جاء فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية مؤشرا لبداية مرحلة جديدة في السياسة الأمريكية تجاه ايران, إذ بدأت الإدارة الأمريكية بمهاجمة الاتفاق النووي, وتأكيدها أن الشركات الأمريكية لم تستفد من رفع العقوبات عن إيران, بينما استفادت منها الشركات الأوروبية والروسية, وردد في أكثر من مناسبة بأن طهران استثمرت الاتفاق لدعم التنظيمات المسلحة في المنطقة, ومن ثم قرر ترامب العودة إلى فرض العقوبات الاقتصادية على إيران تلك التي أقرها الكونجرس الأمريكي في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016, بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية 419 صوتاً على تمديد قانون العقوبات على إيران ذلك الذي أقر أول مرة في العام 1996.[1]
وفي خلال عهد الرئيس دونالد ترامب حدثت حالة من التغيير في طبيعة العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة وبين القوى الدولية الكبرى, إذ ركز ترامب على تراجع الوضع التجاري, واضطرار الإدارة لقبول أحكام عدائية من قبل المؤسسات والمحاكم الدولية, وإنفاق المليارات من الدولارات لحماية الحلفاء, فضلا عن تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على التحكم بالأحداث العالمية أو تشكيلها.
وقد خلق هذا مجتمعا متعدد الأقطاب يؤدّي فيه الفاعلون غير الحكوميين دوراً مهماً. وأدى إلى عسكرة السياسة الخارجية, من خلال الزيادة الضخمة في الموارد المخصصة للتسلح مقابل خفض موازنة وزارة الخارجية بنسبة لا تقل عن 25%، وأخيراً تراجع التوافقات متعددة الأقطاب, إذ اتجه الرئيس ترامب إلى الخروج من الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية باريس بخصوص التغير المناخي واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ, وإذا كانت استراتيجية الرئيس أوباما قامت على التشارك في العبء فإن الرئيس ترامب عمل على التخلص من تلك الأعباء جميعها دفعة واحدة.[2]
أولا: رؤية الرئيس ترامب الاستراتيجية تجاه إيران
تنطلق رؤية الرئيس ترامب من المنظومة النقدية المركبة, ولكن بجرعة شعبوية, وعبر قدر من التسرع والارتباك, وتمزج رؤيته بين بعض عناصر الاستمرارية في سياسة بلاده تجاه الشرق الأوسط, وبين عدد من عناصر التغيير التي تعكس توجهات جديدة صارخة.
“
الاستمرارية من وجهة نظر ترامب تعني استقرار عملية إنتاج وتحرك البترول والغاز, وتأمين الممرات الجوية والبحرية الحيوية في المنطقة, ومساندة واشنطن لأمن اسرائيل, ومحاربة الحركات الإرهابية والتطرف, وحظر الانتشار النووي, وحماية الدول الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية.[3]
“
ويعتمد دور الولايات المتحدة وفق منطق التوازن من الخارج بشكل مباشر على توظيف التحالفات للقيام بتأمين المصالح الاستراتيجية الأمريكية وحمايتها من دون أن تتحمل أية تكاليف جراء ذلك, وما سوف تقدمه إلى هذه التحالفات هو الاستمرار في البقاء فيها, وامتناعها عن نشر أية قوات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط, وتأكيد أن سياسة الإدارة شاملة وتتميز بمزيد من الصرامة تجاه إيران, وتركز هذه الرؤية على ما يأتي:[4]
1 ــ الانسحاب الناضج, ما يعني استمرار الوجود العسكري الأمريكي في مناطق الصراع, وإمكانية نشر قوات أمريكية في حالات معينة على نحو محدود لقمع أي تهديد إرهابي أو أعمال وحشية على نطاق واسع. إذ الرئيس ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2018, بشكل مفاجئ مبرراً ذلك بهزيمة تنظيم داعش الإرهابي, وهو السبب الرئيس لوجود تلك القوات, ما أدى إلى احتدام التنافس بين القوى الفاعلة بالملف السوري لملء الفراغ السياسي والعسكري الناتج عن الانسحاب الأمريكي.[5]
2 ــ تأمين أداء الحلفاء, باعتمادهم على قوتهم العسكرية, وإمكانية تقديم الدعم لهم, وتجنب إعاقة أولويات حلفاء أمريكا وشركائها الإقليميين, حتى تتمكن من الانسحاب الناجح.
3 ــ الدبلوماسية التي تتطلب إعادة ترتيب أولويات عملها الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط.
وهناك من يرى أن سياسة الرئيس ترامب الخارجية تركز على عدة أفكار رئيسة أهمها:[6]
أ ــ التأكيد على مفهوم الصفقة في السياسة الخارجية وهي مزيج من سياسة التاجر الشاطر الذي يأتي بالأموال والحلول في زمن القحط والتقشف, ولذلك يفترض أن يعتمر الرئيس ثلاث قبعات مختلفة في مجال العلاقات الدولية: فهو الرئيس التنفيذي, والقائد العام للقوات المسلحة, وكبير الدبلوماسيين. وباستخدام القوة الناعمة أم الصلبة يبدو شعار “أمريكا أولاً” متسقاً مع أطروحات اليمين الأمريكي, على تنوعها وتطرفها, وتحقيق المصلحة القومية, وكراهية الأجانب, كما أنها متسقة مع شخصيته وتركيبته كرجل أعمال يؤمن بمبدأ الصفقة, وتوصف بعض سياساته بأنها بمنزلة حيل تكتيكية تهدف إلى تقوية صورته الشخصية كقائد حاسم, وقادر على الوفاء بوعوده الانتخابية, كما أنه يهدف إلى إثارة المشاعر الحزبية, والقومية, والعنصرية, وإثارة الروح الوطنية من خلال رؤيته لاستعادة المكانة الأمريكية.[7]
ب ــ سياسة الصفقة إذ يمارس الرئيس ترامب السياسة من منطق الصفقة, وتحديداً حيال دول الخليج العربي, ولذلك من الضروري أن تدفع هذه الدول وإن كان بشكل غير مباشر عبر صفقات الأسلحة الأمريكية والتعاون في مجال الطاقة والاقتصاد.
