تصدر خبر وفاة محمد مرسي مانشيتات الصحف الإيرانية الرسمية الصادرة في يومي الثلاثاء 18 يونيو والأربعاء 19 يونيوالجاري، كما نشرت الصحف سيلا من التحليلات السياسية كتبها عدد من الباحثين والمحللين الإيرانيين البارزين، حول أسباب سقوط حكومة الإخوان في مصر وقيام ثورة 30 يونيو 2013م، ومثلت تلك العناوين بكائية مؤجلة على الرئيس المعزول الذي كان بارقة الأمل الوحيدة لإيران لاستعادة علاقاتها المقطوعة مع أهم دولة عربية.
فمن جانبها كتبت صحیفة “سازندگی“: “الإخوان في عزاء الأخ.. وفاة أول رئيس مصري منتخب في المحكمة”، وكتبت صحيفة “كيهان”: “مرسي أحدث ضحايا الوثوق بأمريكا”، وكتبت صحيفة “سياست روز”: “مصير مرسي هو نتيجة الثقة بالغرب.. نهاية ثورة 25 يناير التي انحرفت عن مسارها.. الوفاة المشكوك فيها في محكمة صورية؟!” وكتبت صحيفة “جام جم”: “مصير مرسي رئيس مصر المخلوع يتشابه مع مصير محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني”، وكتب المحلل السياسي الإيراني “مِهرداد خدير” في صحفية “عصر ايران” تحليلاً بعنوان: “الرجل الذي لم يكن بازرجان أو أردوغان، النهاية المأسوية لمحمد مرسى”.
مرسي في الصحف الإيرانية
لقد وصفت الصحف الإيرانية خلال تلك المقالات محمد مرسي بأنه أول رئيس مصري منتخب، والرئيس الشرعي للبلاد، وجعلت منه رمزا للزعامة والنضال الوطني، وشبهته بعدد من ساستها البارزين قبل الثورة الإسلامية وبعدها أمثال محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني في عهد الشاه “محمد رضا بهلوي”، و”مهدي بازرجان”، أول رئيس وزراء إيراني بعد الثورة الإيرانية عام 1979م، فضلاً عن تشبيهه بـ”رجب طيب أردوغان”، الرئيس التركى، وكلاهما من أبناء “عشيرة واحدة”.
صحيفة سياست روز قالت إن مصير مرسي هو نتيجة الثقة بالغرب
كما شككت أغلب هذه الصحف في وفاة مرسي بصورة طبيعية، وأرجعت سبب الوفاة إلى الإهمال الطبي والمعاملة السيئة التي لاقاها في السجن. وبالإضافة إلى ذلك عبر عدد من ساسة إيران، من خلال حساباتهم الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، عن بالغ حزنهم لوفاة مرسي أمثال “عباس موسوي”، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، و”حسين أمير عبد اللهيان، المستشار الخاص لرئيس البرلمان الإيراني، و”مجتبي أماني”، الرئيس الأسبق لمكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة.
لمَ تدافع الحكومة الإيرانية عن مرسى؟!
إن هذه الصحف التي دافعت عن مرسي بشكل كبير، وراحت تسوق مبررات عدة لفشله السياسي، وأرجعت أسباب سقوطه إلى ثقته بالأمريكيين، وعدم تغير سياسته إزاء إسرائيل، تطرح تساؤلا لمَ أبدت الحكومة الإيرانية كل هذا الدعم للإخوان؟! ولمَ جعلت من مرسي رجل الساعة، وشبهته بساستها قبل الثورة وبعدها؟! خاصة أن وفاة مرسي قد حدثت في أثناء محاكمته في قضية التخابر مع عدد من الأجهزة الأمنية التابعة لبعض دول المنطقة، ويأتي في مقدمتها “الحرس الثوري الإيراني”.
