عدت عملية طوفان الأقصى ليوم السابع من أكتوبر 2023م وما تلاها من هجمات إسرائيلية عدوانية على قطاع غزة، إحدى التغيرات الرامية لإعادة معادلة توازن القوى في الشرق الأوسط، لا سيما أنها أجبرت الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية المؤثرة على التحرك في هذه الأزمة، وفقًا لمصالحها واعتباراتها الخاصة.
اقرأ أيضا:
وبما أن الولايات المتحدة هي الداعم الرئيس لإسرائيل خلال تلك الحرب الدائرة، فقد قامت بتحركات سياسية وعسكرية كبيرة خلال هذه الفترة؛ تسببت في امتداد نيران الأزمة إلى حدود لبنان واليمن من جهة، وتدخل المليشيات المدعومة من إيران من جهة أخرى.
ولقد جاء هذا بعد نشر الولايات المتحدة حاملة الطائرات جيرالد فورد وحاملة الطائرات أيزنهاور في شرقي البحر الأبيض المتوسط، علاوة على إرسالها قوات خاصة ومستشارين عسكريين وزيارات الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تل أبيب وإعلانه مساندة إسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب.
وتمخض عن ذلك كله إمتداد الصراع والاشتباك مع جماعة الحوثي المدعومة من إيران، وقد اعتبرت القوى الإقليمية هذه التحركات الأمريكية تهديدا مباشرا وزعزعة لاستقرار المنطقة وتوريطها في صراع جديد، وفي ظروف كتلك يرى قطاع من المحللين الإيرانيين، من بينهم علي نوري بور، أن حرب غزة في وضعها الراهن تقوض المصالح الأمريكية وهو ما يمكن استعراض مسوغاته وقرائنه في السطور المقبلة.
طبيعة المصالح الأمريكية
اعتبرت إدارة بايدن توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية وإدراج السعودية في عملية تطبيع العلاقات العربية ــ الإسرائيلية أساسًا لمتابعة حل الدولتين. ومع تزايد الخسائر البشرية والمالية في غزة جراء العدوان الإسرائيلي على المدنيين العزل من السلاح بالقطاع، فضلاً عن ضغوط الرأي العام الأمريكي من ناحية والعالمي من ناحية أخرى، تحدثت واشنطن تدريجيًا عن ضرورة خلق فواصل إنسانية مع دعم إسرائيل ورفض الترحيل القسري لمواطني غزة.
اقرأ أيضا:
بل وجعلت من نفسها ــ أي الولايات المتحدة الأمريكية ــ بؤرة المباحثات المتعلقة بالحرب برعاية مصر وقطر، من أجل الإبقاء على عملية تطبيع العلاقات مطروحة على طاولة المفاوضات، وغرس فكرة أن حل الدولتين هو الحل الوحيد لتسوية الصراع الحالي بين العرب وبين إسرائيل.
فمنذ تسعينيات القرن العشرين، تبنت الحكومات الأمريكية المتعاقبة سياسة حل الدولتين في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، فيما عدا نهج إدارة ترامب الاستثنائي في هذه القضية، والذي اتبع إدارة الصراع من خلال إبرام اتفاقيات صلح بين إسرائيل والدول العربية والنفي النسبي لحل الدولتين.
بالنظر لسياسات إدارة بايدن فيما يتعلق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي، نجد أن هذه الأزمة وحلها ليستا على سلم أولويات السياسية الخارجية الأمريكية، بل إن طول أمد لأزمة يعد فرصة لمزيد من ترويض المصالح المتنازع عليها إقليميًا.
كما يمكن اعتبار أن التوجه الأمريكي في التعامل مع أزمة غزة الراهنة متأثر بالاعتبارات الداخلية، والظروف الإقليمية المتأثرة بتزايد النفوذ الروسي والصيني، وخروج إيران من بوتقة الالتفاف على العقوبات، نحو توطيد مزيد من الصلات مع روسيا والصين والدول الإفريقية ودول الخليج.
بطبيعة الحال لا يمكن تجاهل الضغوط الأمريكية على الحكومة الإسرائيلية. ورغم أن نهج الولايات المتحدة وإسرائيل يتماشى إلى حد كبير مع بعضهما البعض، إلا أن مطالب أمريكا من هذه الحرب بشكلٍ خاص، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكلٍ عام، تختلف عن أهداف إسرائيل وخاصة فصائلها المتطرفة.
مع ذلك يتعين الأخذ في الحسبان أن الضغط الشعبي الإسرائيلي على حكومة نتنياهو سيكون مكلفًا لإدارة بايدن؛ بسبب تأثير اللوبيات الإسرائيلية في المشهد السياسي الأمريكي والتوجه القوي للكونجرس تجاه هذا النظام.
