مع تداول بعض التقارير الإعلامية الغربية، خصوصًا صحيفة ذا تليجراف البريطانية، عن احتمالية تخلي إيران عن دعم الحوثيين لتجنب دخول حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم تُصدر طهران أي تصريح رسمي بهذا الشأن. لأن مثل هذا الإعلان، وإن حدث، سيمثل تراجعًا خطيرًا عن عقيدة رسمية طالما أكدها المرشد الأعلى الإيراني، وركيزة أساسية في سياسة إيران الخارجية والأمنية.
الأهمية الإستراتيجية للحوثيين
يمثّل الحوثيون ورقة ضغط إقليمية مهمة لإيران، ووسيلة مباشرة للتأثير في أمن الطاقة العالمي والممرات البحرية الحيوية. والتخلي عن هذه الذراع من شأنه أن يُفقد طهران أحد أهم أدواتها التفاوضية، ويقوّض قدرتها على الردع غير المباشر ضد واشنطن وتل أبيب.
كما أن رواية تخلي إيران عن دعم الحوثيين، تفتقد للمنطق السياسي والواقعي، والسبب:
ــ ستكون بمثابة تكذيب مباشر لخطابات المرشد الأعلى للثورة “علي خامنئي” الذي أكد مرارًا دعم بلاده الكامل لمحور المقاومة.
ــ فقدان إيران أذرعها الإقليمية يعني خسارة إستراتيجية كبرى لا يمكن تعويضها، ويفقدها أوراق الضغط الأساسية التي تملكها.
ــ فقدان المصداقية أمام الرأي العام الإقليمي والدولي، خاصة جمهور إيران الثوري ومؤيدوها في لبنان والعراق واليمن.
وبالتالي، لا تحتمل هذه الرواية سوى تأويل واحد، وهو فرض مزيد من العزلة الإقليمية على إيران عبر سياسة الضغط القصوى، والترويج لفكرة التخلي الكامل عن محور المقاومة، بحيث تصبح طهران وحيدة في صدامها مع الولايات المتحدة، ولن يكون أمامها سوى الرضوخ لمطالب التاجر الأمريكي.
السلوك الإقليمي لإيران
في ضوء مطالبة الخارجية الايرانية المجتمع الدولي بإدانة تهديدات ترامب باستخدام العنف ضد طهران، ووصفها بـ”الخطيرة”، ثم توسيع الولايات المتحدة ضرباتها على مواقع الحوثيين لتشمل محافظة ذمار وسط اليمن، إلى جانب استهداف مواقع عسكرية أخرى في صعدة شمالي اليمن، بعد ساعات قليلة من تقرير ذا تليجراف البريطانية، بدأت مؤشرات جديدة من الضغوط الأمريكية، تستهدف إعادة ضبط السلوك الإقليمي لإيران من خلال استهداف أحد أبرز أذرعها في المنطقة.
في الواقع، ومنذ انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في عام 2018، تبنّت إيران سياسة توسع إقليمي وتقدم نووي محسوب، معتمدة في ذلك على دعمها لما يُعرف بـ”محور المقاومة”، الذي يشمل قوى سياسية ومسلحة في اليمن ولبنان والعراق وسوريا وفلسطين.
وقد مثّل الحوثيون أحد أهم أذرع هذا المحور، خصوصًا في ما يتعلق بتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في البحر الأحمر. ولا شك أن التصعيد الأخير جاء في وقت حساس للغاية، إذ تتزامن العمليات الأمريكية في اليمن مع:
ــ تصاعد التوتر الإقليمي على خلفية الحرب الإسرائيلية العدوانية في غزة.
ــ ضغوط داخلية على إدارة ترامب بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل.
ــ خلافات عميقة بين واشنطن وبين شركائها الأوروبيين حول تقاسم الأعباء الأمنية والاقتصادية.