ج ــ التدخل المحدود فانخراط الولايات المتحدة في قضايا العالم ومنطقة الشرق الاوسط سيرتبط بمقدار ما تحققه من منافع اقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية, ومن خلال نهج المساومات الاقتصادية في طريقة تعاطي السياسة الخارجية الأمريكية مع الالتزامات والتحديات العالمية, واعتماد نظام حساب الكلف في التعاطي مع ملفات السياسة الخارجية عند الإقدام على أي مشروع, وخاصة إذا كان عسكريا بحتاً, تترتب عليه آثار مادية ومعنوية, وستكون شركات النفط والسلاح الأمريكية أكثر تحكما فيه.
د ــ التركيز على الاحتواء, والتأثير على نتائج الاضطرابات والصراعات عن بعد, من خلال دفع دور الحلفاء وتعزيزه, لكن من دون التورط العسكري المباشر في تلك الصراعات, أو محاولة فرض السيطرة العسكرية المباشرة, وذلك لتجنب التكاليف الباهظة على الاقتصاد الأمريكي, وهو الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة بحاجة إلى إحياء تحالفاتها التقليدية في الشرق الأوسط وتعزيزها؛ لأداء أدوار الوكالة في المنطقة.
هـ ــ دعم الإدارة الأمريكية للحفاء التقليديين في الشرق الأوسط في مواجهة إيران, إذ يدعم الرئيس ترامب تحالفاً عربياً إسلامياً سنياً على حساب إيران, التي تمثل خطراً على المنطقة, وتهدد استقرار العديد من دول المنطقة, وتدعم التنظيمات المسلحة كحزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة.
و ــ توطيد العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين دول الخليج العربي عموما والسعودية تحديداً, وتوفير بيئة لتوسيع الاستثمارات والعلاقات التجارية الثنائية. وقد بلغت قيمة الصفقات بين البلدين 460 مليار دولار, وقدرت قيمة الصفقة العسكرية بحوالي 110 مليارات دولار, ومن الممكن أن تصل قيمتها الإجمالية إلى حوالي 350 مليار دولار أمريكيا.
ز ــ دعوة الدول العربية الأربعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) المقاطعة لقطر بوصفها دولة راعية للإرهاب, إلى اتباع الوسائل الدبلوماسية لتسوية الخلاف معها, والضغط من أجل رفع المقاطعة, فيما اتجهت قطر إلى طلب الحماية الأمريكية واستعدادها لتوسيع قاعدة العديد العسكرية الأمريكية في قطر وكذلك إبرام صفقة للأسلحة المتطورة, وإبداء استعداد قطر لضخ استثمارات كبيرة في مشاريع تطوير البنية التحتية الأمريكية.[8]
ولقد برزت عدة خطوات في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي صدرت في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2017, وما سبقها من خطاب الرئيس ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2018, وغيرها من التصريحات والخطب للرئيس ترامب لتمثل مصدراً رئيساً لرؤية الرئيس للعالم.[9]
“
وصف الرئيس ترامب في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاق النووي بقوله: “إن صفقة إيران كانت واحدة من أسوأ الصفقات وأكثرها انحيازا ً لجانب واحد دخلت فيها الولايات المتحدة. بصراحة، هذا الاتفاق هو إحراج للولايات المتحدة، ولا أعتقد أنكم قد سمعتم آخر شيء فيه”.
“
والمشكلة هي أن ترامب مصمم على التراجع ببساطة عن كل تشريع أو أمر تنفيذي صدر خلال فترة ولاية الرئيس أوباما، بغض النظر عن الجدارة أو الفائدة أو الفعالية، وخطة العمل المشتركة ليست استثناء. وإلغاء هذه الصفقة، بدلا من التصديق على أن إيران قد واصلت الامتثال الكامل لجميع جوانب الصفقة سيعجل من حدوث تداعيات إقليمية ودولية خطيرة من الواضح أنها فوق قدرة ترامب على تخيّلها.[10]
وبموجب قانون مراجعة الاتفاق النووي الايراني (INARA) لعام 2015 يشترط أن يشهد الرئيس الأمريكي علناً كل 90 يوماً أن إيران ممتثلة تقنياً للاتفاقية, وقد اختار الرئيس ترامب عدم الشهادة في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2017, لكن ذلك لم يعن الانسحاب من الاتفاق, لكنه أطلق عجلة قواعد تشريعية معينة زادت بشكل مؤقت من صلاحيات الكونجرس الأمريكي في اتخاذ قرار كهذا. كما فتح القرار نافذة مدتها شهرين لكي يدرس الكونجرس إعادة فرض عقوبات على إيران عبر عملية معجلة.
وقد حث الرئيس ترامب الكونجرس على معالجة العيوب الخطيرة في خطة العمل بتشريع يجعل كل القيود على نشاط إيران النووي دائمة بموجب القانون الأمريكي ويمنع إيران من تطوير قذيفة باليستية عابرة للقارات، إلا أن الكونجرس لم يتمكن من الوصول إلى اتفاق على أي تشريع جديد يهدد خطة العمل.[11]
وفرضت واشنطن عقوبات جديدة على طهران, وكانت مؤلفة من قسمين, قسم يتعلق بالاتفاق النووي, وقسم آخر يتعلق بقضايا أخرى مثل الصواريخ الباليستية, وسجل حقوق الإنسان, والإرهاب, واستندت استراتيجية الإدارة الأمريكية على الضغط المستمر على إيران, من خلال التشكيك المستمر بعدم التزامها بروح الاتفاق من ناحية, وتوالي فرض العقوبات تحت ذرائع مختلفة من ناحية أخرى.
“
حرصت الإدارة الأمريكية على منع إيران من الاستفادة من رفع العقوبات, على الرغم من إقرارها بالتزام إيران بالاتفاق النووي, وهنا برزت ازدواجية السلوك الأمريكي بشكل واضح، فالموقف الأمريكي تأرجح ما بين الإقرار بالتزام طهران بالشروط التي تضمنها الاتفاق, والإعلان عن إخلال إيران بروح الاتفاق النووي, وفرض عقوبات اقتصادية عليها في الوقت ذاته, والمفارقة أنه وبعد مرور يوم واحد على إعلان الخارجية الأمريكية تأييدها للاتفاق النووي حتى فرضت الأدارة الأمريكية في 18 تموز (يوليو) 2017 عقوبات جديدة على إيران.