كل هذا يدعونا إلى إعادة قراءة العلاقات المصرية ـ الإيرانية في زمن الإخوان، وتحليل أوجه التشابه بين حكومة الملالي الشيعية وحكومة الإخوان السنية، فهذا التضاد المذهبي الذي قد يبدو واضحاً للقاصي والدانى، هو نفسه مصدر التقارب بين الطرفين، فكل من الحكومتين تقومان على مبدأ واحد، ألا وهو حكم المرشد الأعلى.
ثورة 25 يناير من وجه نظر الحكومة الإيرانية
مع وصول جماعة الإخوان – المحظورة حالياً – إلى سدة الحكم في مصر عام 2012م، دخلت العلاقات المصرية الإيرانية مرحلة جديدة، اتسمت بالتقارب والتوافق المتبادل بين رأسي السلطة في الدولتين آنذاك، الرئيس المخلوع “محمد مرسي” والرئيس المحافظ “محمود أحمدي نجاد”، ففي مصر تداولت الأروقة السياسية لأول مصطلح “المرشد العام” لجماعة الإخوان الذي يأمر، فيطاع من قبل الجميع بمن فيهم رئيس الدولة، وهو ما يقابل منصب “المرشد الأعلى” للثورة في إيران، أي إن البلدين قد أصبحا تحت قيادة دينية لا تختلف كثيراً عن بعضها بعضاً.
وفاة أول رئيس مصري منتخب في المحكمة
والحقيقة أن إيران في صدارة الدول أو بالأحرى تكاد تكون الدولة الأبرز التي سعت بشتى الطرق إلى إضفاء صبغة دينية على الاحتجاجات الشعبية التي جرت في مصر في 25 من يناير عام 2011م، ووصفتها بأنها “صحوة إسلامية” أو كما يقال بالفارسية “بيداري اسلامى”، وامتداد طبيعي للثورة الإسلامية في إيران عام 1979م.
ومصطلح “الصحوة الإسلامية” هو المصطلح الذي مازالت تستخدمه وسائل الإعلام الناطقة باسم الحكومة الإيرانية، وتعمل على الترويج له حتى لحظة كتابة هذه السطور، لإضفاء صبغة دينية ليس على ثورة 25 يناير فحسب، ولكن على كل ثوارت الربيع العربي التي حدثت في المنطقة، في محاولة من تلك الدولة لإضفاء صفة الزعامة على نفسها وقيادة دول المنطقة في ركابها.
تصريحات إيران عن ثورة 25 يناير
نستطيع أن نلمس هذا الأمر في عدد من التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الإيرانيين خلال احتجاجات 25 يناير، حيث قال “رامين مهمانپرست” المستحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية آنذاك عن الحراك الشعبي في مصر: “إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنتظر من مسؤولي الحكومة المصرية الحيلولة من دون وقوع أي شكل من أشكال الاصطدام العنيف لقوات الأمن والشرطة مع موجة الصحوة الإسلامية التي تجتاح البلاد في صورة يقظة شعبية”. وصرح “علي لاريجاني” رئيس مجلس الشورى الإيراني أن منطقة الشرق الأوسط تشهد تحولاً غير مسبوق في أعتاب ذكرى “الثورة الإسلامية الإيرانية”.
ثم جاء تصريح المرشد الأعلى للثورة “علي خامنئي” في إحدى خطب الجمعة التي أكد فيها أن الحراك الشعبي في مصر وتونس له معنى مهم للأمة الإيرانية، لأنه يعد “هزات ارتدادية للثورة الإسلامية في إيران”.
قالت جريدة كيهان المملوكة للمرشد إن مرسي أحدث ضحايا الوثوق بأمريكا
إن هذه التصريحات وأمثالها التي روجت لها رؤوس السلطة في إيران، كانت محاولة منها، لإضفاء صبغة دينية على ثورة 25 يناير، ولتمكين الجماعات الإسلامية المتطرفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان، من مقاليد الحكم في مصر، لما يحمل ذلك من مصالح متبادلة بين الطرفين، وهو ما جعل “أحمد أبو الغيط” الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية المصري آنذاك، أن يصرح بأن ثورة 25 من يناير قد شاركت فيها كل التيارات والأحزاب السياسية والأطياف الشعبية المختلفة، بما فيها التيارات الدينية، وأن تلك الثورة هي ثورة مدنية وليست دينية.