ولهذا، تُظهر المعطيات الميدانية والدبلوماسية أن الضربات الأمريكية ضد الحوثيين ليست فقط ردًا عسكريًا على الهجمات البحرية، بل هي جزء من سياسة ضغط موسّعة تهدف إلى:
ــ تقويض النفوذ الإقليمي لإيران.
ــ إجبار طهران على التفاوض المباشر وفق شروط أمريكية جديدة.
ــ إعادة طمأنة الحلفاء الإقليميين والدوليين بشأن حدود البرنامج النووي الإيراني.
المخرج الإيراني أمام الضغط الأمريكي
بنت إيران في السنوات الأخيرة شراكات إستراتيجية مع روسيا والصين، أبرزها اتفاقيات التعاون الشامل التي شملت البنية التحتية والطاقة والدفاع.
ومن غير المرجح أن تتخلى موسكو وبكين عن دعم إيران في مواجهة الضغوط الأمريكية، طالما أن ذلك لا يمس مصالحهما المباشرة في الخليج.
في المقابل، يضعف الضغط المتزايد من اللوبي الصهيوني على إدارة ترامب داخليًا بسبب الموقف من غزة، وبرنامج إيران النووي، وسياساته المتوترة مع أوروبا (بما في ذلك فرض أعباء مالية على الحلفاء) من وحدة الجبهة الأمريكية، ويدفع الإدارة للبحث عن إنجاز خارجي سريع، مثل ضبط سلوك إيران، لاستعادة توازنها السياسي والدبلوماسي، والذي من غير المرجح أن يؤتي ثماره.
السيناريوهات المحتملة للموقف الإيراني
من المرجح أن تتخذ إيران آلية دفاعية ضد الضغط الأمريكي، متمثلة في:
ــ التلويح بالخروج من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT)، ووقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ــ استمرار الدعم للحوثيين مع تعزيز القدرات العسكرية لديهم، من دون اعتراف علني مباشر، كآلية لخلق توازن مع الضغوط الأمريكية.
ــ استخدام أوراق بحرية أو نووية بشكل محسوب لخلق أزمة طاقة عالمية تُجبر المجتمع الدولي على دفع واشنطن للتهدئة.
ــ خيار المفاوضات حال بلوغ الضغوط حدًا يهدد باندلاع حرب مباشرة، قد تضطر إيران للدخول في مفاوضات، لكنها ستسعى لتأجيلها لأبعد نقطة زمنية ممكنة ريثما تستعيد بعض التوازن الميداني.
خاتمة
جملة ما أعلاه، أنه لا يمكن فهم التصعيد العسكري الأمريكي الأخير في اليمن بمعزل عن الإستراتيجية الأشمل لواشنطن في الضغط على طهران. ومن غير المرجح أن تتخلى إيران عن الحوثيين أو محور المقاومة، نظرًا لما يشكله من امتداد جيوسياسي حيوي.
وفي المقابل، فإن التصعيد الأمريكي، برغم شدّته، لا يبدو متجهًا نحو حرب مباشرة، بل يستخدم كأداة ضغط تكتيكي لدفع إيران إلى التفاوض النووي وفق شروط تضمن مصالح إسرائيل وتمنح ترامب انتصارًا سياسيًا سريعًا في الداخل الأمريكي.
توصيات
في ظل تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، يتعين على مصر العمل على تعزيز موقفها الإستراتيجي الإقليمي عبر التنسيق مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين، وتعزيز موقفها الاقتصادي عبر تطوير شراكات مع دول غير غربية مثل الهند، وتركيا، والمشاركة في مشاريع دولية، بما يساهم في تقليل التأثير الأمريكي على مصالحها.
إن كلا من الدولتين، مصر وإيران، يمكنهما تحريك سياساتيهما في ظل هذا التوتر الكبير عبر موازنة الضغوط الأمريكية بحذر، مع الحفاظ على إستراتيجيات إقليمية قوية تُحسن من موقفيهما في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية.