ ضد خاتمي في فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية وما صاحبها من حركة اغتيالات لرموز التيار الإصلاحي عقب فوزه، في حين أن خاتمي نفسه لجأ لتلك السياسات لضمان بقاء نظام ولاية الفقيه لفترة أطول، في ظل السخط الدولي على الثورة الإيرانية، وما تلاها من عقوبات دولية على طهران، وعزلة إقليمية كبيرة.
وتمثلت أفكار خاتمي رغم أنها أفكار تقدمية في تعزيز مكانة إيران بالمحافل الدولية لدرجة أن قبلت الأمم المتحدة طلبه بتسمية عام 2001 عام «حوار الحضارات»، وساهمت تلك السياسات بشكل كبير في تثبيت دعائم النظام الإيراني الجديد لدى المجتمع الدولي من خلال تصدر الساحة السياسية أحد الوجوه الباسمة التي تمد يد السلام للآخر وتعلن رفضها سياسة العداء الظاهر بين إيران وبين غيرها من الدول.
كما عملت أفكار خاتمي داخليًا على تمسك الشعب بعد الثورة برئيس استمر لمدة ثماني سنوات كانت فترة تنسم فيها الشعب هواء الحرية – وإن شابه بعض الممارسات من اليمين المتشدد – إلا أن تلك الفترة كانت كفيلة بأن ينعم ذلك النظام بهدوء كبير، وأن يلتقط أنفاسه ليفكر كيف يمكن أن يشرع في تصدير الثورة التي تضمنها دستور إيران الجديد الصادر عام 1979 وتعديله في عام 1989، والتي لم تتطرق لأية تعديلات في جوهر ولاية الفقيه ومسألة تصدير الثورة، فكانت سياسات خاتمي كلمة المرور لخروج إيران إلى منطقة الشرق الأوسط لتبني ما تسميهم «حلفاء»، وما يسميهم المجتمع الدولي «أذرع».