“
واستهدفت تلك العقوبات سبعة كيانات, وخمسة أفراد لدعمهم الجيش الإيراني, أو قوات الحرس الثوري, فضلا عن منظمات غير وطنية مقرها إيران, وثلاثة أشخاص مرتبطين بها, منهم مواطن صيني, وأربع شركات صينية وشركة تركية, وكان الرد الإيراني أن العقوبات لن تؤثر على الشعب الإيراني, ولن تثنيه عن المقاومة والصمود, وأن العقوبات الأمريكية تكراراً للعقوبات السابقة.[12]
ثانيا: موقف ترامب من الاتفاق النووي وانسحابه منه
بحلول 8 آيار (مايو) 2018 أعلن الرئيس ترامب انسحاباً أحاديا من خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) أو الاتفاق النووي الإيراني, أعقب ذلك إعلان وزارة الخزانة الأمريكية ومكتب السيطرة على المنقولات الخارجية الأمريكي إعادة فرض عقوبات معينة على إيران في غضون مدة تتراوح بين 90 : 180 يوماً, ويشمل ذلك بتأثيره الشركات الأمريكية وغير الأمريكية, وقد تطلب ذلك عملاً فورياً للإيفاء بالمدة الزمنية.[13]
يمكن تحديد أبرز الأسباب التي دعت الرئيس ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي بالآتي:[14]
1 ــ عدم وجود عقوبات حقيقية في نص الاتفاق في حالة إخلال إيران بالتزاماتها سوى آلية إعادة فرض العقوبات, بمعنى أن أي انتهاك من إيران سواء كان كبيراً أو صغيراً فإن الاتفاق لا ينص سوى على عقاب واحد إزائه, وهو إعادة فرض العقوبات؛ ما يعفي إيران من كل التزاماتها دفعة واحدة.
2 ــ تركيز الاتفاق على البرنامج النووي وعدم معالجة برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية, التي يمثل تطويرها وبأجيال متعاقبة بعيدة المدى تهديداً بالغاً لأمن الخليج العربي والأمن العالمي عموماً، فإذا كان الهدف من الاتفاق تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين؛ فان تطوير تلك الصواريخ يكرس الخلل في توازن القوى الإقليمي، ذلك أن تجارب الصواريخ الإيرانية لم تتقلص بعد يوم تطبيق الاتفاق النووي في كانون الثاني (يناير) 2016, واستمرت إيران في أولوية تطوير قوتها الصاروخية, وأجرت عدة تجارب إطلاق صواريخ باليستية متعددة منذ ذلك التاريخ.[15]
3 ــ الجانب المالي في الاتفاق وما حققه لإيران من توفير أموال طائلة, نتيجة رفع العقوبات, والتي تجاوزت 100 مليار دولار، كما أن الاتفاق جعل من العقود الدولية السابقة له سارية المفعول, بمعنى انعدام أي أثر لعقوبات مستقبلية على إيران, في حالة انتهاكها الاتفاق النووي.
4 ــ عدم وجود بنود تكبح جماح إيران في سعيها لتحقيق الهيمنة الإقليمية والتدخل في الأزمات الإقليمية, وهي سبب رئيس لاستمرارها, وبما يهدد شركاء الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة، فالاتفاق النووي أكثر من مجرد بنود فنية حول برنامج نووي, إنه ورقة استراتيجية ترسم خريطة بزوغ إيران كقوة إقليمية بمباركة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ودعمهما. ويؤكد ذلك قول المرشد الأعلى لأتباعه مراراً بأن الاتفاق النووي لن يحدث أي تغيير في سياسات إيران الإقليمية وأنه لن تكون هناك أية مناقشات مع واشنطن تهدف إلى إنهاء دعم حكومته لحزب الله أو نظام الأسد أو الفصائل الفلسطينية التي هي في حالة حرب مع إسرائيل.[16]
5 ــ القيود الزمنية للاتفاق, فالرؤية الأمريكية أن القيود المفروضة على نشاطات إيران النووية سوف تسقط بنهاية عام 2030 وسيكون بمقدورها معاودة برامجها النووية, وقد يكون لديها برامج نووية سرية ذات طابع عسكري، فالقيود الواردة على تخصيب اليورانيوم ستزول بحلول عام 2024, والقيود على معالجة البلوتونيوم ستزول بحلول عام 2030, ورؤية الرئيس ترامب بأن هذه القيود جديرة بأن تسري لمدة مئة عام.
6 ــ إسهام الاتفاق في إشعال سباق التسلح في المنطقة, بدلا من أن يكبح جماح انتشار الأسلحة النووية, فقيود الاتفاق ستزول بعد عشر سنوات من نفاذه, وسيكون بوسع إيران أن توسع بسرعة من نطاق برنامجها النووي وتنتج وقوداً لصنع أسلحة نووية, وتطوير برنامج موسع لإنتاج الصواريخ الباليستية, ما يدفع العديد من دول المنطقة إلى مجاراة قدرات إيران النووية والعسكرية.
7 ــ دور الاتفاق في تقويض الآمال بتحقيق انتقال ديمقراطي في إيران, إذ ستتدفق عشرات المليارات من الدولارات بموجبه إلى خزينة النظام الإيراني, وليس هناك من ضمانات بأن الاتفاق النووي سيوفر قدراً أكبر من الاعتدال في السلوك الإيراني, عدا عن أنه مرشح لأن يعزز النظام المتشدد ويرسخ أركانه.[17]
8 ــ أن دور الوكالة الدولية في الاتفاق محدود إذ لا يشمل تفتيش المواقع العسكرية رغم الشكوك أن بعضها يوظف في أنشطة نووية.[18] وتاريخ إيران الطويل من انتهاك معاهدة حظر الانتشار النووي, وقرارات مجلس الأمن المتعددة قبل الاتفاق.
“
وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحذيرا قويا لشركاء الولايات المتحدة التجاريين من التعامل مع إيران بعد إعادة فرض العقوبات عليها قائلا: “كل من يتعامل تجاريا مع إيران لن يتعامل تجاريا مع الولايات المتحدة”.
