أدت العقوبات الأمريكية على إيران في صورتها الحالية خاصة بعد قرار عدم تمديد السماح بالتعامل النفطي مع طهران بدءا من إبريل الماضي إلى مشاكل كبيرة في الموازنة؛ ما أدى إلى زيادة أسعار الوقود ثم انفجار الوضع وقيام ما اصطلح على تسميتها بـ”انتفاضة البنزين“، ومن خلال العناصر التالية نحاول تحري الحقائق المجردة عن طريق تتبع كرونولوچيا Chronology الأحداث، وتحليلها ووضع تصور محدب لمستقبلها.
1 ــ في 23 سبتمر الماضي أعلن رئيس منظمة التخطيط والموازنة العامة الإيرانية، محمد باقر نوبخت، أن مشروع موازنة السنة المالية الفارسية الجديدة لن يتضمن عائدات النفط، المتدهورة.
2 ـ تبدأ السنة المالية الفارسية في يوم 21 مارس من العام الميلادي، ومعنى أنها لن تتضمن عائدات النفط أن الموازنة ستعاني من عجز فادح.
3 ـ يوم الثلاثاء 12 نوفمبر قال الرئيس حسن روحاني في خطابه من محافظة كرمان “إنه من الصعوبة بمكان إدارة شؤون البلاد في ظل هذه العقوبات”.
4 ـ ركز روحاني في هذا الخطاب المفصلي على عبارات تنطوي على أنه رئيس غير محظوظ؛ لأنه منذ أربعين عاما وبرغم العداء الإيراني ـ الأمريكي كانت البلاد تتمكن من بيع النفط، لكنها اليوم في ظل رئاسته لا تتمكن من بيع النفط بعد عقوبات ترامب المشددة.
5 ـ تبيع إيران الآن 150 ألف برميل يوميا فقط بعد أن كانت تبيع قبل العقوبات 2 مليون و200 ألف برميل، وكانت تخطط لزيادة الإنتاج والمبيعات حتى تصل إلى 3 ملايين و700 ألف برميل.
6 ـ هذا التدهور الرهيب في مبيعات النفط على خلفية استراتيجية “تصفير النفط” التي انتهجتها إدارة ترامب؛ أدى إلى عجز فادح في الموازنة التي يتم إعدادها، وهذا هو سبب انتفاضة البنزين الحالية وجوهر المشكلة.
7 ـ في كرمان قال الرئيس روحاني إنه سيصدر قرارات بزيادة الضرائب على المواطنين ورفع أسعار البنزين وباقي المحروقات، لتعويض عجز الموازنة.
8 ـ نعود مع حسن روحاني شهر واحد إلى الوراء. ففي 16 أكتوبر الماضي دعا روحاني إلى إجراء استفتاء شعبي عام لـ”تحديد مسار السياسات العامة للبلاد”.
9 ـ فُهم من دعوة روحاني أن هناك اختلافات جذرية بين تيارات سياسية داخلية حول التفاهم أو التسوية مع الولايات المتحدة. بمعنى آخر: أراد روحاني القول إنه من المستحيل أن يحكم البلاد في ظل هذه العقوبات، وأنه يريد التفاهم مع ترامب ويريد الاحتماء بالشعب، إزاء تنمر القوى الداخلية المتشددة.
10 ـ قال روحاني بعبارة صريحة “إنه لا يتعين على إيران أن تنأى بنفسها عن العالم الخارجي ويجب عليها أن تأخذ في الاعتبار حقائق القرن الحادي والعشرين”، ما يعني أولا: اعترافه بتأثير العقوبات الأمريكية ووضع أمريكا في النظام الدولي، وثانيا: رفضه الاعتماد على مبدأ “الاقتصاد المقاوم” والاستغناء عن بيع النفط الذي يريد خامنئي الالتزام به. وثالثا: أراد روحاني التعبير عن أن سياسة المرشد تتناسب مع العصور الوسطى وليس مع عصر العوملة وثورة المعلومات والاتصالات.
11 ـ فُهم أيضا أن هناك قوى داخلية وعلى رأسها الحرس الثوري والمرشد بالتأكيد، لا تريد بتاتا العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهنا نقطة ضعف ستواجه روحاني بعد قليل.
12 ـ في نهار الخميس 15 نوفمبر أصدرت الحكومة قرارها فجأة بزيادة أسعار المحروقات 300 في المئة. وبعد ساعات في مساء الخميس/ ليلة الجمعة خرجت المظاهرات للتنديد بالقرار الحكومي.
13 ـ الزيادة الجديدة في أسعار الوقود تعني ارتفاعه ثلاثة أضعاف ليصبح سعر لتر البنزين العادي المدعوم حكوميا 15 ألف ريال (أي ما يعادل: 45 سنتا من الدولار)، وسعر البنزين العادي غير المدعوم 30 ألف ريال (أي ما يعادل: 90 سنتا من الدولار) لكل لتر، فيما أصبح سعر لتر البنزين السوبر 35 ألف ريال (أي ما يعادل: دولار و5 سنتات).