مساعي التقارب بين إيران الإخوان
على أية حال يمكن القول إن العام الذي حكم فيه الإخوان شهد عدداً من المحاولات المتبادلة بين رأسي السلطة في الدولتين لإعادة العلاقات بينهما، فبعد قطيعة دائمة 36 عاماً منذ آخر زيارة للزعيم الراحل “محمد أنور السادات” إلى إيران كانت زيارة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى طهران في أغسطس عام 2012م، لتسليم الرئيس الإيراني أحمدي نجاد رئاسة “منظمة دول عدم الانحياز” التي كانت ترأسها مصر في ذلك الوقت. وخلال هذه الزيارة اتفق الرئيسان على رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين مصر وإيران إلى درجة تبادل السفيرين، كما أعربا عن رغبتيهما في عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وقد سبق هذه الزيارة لقاء الرئيسين المصري والإيراني خلال “القمة الإسلامية” في الرياض التي دعا إليها العاهل السعودي، حيث لفت العناق الحار بين مرسي ونجاد أنظار الحضور، كما سبق زيارة مرسي إلى طهران عدد من التصريحات الإيجابية التي أدلى بها، وتحدث خلالها عن الشراكة مع إيران وحقها في امتلاك الطاقة النووية. وفي المقابل بدا التطلع الإيراني لإقامة علاقات مع مصر بعد صعود جماعة الإخوان إلى السلطة، من خلال التصريحات التي أدلى بها نجاد، وأعرب خلالها عن استعداده لزيارة مصر إذا وجهت له الدعوة بذلك.
على هذا جاءت زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى القاهرة في فبراير عام 2013م، للمشاركة في القمة الإسلامية التي عقدت في القاهرة آنذاك، بحكم أن مصر وإيران عضوتان في منظمة المؤتمر الإسلامي.
رأت صحيفة جام جم أن مصير مرسي رئيس مصر المخلوع يتشابه مع مصير محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني
وعد هذه الزيارة أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس إيراني لمصر منذ 34 عاماً، بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، وإعلان “الخميني” قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر على إثر توقيع اتفاقية “كامب ديفيد”. وقد وصف البعض زيارة أحمدي نجاد بالتاريخية، واعتبرها البعض الآخر أولى خطوات تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران، وأعرب نجاد قبل مغادرته طهران والتوجه إلى القاهرة، عن أمله في أن تمهد زيارته الطريق أمام استئناف العلاقات بين البلدين، وقال صراحة: “سأحاول فتح الطريق أمام تطوير التعاون بين إيران ومصر”.
دوافع تعزيز العلاقات بين إيران والإخوان
أولا: تسعي إيران من عدة عقود إلى تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، لما يتمخض عن ذلك من مكاسب سياسية واقتصادية ثمينة لها، ومن فترة لأخرى تبدي الحكومات المتعاقبة في إيران استعدادها لاستئناف علاقاتها مع مصر، إذا ما ودت مصر ذلك. وقد اقتربت إيران من هذا الهدف، بعد قيام ثورة 25 من يناير وصعود جماعة الإخوان إلى رأس السلطة، والحقيقة أن عودة العلاقات بين مصر وإيران كانت ستحقق مكاسب عديدة لإيران على كل الأصعدة، وخاصة السياسية، فإيران كانت تريد الاستقواء بمصر والاستفادة من نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وعلاقاتها المتوازنة مع القوى العظمى، خاصة أن إيران كانت ومازالت تعاني من مشكلات اقتصادية عديدة جراء العقوبات الأمريكية والضغوط الدولية بسبب برنامجها النووي، بالإضافة إلى ذلك مع توافق الرؤى بين مصر وإيران حول أزمات المنطقة، وبالأخص الأوضاع في سوريا والعراق ولبنان، سيمهد ذلك الطريق لتعزيز النفوذ الإيراني في دول المنطقة، وتحولها مع مرور الوقت إلى قطع بازل puzzle في أيدي الإدارة الإيرانية، لتعيد تركيبها كيفما تشاء، وبما يتناسب مع مصالحها الشخصية، وبالتالي تخفيف الضغوط الأمريكية عنها.
