منذ الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979 مرت السياسة الإيرانية بمراحل صعود وهبوط، استندت على مبادئ النظريات التي تأسس عليها النظام الحالي، فما بين الثيوقراطية المتشددة والبرجماتية النفعية ــ أو بمعنى أدق “البرجماتية الدينية” ــ تتأرجح السياسة الإيرانية تجاه بعض الأزمات السياسية سواء في الداخل أو الخارج، حتى باتت النفعية الإيرانية أنموذجا لفلسفة القفز على الأزمات السياسية وتجاوزها كلما أراد النظام ذلك، أو الوقوف عندها إذا أراد ذلك أيضًا عملًا بمقولة مفادها: “تحتاج بعض الأزمات لأن تتفاقم حتى نتمكن من حلها”.
وتشير المتابعة الدقيقة لمجريات السياسة الإيرانية “المتأرجحة” بين الرفض الإيراني للعلاقات مع “العرب والعجم معًا” وبين الرغبة الجامحة في تأسيس علاقات استراتيجية بين طهران ومحيطها العربي في الأونة الأخيرة إلى اتجاه منظري السياسة الإيرانية إلى سلك طريق “البرجماتية” أو الفلسفة النفعية التي تعمل من خلالها طهران على الوصول إلى مبتغاها وتغيير سلوكها – ولو بشكل مؤقت – للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية بل والاستراتيجية على المدى القريب والبعيد.
ولعل سلوك إيران مؤخرًا والذي تبلور في توقيعها اتفاقًا يقضي بعودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومن قبله رسائل مبطنة ومعلنة مع دولة الإمارات العربية المتحدة وتبادل للزيارات بين البلدين، ورغبتها الجامحة الطامحة لإقامة علاقات مع القاهرة يشكل الاتجاه الإيراني الجديد في فلسفة السياسة الإيرانية التي اتجهت إلى النفعية على الرغم من وجود رئيس ذو خلفية “ُثيوقراطية” على سدة الحكم، وهو ما يشير إلى أن تشدد “الثيوقراطية” لا يعيق مسار البرجماتية السياسية في إيران.
الثيوقراطية والبرجماتية
ولتفسير حالة التشابك بين “الثيوقراطية السياسية” و”النفعية البرجماتية”، فيجب التأكيد على أن إيران خلال رحلتها في وضع أسس بنائها السياسي الشامخ المتمثل في نظرية “ولاية الفقيه” استندت على ما جاء في فلسفة وليام جيمس، وهو الفيلسوف الأمريكي الذي وضع أسس البرجماتية الدينية في مؤلفه الشهير البرجماتية”، وهو الأساس الذي استند عليه منظرو السياسة الإيرانية وفلاسفة النظام الديني خلال محاولات حل العقد السياسية المتشابكة مع العالم الغربي والعربي على حد سواء.
يفسر وليم جيمس البرجماتية الدينية بأنها المرحلة التي يصل إليها أي نظام سياسي ثيوقراطي أراد أن يكون دينه “دينًا تعدديًا يسير نحو التحسن، وهي المرحلة التي يمكن للنظام السياسي فيها أن يرجئ الجانب العقائدي، لأننا لا نعرف حتى الآن على وجه اليقين أي نوع من الدين قد يكون الأفضل على المستوى البعيد”. وفي هذا النص تأكيد من جيمس على أن السياسة هي فن الممكن وأن صديق اليوم قد يكون عدو الغد والعكس صحيح، وبالتالي فالعلاقات السياسية لا يجب أن تستند على عقيدة دينية تشي بضرورة عقائدية لقطع علاقات مع دولة بعينها وإقامة علاقات مع دولة أخرى، منطلقًا في ذلك من الواقع المتغير في عالم السياسة.
ويعود جيمس ويقول: “أنه على السياسي أن يكون مزيجًا من العقول القاسية والرقيقة وكذلك المتطرفة وهو النوع التعددي والأخلاقي للدين في عالم السياسة”. ويذهب جيمس إلى أبعد من ذلك حيث يجعل من البرجماتية السياسية أو الدينية بمعنى أدق حالة تجريبية يلجأ إليها السياسي في مرحلة ما تستوجب أن يدير ظهره إلى عدة أمور قد تعيقه عن الوصول إلى ما يريد وأبرزها: “العادات المتأصلة أو الحلول كلامية التي لا طائل من ورائها أو المبادئ الثابتة والمحدودة أو سياسة الأنظمة المغلقة على ذاتها” والتي لا تسفر عن إنجاز قد يتم تحقيقه في عالم الواقع الفعلي.