14 ـ استغلت التيارات السياسية المعارضة لأفكار روحاني المتعلقة بالاستفتاء وخلافه (محمد حسين لطفالهی نموذجا) تلك المظاهرات للطعن في نجاح الحكومة إزاء إدارة شؤون البلاد الاقتصادية، لكن كالعادة: خرج الأمر عن السيطرة كما هو الحال في مظاهرات ديسمبر 2017، وازدادت رقعة التظاهرات ورفع المتظاهرون سقفهم.
15 ـ يوم الاثنين 18 نوفمبر خرج خامنئي وأيد قرار الحكومة برفع أسعار البنزين وقال إنه لا يفهم في هذه الأمور الاقتصادية، وبالتالي وضع الحكومة والنظام برمته في مواجهة المجتمع.
16 ـ من الصعب حاليا التنبؤ بمصير هذه المظاهرات؛ لأن المؤسسات الأمنية الإيرانية لديها القدرة (نظريا) على كبح أو “قمع” أي حركة احتجاجية، كما أن الشعب الإيراني لديه القدرة (عمليا) على الاستمرار في حراكه، وهو معروف تاريخيا بعناده وصلابته ومعروف كذلك بالإبداع في طرق الاعتراض السياسي.
17 ـ أغلب الطرق المبتكرة في الاحتجاجات السياسية بالشرق الأوسط بالتاريخ الحديث والمعاصر كانت إيرانية المنبع، ومنها: الثورة عن طريق شرائط الكاسيت التي ابتكرها الخميني في عام 1978، وكتابة الشعارات السياسية المناهضة للحكومة على العملات الورقية التي ابتكرها مير حسين موسوي عام 2009، والمظاهرات الليلية التي ابتكرها متظاهروا انتفاضة ديسمبر 2017، وأخيرا: تعطيل السيارات في وسط الشوارع نوفمبر 2019.
18 ـ أهدر النظام الإيراني فرصة ذهبية لتحسين وضعه بعد أن أفشل الوساطات الدولية (اليابانية والفرنسية) وكان يمكنه أن يعود إلى مفاوضات مع الولايات المتحدة محفوظ ماء الوجه، خاصة بعد أن امتدح ترامب النظام وقدم له كارت العودة إلى الطاولة. وقال إنهم “أناس جيدون”.
19 ـ الصراع الدائر الآن في طهران ليس بين الحكومة والمجتمع فقط، بل بين كتلتين في دوائر صنع القرار، الأولى: ترى بضرورة التحلي بالواقعية وتهدئة الأجواء مع الولايات المتحدة الأمريكية، والثانية: تريد المضي قدما في مواجهة المجتمع الدولي، وهي طريقة يمكن وصفها بـ”العملية الانتحارية البطيئة”.
20 ـ عملت بعض القوى المحافظة الداخلية ـ على قدم وساق بشكل ممنهج ـ على إضعاف روحاني والطعن في نزاهته من خلال استثمار قضية الفساد الخاصة بشقيقه حسين فريدون الذي أدين وسجن في قضايا فساد يوم 16 أكتوبر الماضي ووقائع سابقة كثيرة، خاصة أنه كان مستشارا في الرئاسة وكان أحد أعضاء فريق المفاوضات النووية 2013 ـ 2015.
21 ـ أدت تلك السياسات من جانب الحرس الثوري إلى انتقادات لاذعة من بعض السياسيين لتلك المؤسسة والدفاع باستماتة عن روحاني (السياسي الإصلاحي سيد مصطفى تاج زاده نموذجا) وحضه على العمل وفق سياسة “أقصى شراكة” في مواجهة “أقصى عقوبات”.
22 ـ بدأت انتفاضة البنزين الراهنة لأسباب اقتصادية لكنها سرعان ما تحولت إلى شعارات سياسية تتعلق بالسياسة الخارجية للبلاد ومنها: “اترك غزة وفكر فينا” و”لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران”، ما يعني أن الاقتصاد هو عرض بينما المرض يكمن في السياسة الخارجية للبلاد، من وجهة نظر المتظاهرين.
23 ـ أهم من يميز هذه الانتفاضة أنه للمرة الثانية منذ أربعين عاما (بعد انتفاضة ديسمبر 2017) تخرج كل القوميات معا في آن واحد رفضا لسياسات النظام، ففي أغلب الانتفاضات السابقة كانت القومية الفارسية في المركز تثور بينما تقف القوميات الأخرى على الحدود في موقف المراقب فقط، والعكس.
24 ـ للمرة الثانية في التاريخ الحديث يصدر العرب أفكارهم الثورية إلى إيران، فقد استلهم محمد مصدق أفكار ثورة 1952 المصرية، كما استلهم الخميني أفكار الثورة نفسها في حركته الاحتجاجية التي بدأت في 15 خرداد 1342ش، (5 يوليو 1963م) وانتهت بإسقاط الشاه في 16 يناير 1979. واليوم يصدر العراقيون واللبنانيون ثورتهم إلى دولة احترفت تصدير الثورة خلال أربعين عاما.
25 ـ يكرر النظام الحالي أخطاء الشاه الاستراتيجية بالحرف الواحد، كما لو كان لم يقرأ التاريخ أو كما لو كان لم يصنع التاريخ بنفسه، وعليه ليس مستبعدا أن يواجه نظام “ولاية الفقيه” مصير الشاه، طال ما تبقى من عمره الافتراضي أم قصر.