“
إلا أن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، رد بشدة على الولايات المتحدة بشأن إعادة فرض العقوبات الاقتصادية، ووصف الإجراءات الجديدة، التي بدأ تنفيذها، بأنها “حرب نفسية” تهدف إلى “زرع الانقسام بين الإيرانيين”. ووبخ روحاني قرار ترامب بإعادة فرض العقوبات، قائلا: “إن الحكومة الأمريكية أدارت ظهرها للدبلوماسية باتخاذ إجراءات عملية.. إنهم يسعون إلى شن حرب نفسية على الأمة الإيرانية ولا معنى أبدا للمفاوضات مع وجود العقوبات”.[19]
وفي مطلع تموز (يوليو) 2018, وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسالتين متناقضتين في مضمونهما، إنما ليس بالضرورة في هدفهما السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية. واحدة حملت تحذيرا قوي اللهجة للرئيس الإيراني حسن روحاني والثانية أبدت “استعدادا لصفقة حقيقية” مع طهران، فبماذا أوحت عن الاستراتيجية الأمريكية؟ وما هي التوازنات التي ستصوغها واشنطن لتحقيقها؟
الرسالة الأولى وجهها ترامب للرئيس روحاني وبعد خطاب وزير خارجيته مايكل بومبيو عن إيران، وحذر الرئيس الإيراني من التجرؤ على تهديد الولايات المتحدة وإلا “سيواجه العواقب”.
الرسالة الثانية فجاءت في تجمع انتخابي قال فيه الرئيس الأمريكي إن “إيران لم تعد كما كانت… سنرى ما سيحصل إنما نحن مستعدون لإبرام صفقة.. ليس الصفقة التي أبرمتها الإدارة السابقة والتي كانت كارثية”. وعدم تبني خيارات انقلابية أقله ليس علنا، وإبقاء الباب مفتوحا لتفاهمات وصفقات بمعايير مختلفة، ويمكن تعريف نهج ترامب حيال إيران بأربعة بنود تراهن الإدارة على تسريع وتيرتها وامتحان فرصها إقليميا وداخليا، وهي كالتالي:
البند الأول: ممارسة أكبر قدر من الضغوط على إيران
يستند هذا البند إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوط على إيران اقتصاديا وسياسيا وإقليميا. هذه السياسة غادر قطارها المحطة في 8 أيار (مايو) 2018, بعد الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني واتضحت حدودها مع بدء تطبيق العقوبات المصرفية على إيران في 6 آب (أغسطس) ومن ثم العقوبات النفطية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018.
وفي هذا الإطار تريد واشنطن إنزالا دوليا سريعا وفعالا للعقوبات لكي يكون تأثيرها أكثر فعالية، وليؤذي الاقتصاد الإيراني بشكل يجبر القيادة في طهران على إعادة حساباتها. لكن الرئيس الإيراني حسن روحاني حث ترامب على عدم “اللعب بالنار”، وانتقد تهديدات واشنطن لاقتصاد البلاد، قائلا: “إن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على وقف تصدير النفط الإيراني”. كما أشار روحاني إلى أن طهران قد ترد على التهديدات الأمريكية.
وحاولت الإدارة الأمريكية التركيز على الصادرات النفطية تحديداً, بهدف وقفها تماماً وحرمان الاقتصاد الإيراني منها. فالتركيز على اجراءات مشابهة لعقوبات عام 2012, استهدفت قطاع الطاقة الإيراني, وأضرت بالاقتصاد برمته, ودفعت النظام الإيراني إلى تقديم تنازلات في الاتفاق النووي عام 2015.[20]
وأعطى نهج العقوبات الأمريكية أولوية للعقوبات الاقتصادية كإحدى أدوات قوة الإرغام الامريكية, وتأتي في مرتبة ثانية بعد القوة الصلبة, للضغط على الخصوم لتغيير سلوكهم, وتبني سياسات خارجية تتوافق مع المصالح وتخدم الأمن القومي الأمريكي, مع التقليل من أدوات السياسة الخارجية الأخرى الأكثر فاعلية وأهمية, كالشراكات مع الحلفاء للضغط على الخصوم. وبما يدفع قادة إيران إلى الجلوس على طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة؛ لإصلاح ما تراه واشنطن عيوباً في الاتفاق النووي لعام 2015, وتأكيد أن فرصة إيران الوحيدة هي قبول عرض الرئيس ترامب بالتفاوض على اتفاق يضمن التخلي عن برامجها للصواريخ الباليستية والأسلحة النووية بشكل كامل يمكن التحقق منه فعلياً.[21]
وبموجب العقوبات الدولية أضافت الولايات المتحدة 700 فرد وشركة إلى قائمة الكيانات المحظورة, منها 400 كانت مدرجة في الاتفاق النووي عام 2015, واستهدفت الأفراد, والطائرات, والسفن, والمنظمات المرتبطة بقطاع الطاقة, ووقف التعاملات بالدولار, وفرضت الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018, إلا أن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من منح استثناءات لثماني دول, وقد بررت الإدارة ذلك بتلافي صدمة في السوق النفطية نتيجة تراجع الصادرات الإيرانية.[22] فالإدارة الأمريكية واصلت التركيز على سلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة, وانتهاكاتها لحقوق الإنسان, ودعمها للإرهاب وغيرها من السلوكيات.[23]
وفي تقويم العقوبات هناك من يرى أن حرب وزارة الخزانة ضد إيران برهنت على أنها حرب فتاكة بامتياز, بفضل الاستخدام المخادع للنفوذ الأمريكي، وفي الحقيقة, فقد برهنت على أنها أداة فاعلة في مواجهة عدو زئبقي لم يكن يلتزم بقوانين اللعبة وقواعدها, وكانت تأثيراتها فورية وقاسية, أكثر مما كان مسؤولو الخزانة يتوقعونه. لقد تم وضع خطوط حمر لكبح نشاطات إيران, وبخلاف غيرها من الخطوط, فقد جرى تطبيقها بكل حزم وقوة.[24]
البند الثاني: إعادة النظر بأركان القيادة الإيرانية
يستدعي هذا البند إعادة النظر بأركان القيادة الإيرانية وتناسي مفهوم المعتدلين مقابل المتشددين الذي اعتمده أوباما. فروحاني وجواد ظريف هما كما قاسم سليماني أو صادق لاريجاني بالنسبة لهذه الإدارة، لا بل يمكن القول إن هناك استخفافا أكبر بالمعتدلين نظرا لموقعهم المتراجع داخليا.
ولعل هذا ما يفسر هجوم ترامب على روحاني مقابل إرسال بومبيو برقية لقاسم سليماني عام 2017 حول عدم المس بالقوات الأمريكية في العراق، إذ ركزت الاستراتيجية الأمريكية على تحجيم دور إيران فيما يتعلق بزعزعة الاستقرار ودعم الإرهاب والمسلحين, وتقوية تحالفات الولايات المتحدة التقليدية والإقليمية ضد الهيمنة الإيرانية، وقد تعهدت الإدارة الأمريكية بالقضاء على التهديدات الإيرانية والتي يمثلها فيلق القدس بالحرس الثوري الذي تدخل في سوريا ويدعم الحوثيين في اليمن.[25]
البند الثالث: التغيير الداخلي للنظام الإيراني
لم تتبن إدارة الرئيس ترامب بشكل رسمي سياسة تغيير النظام, إلا أن تصريحات عديدة من قبل مسؤولي الإدارة أوضحت دعمهم لتلك النتيجة، ففي حديثه بالمملكة العربية السعودية يوم 21 يار (مايو) 2017 بين الرئيس ترامب بأن إدارته تأمل في أن تتغير الحكومة الإيرانية بأخرى تعتبرها الإدارة عادلة ومنصفة.
“
في شهادته أمام لجنتي الكونجرس في حزيران (يونيو) 2017 قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون: “إن الادارة تدعم فلسفة تغيير النظام في إيران, وإن الإدارة ستعمل باتجاه دعم تلك العناصر داخل إيران والتي ستقود تحولاً محدداً في تلك الحكومة”. أعقب كل ذلك تصريحات للرئيس ترامب في كانون الأول (ديسمبر) 2017 – كانون الثاني (يناير) 2018 يدعم فيها الاحتجاجات في إيران.
“
وفي حديثه في مؤسسة التراث أكد وزير الخارجية مايك بومبيو في 21 آيار (مايو) 2018 تضامن الولايات المتحدة الكامل مع الشعب الإيراني.[26]
ولقد أوضح بومبيو موقف بلاده من تلك الأحداث بقوله: “نحن نأمل في أن يوما قادما يمكننا التوصل لاتفاق جديد مع إيران, لكن يجب أن نرى تغييرات كبرى في سلوك النظام داخل وخارج حدودها معاً.[27]
بحلول 16 آب (أغسطس) 2018 أعلن بومبيو تشكيل مجموعة عمل إيران لتنسيق كل أشكال نشاط وزارة الخارجية حول إيران, وفي أيلول (سبتمبر) أصدرت المجموعة تقريراً حول نشاطات إيران غير القانونية واتهمها بكل السلوكيات المرفوضة, وأبدى الرئيس ترامب رغبته في لقاء الزعماء الإيرانيين, لكن الإدارة طالبت الإيرانيين بإعادة النظر بكل سياساتها الحالية كشرط لأي تحسن في العلاقات بينهما.[28]
أما إيران فتراهن من جهتها على عامل الوقت وعلى خروج ترامب من البيت الأبيض خلال الفترة القادمة وعلى انشقاق الأوروبيين عن الأمريكيين في موضوع العقوبات، فالأزمة تتلخص وفق الرؤية الإيرانية في محاولة أمريكية مدبرة لكسر الإرادة الوطنية الإيرانية, والطموح الأمريكي لفرض قرار آخر بديل, هدفه تصفية البرنامج النووي الإيراني, وتدمير القدرات الدفاعية الإيرانية, وإملاء شروط على سياسة إيران الإقليمية تخدم حلفاء الولايات المتحدة.[29]
البند الرابع: إمكانية إبرام اتفاق جديد أو اتفاق تكميلي مع إيران
يرتبط ذلك باستجابة إيران لاثني عشر مطلباً حددها وزير الخارجية الأمريكي, وهي:
- الإفصاح عن كامل الأبعاد العسكرية لنظامها النووي.
- السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش البرنامج النووي بشكل مستمر.
- التوقف عن تخصيب اليورانيوم، والتخلي عن محاولات معالجة البلوتونيوم، وإغلاق مفاعل الماء الثقيل.
- السماح للوكالة الدولية بالوصول لكل المواقع النووية العسكرية وغير العسكرية.
- أن تضع إيران حداً لانتشار الصواريخ الباليستية, وإطلاق الصواريخ التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية.
- إطلاق سراح المواطنين الأمريكيين وكل مواطني الدول الحليفة.
- إيقاف دعم المجموعات المسلحة في الشرق الأوسط.
- احترام الحكومة العراقية، والسماح بنزع سلاح المليشيات الشيعية.
- إيقاف دعم المليشيات الحوثية في اليمن، والعمل على التوصل لحل سياسي فيه.
- سحب كل القوات التابعة لإيران في سوريا.
- ايقاف دعم طالبان, وجميع العناصر الإرهابية, وعدم إيواء عناصر القاعدة، وإيقاف دعم فيلق القدس للجماعات المسلحة.
- إيقاف التهديد الإيراني لجيرانها من دول الجوار من حلفاء الولايات المتحدة.[30]
ولذلك من الواضح أن هذه الحزمة من المطالب كان من الصعب على النظام الإيراني الحالي لأسباب داخلية وخارجية القبول بها, لأنها من المنظور الإيراني تخالف أحكام القانون الدولي, وتمثل تدخلاً خارجياً مباشراً يمس سيادة الدولة الإيرانية, فضلا عن تقاطعها مع المشروع الإقليمي الإيراني الذي تسعى إيران إلى تشكيله في المنطقة.
كما أنها في أغلبها عبرت عن مخاوف ومطالب إسرائيلية كان من الصعب للغاية على الحكومة الإيرانية تقبلها علناً على الأقل, وإن كانت الخبرة السياسية المكتسبة في هذا المجال توضح إمكانية التوصل إلى صيغة مناسبة لها عبر قنوات الدبلوماسية السرية.[31]
ثالثا: سياسة الضغوط الأمريكي القصوى على إيران
لقد أدركت الولايات المتحدة أنها سواء قبل الاتفاق أو بعده أمام نظام رافض لهيمنتها, وليس هناك من حل إلا بتغيير مطالبها أو تغييره هو نفسه, وبما أنها ليست مستعدة لتغيير مطالبها, فإنها تسعى لإضعافه ومحاصرته وصولاً إلى تغييره, وهذا ما تعمل عليه داخلياً وخارجياً وبمختلف الوسائل, ومحاولة إضعاف حلفائه في المنطقة سواء بالحرب كما في سوريا, أو بالتضييق والاتهام بالإرهاب كما في حزب الله في لبنان.[32]
لكن الضغط الأمريكي أتى ضمن رؤية حربية تقليدية تركز على محاصرة العدو وتهديده إما بالتجويع أو الدمار العسكري الهائل, فالتجويع قد يؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي, وظهور الصراعات الداخلية وفقدان الثقة ووقف الإنتاج في المؤسسات الحكومية, لتصل إلى ثورة شعبية على النظام, أو انهيار الدولة تماماً وتعريضها للغزو الخارجي السهل، أما الدمار العسكري فيؤدي إلى انهيار النظام السياسي فلا يستطيع مجابهة تحد خارجي أو تمرد داخلي, ويبرز إثر ذلك نظام سياسي جديد يدرك خطورة التحدي فيستسلم لإرادة الآخرين. وهذا ما فكرت الولايات المتحدة بالتوصل إليه جراء تشديدها الخناق الاقتصادي على إيران.[33]
لذلك يتضح أن الرئيس ترامب راهن على تغيير جذري في سلوك النظام بسبب العقوبات، فيما راهنت إيران على تغيير في السياسة الأمريكية بعد ترامب، وكلاهما طموحان يصطدمان بتعقيدات في الواقع السياسي في كل من واشنطن وطهران.