ثانيا: إن عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران، كانت خطوة رئيسة لانطلاق مشروع “الشرق الأوسط الإسلامي” الذي كانت تحلم به جماعة الإخوان وكذلك إيران، فالإخوان كانوا يريدون شرق أوسط إسلاميا، يتزعمونه ويستغلونه لخدمة مشروعهم التوسعي، القائم على دعم الجماعات المسلحة في المنطقة واستخدامها كورقة ضغط ضد كل من يعارضهم في المنطقة أو لا يتفق مع مصالحهم الشخصية، وإن كان ذلك بطبيعة الحال لن يخلو من تبعية غربية، وخاصة أن صعود الإخوان للسلطة تم بإيعاز أمريكي ـ أوروبى، على أن يتم ذلك تحت غطاء ديني يبرر كل ما هو يخالف الأصول الدولية باسم الدفاع عن الإسلام، وهي الحجة نفسها التي تتخذها إيران لتبرير كل أفعالها التخريبية في المنطقة. أما إيران فكانت تريد قيادة دول المنطقة لخدمة أهدافها التوسعية، ومد نفوذها في دول الخليج العربى، ونشر المذهب الشيعى، فمع عودة العلاقات مع مصر لما لها من ثقل في العالم العربي ودور محوري في تسوية معظم قضاياه، تستطيع إيران النفاذ بسهولة إلى قلب المنطقة العربية من أوسع أبوابها، لذا سعت إيران منذ قيام ثورة 25 يناير إلى أن تروج إعلامياً في الداخل والخارج بأن هذه الثورة جاءت بإلهام من الثورة الإسلامية وانعكاساً لها.
ثالثا: لم يكن متوقعا أن يؤتي مشروع الشرق الأوسط الإسلامي من وجه نظر الإخوان أو إيران ثماره على أي حال من الأحوال، حتى مع استمرار الإخوان في السلطة، لأن كلا من الطرفين كان سيسعي لفرض نفوذه على دول المنطقة والسيطرة عليها، ولن يسمح للطرف الآخر بتحقيق أية مكاسب على حساب مصالحه الشخصية، وبالتالي كانت أغلب دول المنطقة ستتحول إلى ساحة حرب غير معلنة، يدور فيها الصراع بين الإخوان وإيران من ناحية، وبين الدول الكبرى التي تسعى إلى فرض نفوذها هي أيضاً من ناحية أخرى، ما كان سيسفر عنه ظهور موجات متتابعة من العمليات الإرهابية بدعم من الأطراف السابقة، بهدف تدمير بعضهم بعضاً.
رابعا: مع سقوط جماعة الإخوان بقيام ثورة 30 يونيو 2013 يكون قد أسدل الستار على واحد من أخطر فصول العلاقات المصرية ـ الإيرانية، فعودة العلاقات بين البلدين وخاصة في تلك المرحلة الدقيقة، كان سيسفر عنه نتائج كارثية على المنطقة بأكملها، ففي ظل حكومة دينية متشددة في كل من البلدين، تسعى لخدمة مصالحها الشخصية والفصيل الذي تنتمي إليه فحسب، دون النظر إلى الأمن القومي للدول وتوازن القوى في المنطقة، كانت ستتحول منطقة الشرق الأوسط بحق إلى مرتع للصراع بين السنة والشيعة، وبالتالى فتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول، بذريعة تحجيم دور التيارات الدينية المتشددة ووأد الفتن المذهبية، فيما يعرف بمجابهة الهلال الشيعي بزعامة إيران، وهي الصفقة الكبرى التي تعمل على إتمامها أمريكا منذ عقود طويلة.