برجماتية رؤساء إيران
وبمتابعة مجريات تاريخ السياسية الإيرانية – وعلى وجه التحديد بعد الثورة الخمينية – سيظهر للمتابع كيف نجحت إيران في القفز على بعض مشاكلها السياسية وتحقيق ثغرات وصلت منها إلى تحقيق رغباتها ومصالحها السياسية في عالم الواقع، على الرغم من عدم حدوث تغيير حقيقي في بنية النظام الثيوقراطي، حيث بدأت برجماتية رفسنجاني مثلًا بسماحه الإبقاء على جسور العلاقات في الداخل بين المحافظين والإصلاحيين، وهو ما وفر له نفوذ مقبول صعد به إلى مواقع متفردة، بالإضافة إلى إعلانه خلال فترة رئاسته للدولة الإيرانية عن رغبته في إقامة علاقات مع العرب والحوار كذلك مع الولايات المتحدة الأمريكية لإخراج بلاده من أزمة العقوبات التي فرضت على طهران منذ الثورة مرورًا بحادث السفارة الأمريكية هناك.
وعادت البرجماتية الإيرانية لتصل أوجها بصعود خاتمي إلى الحكم عام 1997، حيث نجح في كسر جدار سميك كان يقف حائلًا بين طهران وجيرانها العرب من ناحية، وبين طهران ومحيطها العالمي والإقليمي من ناحية أخرى.
ومن جانب آخر استخدم خاتمي برجماتيته التي قربته من واشنطن واستفاد من الصدام بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن وبين بروز نجم الجماعات الجهادية السنية آنذاك، حيث استفاد خاتمي من حرب أمريكا على القاعدة في أفغانستان من جانب واستفاد أيضًا من هزيمة النظام البعثي في العراق برئاسة صدام حسين، ما جعل العراق ساحة فارغة ملأها النفوذ الإيراني. كما عقدت إيران مع أمريكا لقاءات سرية وعلنية استهدفت في ذلك الوقت الوصول لاتفاقات لتحقيق مآرب البلدين، من خلال تقاسم المعلومات الاستخباراتية لتسهيل مهمة سقوط الأنظمة المناوئة لإيران وأمريكا في كابول وبغداد، وتسهل أمريكا لإيران تمديد نفوذها في بعض المناطق.
ومؤخرًا .. لم يعد خفيًا على أحد طبيعة التحركات الإيرانية في الإقليم لإقامة علاقات مع الدول العربية كافة، على الرغم من وجود رئيس محسوب على التيار المتشدد، وذلك انطلاقًا من رغبة طهران في التخلص من القيود الأمريكية المتمثلة في العقوبات المفروضة عليها منذ حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالتحديد، وترى في عودة تلك العلاقات محاولة للقفز على ما لديها من أزمات سياسية واقتصادية قد تجعل من أسواق تلك الدول ساحة لبضائع إيرانية تعود بالنفع على اقتصاد طهران، وتجعل من إيران نفسها ساحة لاستثمارات عربية بديلة عن نظيرتها الغربية التي خرجت بعد العقوبات الأمريكية. وهنا تظهر البرجماتية الإيرانية في أبهى صورها، والتي تجعل المصلحة الإيرانية – الاقتصادية والسياسية – هما الأساس في أي علاقة.
خاتمة
برجماتية إيران “الدينية” هي تجربة متفردة في عالم السياسة، فعلى الرغم مما تمتلئ به سطور وصفحات الكتب الدراسية في المقررت الإيرانية عن العرب من شتائم وأوصاف تجعل من الصعب على “المتلقي الصغير” تفسير طبيعة الرغبة الإيرانية في إقامة علاقات مع العرب، إلا أن منظروا السياسة الإيرانيين وفلاسفة السياسة هناك لا يقفون حجر عثرة في سبيل تحقيق بعض المكاسب السياسية من رغبة “مقصودة” في إقامة علاقات ولو “فاترة” مع المحيط العربي إذا كان ذلك في المصلحة الإيرانية من منطلق برجماتية ميكافيللي القائلة: “الغاية تبرر الوسيلة”.
تقوم الفلسفة البرجماتية في الأساس على نسبية القيم وعدم ثباتها، ومن هذا المنطلق يجب التأكيد على أن سير السياسة الإيرانية على البرجماتية يجعل من الصعب ضبط إيقاعها السياسي، وبالتالي فإن إيران تنظر إلى مسألة التقارب الإيراني العربي من مصلحتها هي فقط، وأبرز دليل على ذلك أن ذلك التقارب مهدد بالانهيار بسبب رغبة إيران – على سبيل المثال – في الحصول على مكتسبات من حقل الدرة النفطي وتطلب التفاوض مع الكويت وحدها، فيما ترى الكويت أنها والسعودية طرفًا واحدًا، فتظهر إيران في تلك الأزمة بمظهر من يدق أسافين الأزمات بين دولتين بمنطق “فرق تسد”.
وكمثال صارخ على برجماتية إيران.. فعندما وجدت أن تقاربها مع السعودية لم يكن على المستوى المأمول خاصة فيما يتعلق برغبتها في الحصول على ثروات حقل الدرة ووقوف السعودية حجر عثرة أمامها، لجأت طهران إلى استنفار الميليشيات الحوثية على الحدود اليمنية السعودية، وهو ما جعل ما يسمى بـ “وزير دفاع الحوثيين” محمد ناصر أحمد العاطفي لأن يقول: “على ما يبدو أن هناك نوايا غير صادقة”.