“
لا خروج ترامب حتميا ولا عودة الديموقراطيين تعني عودة نهج أوباما، والدليل غض الديموقراطيين في الكونجرس النظر عن مواقف الإدارة حيال إيران.
“
أما النظام الإيراني، فلديه بدائل للتهرب من العقوبات ويملك من الخبرة المتعلقة بتخطي أزمات اقتصادية سابقا، كل ذلك يرجح استمرار سياسة الضغوط والمواجهات غير المباشرة وشراء الوقت بين واشنطن وطهران إلى حين فرض مفاجأة غير متوقعة نفسها على المعادلة الحالية. ومن الممكن ترجيح خيار التصعيد المنضبط, أي مسار الحل الجزئي, أو الحل المرحلي, والرهان على وجود فرص مؤاتية في المستقبل لتحقيق تلك الأهداف. وقد تستفيد إيران من قرار الرئيس ترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي في تصويره بأنه عدوان أمريكي مدبر, وخروج أمريكي متعمد على الشرعية والقوانين الدولية.[34]
ويمكن أن تميل إيران إلى التصعيد, إذ حدد المرشد الأعلى في 24 آيار (مايو) 2018, عدة شروط للاستمرار في الالتزام بالاتفاق النووي, وإلا ستستأنف إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم إذا لم تستجب الدول الأوروبية الثلاث لهذه المطالب, وهي:
- حماية مبيعات النفط الإيرانية من العقوبات الأمريكية.
- مواصلة شراء الخام الإيراني.
- حماية البنوك الأوروبية التجارة مع إيران.
- تعهد الدول الأوروبية الثلاث بعدم الموافقة على المطالب الأمريكية المتعلقة بالتفاوض حول برنامج إيران للصواريخ الباليستية, وأنشطتها الإقليمية.[35]
إن غياب الاستراتيجية لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يصب في صالح إيرا، كما أن قرار الرئيس ترامب إدارة جلسة مجلس الأمن الدولي يوم 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2018، ووضعه إيران على مذبح الدولة المارقة، عد بأنه لحظة مهمة أكثر من خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
فعداء ترامب المستمر للجمهورية الإسلامية، وقراره من جانب واحد الخروج من الاتفاقية التي وقعها سلفه باراك أوباما عام 2015، أصبحا جزءا من المجازات المتماسكة في إدارة دونالد ترامب المتقلبة، وفي الوقت الذي استطاع فيه أن يحدث أضرارا في الشرق الأوسط، إلا أن صوته العالي فشل حقيقة في تغطية نجاح إيران بالتعاون مع حلفائها في المنطقة للتفوق على الاستراتيجية الأمريكية.
ويمكن القول إن النهج العرضي الذي تبناه ترامب في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط لم يؤد إلا إلى نجاحات موضوعية قليلة، فهو يتفاخر بأنه سيقوم بالإعلان عن (الصفقة الكبرى)، وحل النزاع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، لكنه من خلال ترجيحه قائمة الأماني لليمين الإسرائيلي، وتجاه إسرائيل الكبرى، التي سيتم فيها تحديد حقوق الفلسطينيين، فإنه يزيد من مظلومية الطرفين والفوضى الدائمة.
لقد عبر الرئيس ترامب عن حالة من الاستمرارية, كإحدى ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية, وكان قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها تعبيراً عن تحدٍ لكل القرارات الدولية الخاصة بموضوع القدس, والتراجع عن حل الدولتين.[36]
وربما قام ترامب بإغراق الاتفاقية النووية لعام 2015، التي وقعتها الولايات المتحدة إلى جانب روسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، التي أدت إلى تقليص البرنامج النووي الإيراني واحتوائه، لكنه لم يقدم أي بديل مكانها، فهو وفريق مستشاريه للسياسة الخارجية يعتقدون أن إعادة فرض عقوبات اقتصادية تعسفية ستؤدي إلى تقويض النظام الإيراني بل ربما تغييره. وهذه العقوبات لم تؤد إلا لتقوية المؤسسة الدينية والجماعة التي تقوم بفرض رؤيتها، وهي الحرس الثوري، وهو المعسكر المتشدد الذي طالما خاف من أن تؤدي الاتفاقية النووية إلى إضعاف سلطته ومصالحه الثابتة، من خلال فتح إيران ــ وشبابها القَلِقْ ــ على العالم.
“
الواقع أن الولايات المتحدة تستخدم مسألة عدم التزام إيران بروح الاتفاق النووي للضغط عليها في الملفات الأخرى, فالمسألة ليست الاتفاق النووي ذاته, بل الدور الإيراني الفاعل والمؤثر في الصراعات الإقليمية في المنطقة, فضلا عن تطوير إيران قدراتها الصاروخية, ما يدفع الولايات المتحدة إلى فرض المزيد من العقوبات الدولية, التي تعتقد أنها فاعلة في الحد من الطموحات الإيرانية.