مآلات المصالح الأمريكية
إن فهم مصالح الولايات المتحدة في هذه الحرب أمر بالغ الأهمية؛ لتقييم احتمالات نهاية الحرب وما بعدها، خاصة أن إستراتيجية الحكومة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط خلال رئاسة جو بايدن لا تتمثل في الانخراط في عمق في الأزمات والقضايا الإقليمية، أو توسيع دور الجهات الفاعلة الإقليمية والسيطرة على التوترات مع إيران وحلفائها.
ولهذا السبب امتنعت حتى الآن عن التدخل العسكري المباشر في الحرب، وحاولت استخدام بعض الدول العربية خلال المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى ووقف مؤقت لإطلاق النار. بل وأعلنت منذ بداية الحرب، ومع ذيوع شائعات تورط إيران في عملية طوفان الأقصى، أنه لم يتم العثور على أدلة على دور إيران. ولذلك يمكن القول إن حكومة بايدن استمرت في التمسك بإستراتيجيتها في المنطقة.
اقرأ أيضا:
بهذا التسلسل نجد أن الهدف الأمريكي في بدايات الحرب يتمثل في ما يلي:
– تعطيل القوة العسكرية والعملياتية لحركة حماس، بغية منع تكرار عمليات مثل طوفان الأقصى.
– الحد من الحرب في قطاع غزة ومنع امتدادها إلى أجزاء أخرى من المنطقة، لا سيما مع تفاقم أزمة الملاحة في البحر الأحمر.
– مساعدة إسرائيل على استعادة سمعتها المتمرغة في وحل المجال الأمني والاستخباراتي.
– إدارة الرأي العام واستعادة الصورة الإنسانية الكاذبة والمخاتلة لأمريكا أمام العالم من جديد.
– إبقاء عملية تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل حية واستغلال الفرصة لمتابعة حل الدولتين.
أمريكا ما بعد الحرب
مع نجاح الوساطة المصرية ــ القطرية الأولى لوقف إطلاق النار والإفراج عن بعض الأسرى. لم يكن ذلك رادعًا لإسرائيل، ولم يدفعها نحو التهدئة، بل لجأت إلى أساليب لا إنسانية أبرزها أسلوب التجويع، ومنع دخول المساعدات؛ ما دفع الملايين من الفلسطنيين إلى النزوح نحو مدينة رفح الفلسطينية على الحدود المصرية، بالتزامن مع تزايد العمليات العسكرية لكتائب القسام وسرايا القدس وإلحاقهما خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي.
دفع التفاقم للأزمة الولايات المتحدة إلى المعارضة الرسمية لتهجير الفلسطينيين وتقليص مساحة قطاع غزة، واستمرار احتلال الجيش الإسرائيلي لهذه الأراضي. بل وأصبحت الحكومة الأمريكية ترغب في استعادة حكم السلطة الفلسطينية لقطاع غزة في إطار خطة السلام الكبرى، التي ستؤدي في النهاية أيضًا إلى حل الدولتين.
وبرغم أن زعماء بعض الدول العربية يؤيدون حل الدولتين وتعزيز حكومة الحكم الذاتي بقيادة محمود عباس في أي موقف، إلا أنهم، مثل المسؤولين الأمريكيين، يبدون قلقين للغاية بشأن نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن الترتيبات العسكرية والسياسية “في اليوم التالي للحرب”. خصوصًا وأن إدارة محمود عباس للحكومة الفلسطينية لا تختلف عن إدارة حماس، أي أنه يعارض بشدة خطة حل الدولتين.
ومع ذلك، يبدو أن الحكومة الأمريكية عازمة على المضي قدمًا نحو إنشاء دولة فلسطينية مدنية بمساعدة الدول العربية والصين وأوروبا بعد حرب غزة، بالرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أعلن التزام بلاده بعدم إعطاء حق إقامة دولة مستقلة للفسطينيين.
خاتمة
جملة ما أعلاه أنه لا تزال بعض الاعتبارات تلعب دورًا في تحديد مخرجات الحرب بين إسرائيل وبين حماس، علاوة على تأثير تلك الاعتبارات على متغيرات الانتخابات الرئاسية الأمريكية نوفمبر 2024م، وعملية صنع القرار لدى المسؤولين الأمريكيين.
ولهذا يبدو جليًا أن إدارة بايدن غير مستعدة للانخراط في حرب في عام انتخابي لا يمكن أن يلبي التوقعات. على الرغم من وجود مخاوف تجاه تأثير اللوبي الإسرائيلي على الانتخابات الرئاسية، واتهام الأخير إدارة بايدن بعدم تقديم الدعم الكافي لإسرائيل. من أجل هذا ليس بعيدًا أن يتحول الهدف الأمريكي نحو تقويض أمد الحرب، والبدء في جهود جادة لإنهائها.