أظهر الهجوم الغربي الثلاثي الأمريكي ـ البريطاني ـ الفرنسي فجر الرابع عشر من إبريل 2018 على مواقع في العاصمة السورية دمشق وخارجها في محافظة حمص، جانبا من التناقض البنيوي بين الدول الثلاث الشركاء في آلية أستانة لتسوية الأزمة السورية، تلك المندلعة منذ نهار السابع عشر من مارس بالعام 2011، إذ أماطت اللثام عن تباين جذري في موقف تركيا من جهة وإيران وروسيا من جهة أخرى، ولئن كان مرمى الصواريخ الغربية في سوريا إلا أن أهدافه تجاوزت ذلك إلى الدول المنخرطة في الأزمة وعلى رأسها إيران وروسيا، وتمثلت في تعميق الشقاق التركي مع طرفي المعادلة الآخرين في أستانة (روسيا وإيران).
موقفان متباينان
فقد أيدت تركيا الضربة الغربية وورد ذلك على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذلك الذي اعتبر أن “المهمة قد أنجزت بنجاح ونفذت بدقة وحققت أفضل النتائج”. وأكد أردوغان أمام تجمع لمناصريه في إسطنبول ظهر يوم الهجوم أنه على تواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويجري اتصالات مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب.
بالتزامن مع تلك التصريحات رحبت الخارجية التركية بالهجوم الثلاثى “الفرنسى ـ البريطانى ـ الأمريكى” على سوريا، واعتبرته ردا مناسبا على ما يوصف بـ”الهجوم الكيماوي فى دوما بالغوطة الشرقية”. وأصدر وزير الخارجية التركية، جاويش أوغلو، بيانا قال فيه إن “تركيا تعتبر العملية العسكرية التى نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ضد النظام السورى ردا فى محله”. وعبرت تركيا عن ترحيبها بالعملية، معتبرة أن الضربات على سوريا تعبر عن مشاعر الضمير الإنسانى، ونص البيان على أن: “ترحب تركيا بالعملية العسكرية التى ترجمت مشاعر الضمير الإنسانى بأسره فى مواجهة الهجوم الكيماوى على دوما”.
في المقابل كان رد الفعل الإيراني مغايرا تماما، إذ نددت الخارجية الإيرانية بالعملية ووصفتها بـ”العدوان”، ودانت “بشدة العدوان الثلاثي الذي شنته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على سوريا، وحذرت من تبعاته، وتداعياته الإقليمية والدولية”. وقال بيان أصدره المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي إن “العدوان يشكل تجاهلا لسيادة سوريا الوطنية ووحدة أراضيها، ويعد عدوانا وخرقا صارخا للقوانين والمعايير الدولية، وإن أمريكا وحلفاءها سيكونون المسؤولين عن تداعيات العدوان الذي يعد مغامرة جديدة في المنطقة ستكون أمريكا وحلفاؤها مسؤولين عن نتائجها”.
ويعني الموقف التركي تحميل العضوين الآخرين في آلية أستانة للحوار حول سوريا (روسيا وإيران) جانبا من مسؤولية ما يوصف بـ”الهجوم الكيماوي” الذي يقال إنه “استهدف مدنيين في بلدة دوما يوم 7 إبريل 2018 وأسفر عن مقتل العشرات”؛ لا لشيء سوى أن هاتين القوتين هما الضامنتان لبقاء نظام الرئيس بشار الأسد على قمة السلطة، ولولاهما لما قام بالعملية، وإن كانت لم تثبت بالأدلة حتى وقت كتابة تلك السطور، في ظل تمترسه خلف حق النقض الروسي في مجلس الأمن الدولي والميليشيات الإيرانية في بلاده.
ويشير رد الفعل الإيراني الذي جاء بعد ساعات قليلة من الهجوم الثلاثي إلى أن طهران تقف على النقيض من موقف أنقرة وأن محاولات الأولى لإشراك الثانية في محادثات أستانة وسوتشي بل وترحيبها بالوجود التركي في تسوية الأزمة السورية منذ البداية؛ حتى تستطيع أن تكوّن جبهة موحدة أمام الانتهاك الروسي لثوابت السياسة في طهران وأنقرة، تجاه القوى الكردية الواقعة على أطراف سوريا وتركيا وإيران، باءت بالفشل.
على هذا النحو المتباين في بياني الخارجيتين التركية والإيرانية بدا واضحا أن التحالف الغربي الثلاثي أظهر ما كان مخفيا تحت سطح الأحداث وهو الاختلاف العميق والجذري بين أنقرة وطهران حول سبل التسوية في سوريا، بالرغم من أن الدولتين عضوين في آلية أستانة للتسوية السياسية حول الأزمة، وهو ما يستدعى الاقتراب من أسس هذا الاختلاف.