“
عليه فإن الرؤية الأمريكية للقدرات العسكرية والنووية الإيرانية هي أنها تشكل السقف الأعلى للمشروع الاستراتيجي الإيراني تجاه دول الشرق الأوسط, وهي تؤثر بشكل كبير على الوجود الأمريكي في منطقة الخليج الغنية بالطاقة, كما أن القدرات الإيرانية تعزز الحضور الإيراني إقليميا.[37]
وهناك من يرى أن مسألة العلاقة مع الولايات المتحدة ليست مشكلة إيرانية بقدر ما هي مشكلة أمريكية, فما زالت مراكز سلطة أمريكية داخلية مثل الكونجرس الموالي لإسرائيل تقف عقبة أمام تحسين العلاقات مع إيران, وقد أثبتت تجربة العلاقة مع بريطانيا أن النظام الإيراني يكون أكثر مرونة وأقل ممانعة في عودة العلاقات خاصة أن إيران أثبتت أنها قادرة على إزالة العقبات أمامها كلما استلزمت المصلحة ذلك.[38]
يعزز هذه الرؤية نجاحات إيران في تقوية نفوذها وزيادة قدراتها على التمدد في المنطقة, وتعدد نقاط الثقل الاستراتيجي للسياسة الإيرانية وبالقدر الذي جعلها دولة فاعلة يصعب تجاوز مواقفها ومطالبها ومصالحها, وباتت تشكل ظاهرة دولة إقليمية تتمدد باستمرار وبقوة تنافس قوة ونفوذ إسرائيل والولايات المتحدة معا، في المنطقة.[39]
الخاتمة
مجمل القول إن إدارة الرئيس ترامب لم تختلف عن سابقاتها ولم تتخذ أي خيار سياسي من الخيارات غير الواردة في تاريخ العلاقات بين البلدين, فبعض الخيارات مثل العقوبات تبدو محل تركيز من جانب إدارة الرئيس ترامب كما كان هو الحال في إدارات سابقة, وعليه يمكن إجمال الموقف في المحاور التالية:
الأول: يبدو أن لدى إدارة ترامب خيارات أخرى موضع اعتبار أو تهديد بدرجات مختلفة، إذ لا تخرج سيناريوهات المستقبل بين إيران وبين الولايات المتحدة عن سياسة التصعيد التي قد تصل إلى حد توجيه ضربة عسكرية أمريكية للمنشآت النووية الإيرانية وعدة أهداف عسكرية مختارة داخل إيران, وهي سياسة لم يستبعدها أي مسؤول أمريكي, بل جاء تأكيد أنها أحد الخيارات المتاحة والممكنة أمام الولايات المتحدة في تعاملها مع إيران.
الثاني: تستند هذه السياسة إلى التفوق العسكري الأمريكي المطلق, لكن إيران تمتلك إمكانيات حرب الألغام, وتمتلك صواريخ كروز المضادة للسفن والدفاع الجوي, بما يجعل العمليات الأمريكية ضد الألغام أشد صعوبة وأكثر استهلاكاً للوقت مما عليه الأمر في العادة.
الثالث: ستتم إعاقتها حركة مرور السفن في مضيق هرمز أسابيع أو أكثر من ذلك, وإذا ما رغبت الولايات المتحدة في استمرار العمل, بوصفه ضامناً لحرية الملاحة في المضيق, فإنها تحتاج إلى جعل نشاطات المراقبة جزءاً من جهد أوسع, لتثبيط محاولات إيران التحرش بحركة الملاحة في المضيق أو إغلاقه، وكذلك محاولة إفهام إيران أن حملة لتطهير الخليج من الألغام الإيرانية يمكن أن تحوَل بسرعة إلى حرب لتطهير الموانئ والسواحل الإيرانية من معظم بقايا القوات العسكرية الإيرانية.
الرابع: تتفوق الولايات المتحدة الأمريكية بفضل وجودها العسكري الضخم في أفغانستان ومنطقة الخليج, بما في ذلك العراق ومملكة البحرين ودولة قطر ودولة الكويت وسلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة والذي يشتمل على قواعد جوية وقوات محمولة جواً وبحراً يمكنها أن توقع الخراب بإيران في غضون أيام معدودة.
الخامس: لا شك في أن واشنطن قادرة على أن تلحق بطهران أضرار بالغة أكبر من تلك التي يمكن لإسرائيل أن تلحقها بها، فالهجوم الأمريكي يمكن أن يعيد البرنامج الإيراني سنوات عديدة إلى الوراء, ولكنه بلا ريب لن يضع نهاية له لأن إيران ربما ستزداد تصميماً على مواصلة تنفيذه.
السادس: ما تمتلكه إيران من وسائل وقدرات للثأر من الولايات المتحدة, وبخاصة في ضوء نشر حشود كبيرة من قوات الحرس الثوري الإيراني، قد يمكنها من أن تتخذ سياسة المواجهة الوقائية في مواجهة التهديد الأمريكي أو/و الغربي, بإقامة حزام إقليمي حول حدودها, وبما يمثل قطاعا واضح المعالم في الخريطة الجديدة للمنطقة، وتمتد هذه السياسة إلى العمل الدبلوماسي, ما يمنحها قدراً من الثبات والحزم في مواجهة العروض التي تقدم إليها للتوفيق بين مطالبها وبين مطالب المجتمع الدولي, وأداة لكسب الوقت والضغط على الطرف الآخر من أجل تقديم أفضل عرض لديه.
ــــــــــــــــــــ
[1] أحمد سيد أحمد، إدارة ترامب وقضايا الشرق الأوسط.. حدود التغيير. مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 207، يناير 2017، ص49.
[2] أحمد يوسف أحمد ونيفين مسعد (محررين)، حال الأمة العربية 2017 – 2018.. عام الأمل والخطر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2018، ص31.
[3] محمد أنيس سالم، ترامب وحساب الصفقات في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد215، يناير 2019، ص134- 135.
[4] علي فارس حميد، مكانة التحالفات والشراكات الاستراتيجية في ضوء توجهات دونالد ترامب، مجلة أبحاث استراتيجية، مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، بغداد، العدد 14، آذار 2017، ص70- 71.
