تتشابك العوامل السياسية والإنسانية في دراما التاريخ، والكاتب في سرده للوقائع يغطي مساحات الفراغ بما ينسجه الخيال والتمني، خاصة وأن الذاكرة ضعيفة أمام الأيام والأهواء، ولذا فإن تقبل السير الذاتية السياسية والتاريخية على علاتها يُعد استمرارية لخطأ كبير تعيش فيه الأجيال المتعاقبة.
كما يعلو الظاهر في التاريخ السياسي والعام على “ما وقع بالفعل” وفي ذلك أبرز مثال على طغيان الوهم على الحقيقة، فالمؤلفات التاريخية تحتوي على “مرويات” والمحصلة تكون محاكاة التاريخ للأقاصيص في بعض الأحيان خاصة وأن فن صناعة الحقيقة من العدم إن جاز التعبير أو مع وجود خيط ضعيف يتصل بالواقع يُعد في حد ذاته من الحقائق التاريخية على مدار العصور.
فالتاريخ كما هو مُدون يروي كل ما حدث وربما ما لم يحدث من الأساس؛ ما دفع بالبعض إلى القول إنه ربما لبعض الأساطير ظلال من الحقيقة أغرب من أن يتصورها العقل؛ فتم تحويلها إلى أسطورة شعبية، ولعل ما سبق مدخل ضروري لشرح ما سيأتي.
المصاهرة الملكية المصرية ـ الإيرانية 1939 و”مشكلة الحكم”
تُعد المصاهرة الملكية بين مصر وايران التي تمت عام 1939 بين ولي العهد الإيراني محمد رضا بهلوي وبين ابنة الملك المصري فؤاد “الأميرة فوزية” من أبرز الأمثلة التاريخية التي تُشكل مادة تتداخل فيها حقائق التاريخ بالأبعاد الإنسانية و”المرويات” الصحفية.
كذلك تُعد مثالاً واضحاً على مشكلة الحكم الأزلية إن جاز التعبير ما بين “آمال تسطع ورجاء يخبو”، إذ إن الهدف السياسي كان ظاهراً للعيان بوضوح في ضوء المركز السياسي الإقليمي لكل من مصر وإيران آنذاك.
كانت إيران تسعي لكسب حليف قوي في المنطقة العربية في ظل الحرب العالمية الثانية والميول للمحور (ألمانيا ـ إيطاليا) التي اشترك فيها كل من النظامين المصري والإيراني على الرغم من خضوع النظام المصري للاحتلال البريطاني آنذاك (الحلفاء) ومما لا يخفي على أحد أن سقوط شاه إيران رضا خان بهلوي عام 1941م، كان وثيق الصلة بميولة للمحور.
كما أن الفوارق الظاهرية بين مصر وبين إيران في ذلك العهد وبمعايير التقدم السائدة، كانت تختلف عن الوقت الحالي، فكل من مصر وإيران في عصرنا الراهن دولتان كبيرتان لكل منهما سياستها التي تختلف عن الأخرى في الكثير من النواحي السياسية والأيديولوجية، ولكن ليست الفوارق بالطبع مما يمكن مقارنته بالوضع السائد في أواخر الثلاثينيات وسنوات الحرب الكونية الثانية (1939 – 1945).
ومن خلال مذكرات شقيقة شاه إيران “أشرف بهلوي” والتي حملت عنوان “وجوه في المرآة” أشارت في مواضع عديدة منها إلى الفارق الواضح آنذاك بين تطور البلاط الملكي المصري وبين وضع البلاط الإيراني (لصالح الأول) والقيمة السياسية التي حملتها المصاهرة الملكية مع مصر لمصلحة إيران الداخلية (تحمس الجانب المصري كذلك للمصاهرة في ضوء سعي ملك مصر آنذاك لفكرة إحياء الخلافة الإسلامية والحصول على حليف إسلامي في ذلك الوقت هو إيران بطبيعة الحال).
كذلك أشار الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في كتابة الشهير “مدافع آية الله” إلى دلالة المصاهرة الملكية بين البلدين وكيف أنها كانت في بدايتها حلقة من حلقات السعي إلى ربط مصر من خلال “المصاهرة الملكية” بعدد من العروش والنظم الملكية العربية في المنطقة “عن طريق عقد زيجات بين شقيقات الملك المصري والعائلات الملكية العربية في ذلك الوقت، وهو ما لم يتم في الواقع فيما بعد.