أسس الاختلاف التركي ـ الإيراني
أفرزت السنوات السبع الأخيرة موقفا تركيا واضحا تجاه السياسة الخارجية الإيرانية، يقوم على عدم الفصل بين الدور الإيراني في كل دولة من الدول التي تنخرط في صراعاتها بما في ذلك قطر والعراق ولبنان وسوريا بطبيعة الحال، وعليه يمكن القول إن هذا الربط التركي بين ممارسات إيران الإقليمية يرتكز على سبعة محاور.
أولا: القلق التركي من النفوذ الإيراني في عدد من الدول العربية، خاصة أن أغلب تلك الدول لها حدود مشتركة مع تركيا (العراق ـ سوريا) وتتمتع بأغلبية سنية (قطر ـ سوريا ـ اليمن)، وكانت فيما مضى منطقة نفوذ استراتيجية لها قبل سقوط الدولة العثمانية.
ثانيا: المنافسة التركية ـ الإيرانية المحتدمة تحت سطح الأحداث في الملف القطري، ذلك أن الجيش التركي بادر بإرسال وحدات عسكرية صبيحة قرار الرباعي العربي مقاطعة قطر على خلفية سلوكها الإقليمي، يوم 6 يونيو بالعام 2017، ما يعني أن أنقرة سبقت طهران في الوجود العسكري بها.
ثالثا: الخرق التركي لقواعد واستراتيجيات المنظور الإيراني لأمن الخليج، إذ لا يسمح العسكريون في إيران بوجود قوات إقليمية غير خليجية، على أرض خليجية، وقد انزعج الإيرانيون بشدة من الانخراط العسكري التركي في الأزمة القطرية.
رابعا: المنافسة الإيرانية ـ التركية المحتدمة في الملف السوري، وخاصة حول عملية عفرين غير المقبولة إيرانيا، مع العلم بأن هناك تنسيقا إيرانيا ـ تركيا لمنع تمدد نفوذ القوى الكردية في شمالي سوريا، فضلا عن التنسيق رفيع المستوى الذي تم بين البلدين لإجهاض تجربة الانفصال الكردي في العراق سبتمبر 2017.
خامسا: البُعد التاريخي الحاكم في العلاقات بين تركيا وإيران، ذلك أن تركيا على سبيل التحديد لها حدود مشتركة مع 12 دولة موزعة على مجموعات تضم كل واحدة منها ثلاث دول، في الشرق الأوسط (إيران والعراق وسوريا)، وفي القوقاز (أرمينيا وأذربيجان وجورجيا)، وفي أوروبا (قبرص واليونان وبلغاريا)، ودول أخرى ساحلية على البحر الأسود هي (روسيا ورومانيا وأوكرانيا)، وفي تاريخ الدولة التركية كله تمكن الأتراك من احتلال وهزيمة وحُكم كل تلك الدول، باستثناء إيران وروسيا، ما يعني أن إيران شكلت تاريخيا حجر عثرة أمام التوسع التركي في عهد الدولة العثمانية (1299-1923).
سادسا: عضوية تركيا في حلف الناتو وهو الأمر الذي يمنع أي تقارب استراتيجي وثيق وبعيد المدى مع إيران، تلك العضوية التي بدأت بالعام 1952م، والتي كانت إحدى نتائج مطالبة جوزيف ستالين عام 1946 بأراضي من تركيا، بعد خروج بلاده منتصرة من الحرب العالمية الثانية.
سابعا: خاضت إيران وتركيا قرابة 12 حربا طويلة تأرجح فيها النصر السياسي والعسكري بين الجانبين واستمرت منذ معركة جالديران عام 1514م، حتى الحرب العثمانية القاجارية عام 1823م، وبعد تلك السلسلة الطويلة من الحروب توصل الأتراك والإيرانيون إلى معادلة بسيطة، وهي “الاتفاق على تجنب أي صراع مستقبلي”، وهو ما تحقق بالفعل، إذ لم تخض الدولتان أي حرب منذ نحو قرنين، وخلال تلك الفترة شهدت الحدود التركية – الإيرانية الحالة الأكثر استقراراً في الشرق الأوسط، حيث إنها هي الحدود نفسها التي تم التوصل إلى رسمها بعد معاهدة أرضروم الأولى تلك التي تمت بين السلطان العثماني، محمود الثاني، والشاه القاجاري، فتح علي شاه، وتعتبر معاهدة “زهاب” أو معاهدة “قصر شيرين” التي تم التوصل إليها عام 1639م هي المرجع القانوني الرئيس الحاكم بين البلدين منذ ذلك الحين وحتى الآن.