[5] تواجدت القوات العسكرية الأمريكية في سوريا تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي, وقد ضم التحالف 79 دولة, وبدأ التحالف بقرار من الرئيس الأمريكي باراك أوباما, وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 23 أيلول (سبتمبر) 2014 عن شن غارات جوية على معسكرات لداعش في سوريا, وبحلول 9 كانون الأول (ديسمبر) 2017, أعلن هزيمة تنظيم داعش وبقيت جيوب له على الحدود العراقية – السورية المشتركة. وقد تقرر سحب 2000 عسكري أمريكي يتمركزون في منطقة شرق الفرات بسوريا, والحديث عن إغلاق قاعدة التنف العسكرية بتلك المنطقة, وتمتلك واشنطن نحو 15 قاعدة عسكرية في الضفة الشرقية لنهر الفرات, وعدد من المستشارين والمقاولين العاملين بها، ويمكن أن تتمركز القوات الأمريكية في غرب الفرات, أي داخل الحدود العراقية, مع استمرار القوات الأمريكية في العراق, وبدأت ببناء قاعدة عسكرية جديدة شمال أربيل, ولا تبتعد كثيراً عن سوريا. للمزيد انظر: منى سليمان، أبعاد وتداعيات سحب القوات الأمريكية من سوريا، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد215، يناير 2019، ص214.
[6] علي فارس حميد وآخرون، قمة الرياض: وهم القوة ومحنة المواجهة (رؤية تحليلية)، مجلة أبحاث استراتيجية، مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، بغداد، العدد 15، آب 2017، ص11- 21.
[7] أبو بكر الدسوقي، أمريكا الترامبية.. حسابات المكسب والخسارة، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 215، يناير 2019، ص82- 83.
[8] أحمد يوسف أحمد، ونيفين مسعد (محررين)، مرجع سبق ذكره، ص43.
[9] محمد كمال، ترامب ومستقبل النظام الدولي، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 215، يناير 2019، ص88.
[10] ألون بن مئير، إبطال صفقة إيران خطأ استراتيجي خطير.. على جنرالات ترامب منعه من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران!، قنطرة، 11/10/2017.
[11] تيتي إراستو، تطبيق خطة العمل الشاملة المشتركة في ايران… في التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي، الكتاب السنوي 2018، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص412 – 413.
[12] منال الريني، مرجع سبق ذكره، ص139- 140.
[13] US withdraws from Iran Nuclear Deal, Indirect Tax Alert, 14 May 2018. P. 1.
[14] أشرف محمد كشك، قراءة سياسية وقانونية للاتفاق النووي، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 214، أكتوبر 2018، ص82- 83.
انظر أيضا:
Michael R. Pompeo, A Letter from U.S. Secretary of State, In Outlaw Regime: A chronicle of Iran’s Destructive Activities, Iran Action Group, U.S. Department of State, p. 4.
[15] Brian H. Hook, In Outlaw Regime: A chronicle of Iran’s Destructive Activities, Iran Action Group, U.S. Department of State, p. 19.
[16] جاي سولومون، مرجع سابق، ص333.
[17] المرجع نفسه، ص14.
[18] أحمد يوسف أحمد ونيفين مسعد (محررين)، مرجع سابق، ص63.
[19] حسين سليمان، حدود استخدام النفط في الأزمة الأمريكية – الإيرانية، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 214، أكتوبر 2018، ص106.
[20] حسين سليمان، مرجع سابق، ص106.
[21] عمرو عبد العاطي، أمريكا ــ إيران.. من المهادنة الى المواجهة؟، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 214، أكتوبر 2018، ص86- 87.
[22] سليم الدليمي، العقوبات على إيران.. تحفز واشنطن وبراجماتية طهران، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 215، يناير 2019، ص207.
[23] محمد سعد أبو عامود، موقع إسرائيل في الأزمة الأمريكية – الإيرانية، مجلة السياسة الدولية، العدد 214، مرجع سابق، ص99.
[24] – جاي سولومون، مرجع سابق، ص197.
[25] بينت إحدى الدراسات أن إيران وجهت 65% من ميزانيتها العسكرية بعد الاتفاق النووي للحرس الثوري الإيراني, وهو القوة العسكرية التي تقوم بدعم كل الجماعات دون الدول في منطقة الشرق الأوسط, والإشارة إلى أن قسماً كبيراً من الأموال التي استعادتها إيران بعد رفع العقوبات عنها سوف تستخدم لتمويل أنشطة بعض المنظمات العسكرية التي تعدها واشنطن إرهابية. للمزيد من التفاصيل انظر: أحمد يوسف أحمد ونيفين مسعد (محررين)، مرجع سابق، ص36- 37. وأيضاً: أشرف كشك، توتر العلاقات الإيرانية – الخليجية.. الأسباب والتداعيات وآليات المواجهة، مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، المنامة، فبراير 2016، ص11- 12.
[26] Kenneth Katzman, Iran: Politics, Human Rights, and U.S. Policy, Congressional Research Service, Washington, May 21, 2018, p. 29.
[27] Outlaw Regime: A chronicle of Iran’s Destructive Activities, Iran Action Group, U.S. Department of State, p. 47.
[28] Iran: Internal Politics and U.S. Policy and Options, Congressional Research Service, March 6, 2019.
[29] محمد السعيد إدريس، محددات التعاون المصري – الخليجي في ضوء تطورات الأزمة الأمريكية – الإيرانية، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 214، أكتوبر 2018، ص129.
[30] Iran: Internal Politics and U.S. Policy and Options, Congressional Research Service, March 6, 2019, p. 28.
[31] محمد سعد أبو عامود، مرجع سبق ذكره، ص96.
[32] موسى الغرير، تأثير الملف النووي الإيراني في العلاقات العربية ــ الإيرانية، في مجموعة باحثين، العرب وإيران في مواجهة التحديات الإقليمية: الفرص وآفاق الشراكة، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، بيروت، الطبعة الأولى، 2017، ص160.
[33] عبد الستار قاسم، خنق إيران وخنق هرمز، مجلة شؤون الشرق الأوسط، العدد 141، مركز الدراسات الاستراتيجية، بيروت، شتاء/ ربيع 2012، ص90.
[34] محمد السعيد إدريس، محددات التعاون المصري – الخليجي في ضوء تطورات الأزمة الأمريكية – الإيرانية، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 214، أكتوبر 2018، ص129.
[35] دلال محمود السيد، هل ينتقل الشرق الأوسط إلى الردع النووي؟، ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 213، يوليو 2018، ص9.
[36] أحمد يوسف أحمد، ونيفين مسعد (محررين)، مرجع سابق، ص38.
[37] سعد شاكر شبلي، مرجع سابق، ص97.
[38] محمد صادق إسماعيل، مرجع سابق، ص253- 255.
[39] فراس عباس هاشم، الرؤى الاستراتيجية الأمريكية ومنطلقاتها الدعائية تجاه إيران، مجلة المستقبل العربي، العدد 485، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، تموز/ يوليو 2019، ص86.