كما أشارت مذكرات عادل ثابت، وهو أحد اقارب الملك المصري من جهة الأم (الملكة نازلي فؤاد) إلى انطباعات عن إيران في بداية الأربعينيات من القرن الماضي تعطي انطباعاً عن الفوارق المعيشية والحياتية بين البلدين، وقد أوضح تحفظ الملكة نازلي وقتها بشأن المخاوف التي ساورتها حيال معيشة الأميرة في هذا “البلد القديم” على حد تعبيرها كما ورد في المذكرات المشار إليها.
لا جدال على أن إيران حققت تطورات سياسية وحضارية ومعيشية في العقود التالية بالمقارنة بالحقبة التاريخية محل الحديث.
ومما لا شك فيه أن المصاهرة لم تحقق الطموحات التي راودت الملك المصري في ذلك الوقت كما أن الشاه الكبير “رضا بهلوي” تمت الإطاحة به كما سبقت الإشارة في أوائل الأربعينيات، وذلك لأن السياق الدولي في كل عصر أعمق وأكثر صعوبة من أن يتم التخطيط له بين الدول من خلال أسس شخصية قد تحقق المصلحة السياسية المرجوة أو لا تحققها.
التاريخ بين فخ الرواية الصحفية وجفاف الدراسات الأكاديمية
يمكن النظر إلى المصاهرة الإيرانية ـ المصرية على أنها نموذج للحدث التاريخي (سواء كان بعيد الأثر أو محدوده) الذي يقع ما بين الرواية الصحفية التي تحمل طابع التشويق والتي قد ينجذب إليها الكثيرون من المهتمين وغير المهتمين بالتاريخ على حد سواء نتيجة للأسلوب الذي يتبعه هذا الفرع من الكتابة، وبين الكتابة الأكاديمية التي تحمل طابعا “جافا نسبياً” لا يستهوي إلا القليل من الباحثين في المجال ذاته والقراء لهذا النوع الجاد من الكتابات.
ويزداد الأمر حدة في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات التي قامت بإتاحة المعلومة “فوق ما هو مطلوب” على نحو يصعب التمييز فيه بين الغث والسمين وعلى نحو يساوي ظاهرياً بين القارئ الجاد والباحث عن وسيلة لتمضية وقت فراغ في متابعة معلومات معينة، كما تتجاوز وفرة المعلومات الزائدة قدرة العقل الطبيعي على التحليل كما هو معروف.
وإذا ما اتخذناً أحد النماذج في الكتابات التي تجمع بين التاريخ والسيرة الذاتية ما رواه المستشار الصحفي للملك المصري خلال فترة الأربعينيات منذ 1942 وحتى 1952 “كريم ثابت”، فهو ذو خلفية صحفية واضحة من خلال عمله في جريدة المقطم التي كانت تعتبر لسان حال الاحتلال البريطاني آنذاك، ويمكن الرجوع إلى مذكراته والاطلاع على ما رواه عن خلفية انفصال الشاه عن الإمبراطورة المصرية والمعاملة غير اللائقة من حيث البروتوكول المتبع التي تعرضت لها الحاشية الإيرانية عند حضورها لمصر برفقة الإمبراطورة المصرية زوجة الشاه عندما بدأ الملك المصري فاروق في التمهيد للانفصال المشار إليه طبقاً لرواية الصحفي المقرب من الأحداث.
يتخذ السرد سمة تجمع بين الخيال والواقع، في سياق لا يؤخذ على علاته إذا ما تم الحكم عليه من المنظور السياسي والإنساني على حد سواء، ومما يؤسف له أن تلك المذكرات صدرت عن معاصر للأحداث حظي بمنزلة تتيح له الاطلاع على مجريات الأمور على نحو لم يكن معروفاً للجميع بالطبع.
ويمكن أن تُقاس الكثير من الذكريات السياسية والتاريخية على هذا المنوال خاصة وأن السير الذاتية الأخرى التي تلتزم بالاتجاه الصارم في السرد البعيد عن الجانب الشخصي، يسهل فيها التزييف على نحو أكثر تأثيراً؛ لأن صرامة السرد قد لا تعطي انطباعاً بزيف الأحداث.
وأخيراً، يمكن تذكر تعليق للكاتب والمفكر المصري الكبير “مصطفي محمود” عندما كان يتحدث عن النسبية في كل شيء في الحياة، وكيف أن تلك النسبية تخضع لها كذلك وقائع السياسة والتاريخ، فالحدث الشخصي العابر طبقاً لما يقول قد يُروى بأكثر من دافع وبتفاصيل متعددة من أشخاص تتباين مصالحهم ودوافعهم، فكيف الحال بالنسبة لوقائع مضت عليها عصور وعقود من الزمان؟!
وربما يمكن القول: “يذهب الإنسان بخيره وشره ولكن تبقي الأساطير”، كما قال نجيب محفوظ.