مستقبل أستانة واحتملات التصعيد
بدأت محادثات أستانة بين ممثلي النظام السوري وعدد من قادة فصائل المعارضة السورية برعاية روسية وتركيا وإيرانية في العاصمة الكازاخستانية يومي 23 و24 من يناير بالعام 2017، وترتب عليها تفاهم تركي ـ إيراني ـ روسي، أسفر عن عدد من القمم الثلاثية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ونظيره الإيراني حسن روحاني، والروسي فلاديمير بوتين، في الدول الثلاث، ورمت إلى عدة أهداف من بينها تهميش الدور الأمريكي ـ الأوروبي في تسوية النزاع في سوريا.
فضلا عن رغبة روسية ـ إيرانية جادة في تقليص تأثير مؤتمرات جنيف حول الأزمة، لذلك تم عقد الاجتماعات قبل أيام من اجتماع الحوار الدولي في جنيف يوم 8 فبراير 2017، وتم ذلك مجددا من خلال اجتماعات سوتشي تلك التي تمت في نهايات نوفمبر 2017 قبل أيام أيضا من اجتماعات جنيف في بدايات ديسمبر من العام نفسه، ويدعم هذا الاتجاه رفض إيران (في أستانة) إرسال دعوة إلى وزارة الخارجية الأمريكية وتحفظها على دعوة أي طرف أوروبي والاستعاضة عن ذلك بدعوة عدد من دول المنطقة منها العراق ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر والأردن ولبنان.
مع ذلك فقد جاءت الضربة الثلاثية الغربية على دمشق وحمص في فجر السبت الموافق الرابع عشر من إبريل 2018 لتغيير المعادلة القائمة في الأزمة السورية، وإعادة التوازن إلى الوضع بين النظام وحلفائه وبين المعارضة وداعميها، ذلك الذي اختل في الأشهر الأخيرة لصالح الطرف الأول، وأفرزت تلك الضربة مجموعة من النتائج المباشرة ومنها:
أولا: أعادت واشنطن والدول الأوروبية مكانها كطرف لديه القدرة على المبادأة والفعل العسكري لما يوصف بأنه “معاقبة بشار على استخدام سلاحٍ محرمٍ دوليا”، وخصمت من رصيد المحور الروسي ـ الإيراني الذي لم يستطع الرد على العملية.
ثانيا: نجحت في شق صف التحالف الثلاثي الضامن لآلية أستانة وظهر ذلك من خلال المواقف المتبانية للدول الثلاث وتحديدا بين القوتين الإقليميتين في الآلية (تركيا وإيران).
ثالثا: تعميق عدم الثقة بين محور (إيران ـ روسيا) واللاعب التركي، وظهر ذلك من خلال آراء ودراسات في معاهد تحليل السياسيات الروسية، إذ تم التوصل إلى أن العملية الغربية أبانت أن اللاعب الإيراني يمكن الوثوق بخياراته الاستراتيجية روسيًا، بينما اللاعب التركي على العكس من ذلك.
رابعا: أظهرت تلك الضربات وما نتج عنها من ردود فعل أن التحالف الإيراني ـ التركي في سوريا، وتحديدا تجاه ملف القوى الكردية، ليس تحالفا استراتيجيا بل تحالف تكتيكي مرحلي يزول بزوال أسبابه ومسوغاته.
خامسا: أعادت الضربات الأمريكية على سوريا مركزية اجتماعات جنيف في حل الأزمة السورية إلى الواجهة باعتبارها عملا سياسيا أصيلا، لا يمكن الاستعاضة عنه باجتماعات أستانة، ذلك أن الدول الضامنة للأخيرة لا تنطوي خياراتها الاستراتيجية على مبدأ موحد للتعامل مع القوى الغربية.
سادسا: كشفت عن إمكانية تصعيد “الاختلاف” الإيراني ـ التركي وتحوله إلى “خلاف”، في انتظار ثالثة الأثافي، بعد اختلافين متتاليين، أولا حول عملية عفرين ورفضها إيرانيًا، وثانيا حول الضربات الغربية على سوريا والترحيب بها تركيًا والتنديد بها إيرانيًا.
الصفحة الأولى من الورقة البحثية في عدد الخريف من فصلية “شؤون تركية”.
ــــــــــ
(*) نقلا عن مجلة “شؤون تركية”، التابعة لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.