تبرز إيران كمعضلة للولايات المتحدة الأمريكية, إلا أنها لا تستطيع غض النظر عن الأهمية التي تتمتع بها إيران كدولة ونظام سياسي, فأهمية إيران للولايات المتحدة ترتكز على موقعها الجغرافي, إذ تسيطر على التخوم الشمالية للشرق الأوسط, والطرق الاستراتيجية بين أوروبا وشرقي إفريقيا وجنوبي آسيا, ولديها ثلث النفط العالمي.
فالتجربة التاريخية في التعامل الأمريكي مع إيران بعد عام 1979, فضلا عن طبيعة التوجه الإيراني القائم على الصراع معها حكمت على سير العلاقات الثنائية بين البلدين والنظامين السياسيين، لكن المشكلة لا تكمن في إيران كدولة معادية بقدر ارتباط إيران بجملة متغيرات لعبت دوراً لتكون محددات للاستراتيجية الأمريكية.
ويفهم من ذلك أن الفهم الأمريكي للسلام, وطبيعة النظام الإيراني وتوظيفه لموقعه الجيو ستراتيجي في منطقة غير مستقرة أمنياً, فرضت قيوداً على الاستراتيجية الأمريكية, إذ استطاعت إيران استغلال قربها الجغرافي من المناطق غير المستقرة, والتي أصبحت تشكل مصلحة قومية أمريكية من أجل تقييد الاستراتيجية الأمريكية تجاهها وإشغالها بهذه المناطق, مثل العراق وأفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط.
“
وقد ساهم الدور الإيراني ومكانة طهران في الكثير من القضايا الاستراتيجية ذات الاهتمام العالمي عموماً والأمريكي خصوصاً في أن يكون عبئاً على الاستراتيجية الأمريكية ومصالحها ومصالح حلفائها, فضلا عن قضايا الإرهاب وأمن الطاقة, والتي ترى الولايات المتحدة أن إيران تمارس دوراً كبيراً في توظيفها لتحديد الاستراتيجية الأمريكية, وخلق هامش من الحركة لإيران للضغط على الولايات المتحدة.
“
وتنطلق الدراسة من فرضية أن العلاقات الإيرانية – الأمريكية مرت بمرحل وتقلبات عديدة حكمتها الاعتبارات السياسية والاقتصادية والأمنية, وبرزت كفاعل مهم في تطور ومسيرة هذه العلاقة, وتباينت رؤية الطرفين لقضايا العلاقات وأهميتها. ولإثبات هذه الفرضية يمكن تقسيم الدراسة إلى مطلبين وهما:
المطلب الأول:
العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية في عهد بوش الابن (2001 ـ 2009)
بنهاية الحرب الباردة وظهور النظام الدولي الجديد بزعامة الولايات المتحدة وبخلاف العديد من الدول التي وطدت علاقاتها بالغرب من خلال تطوير دورها، فإن إيران لم تتبع جمهور المنصاعين وإنما حجمت وحكمت معارضتها للنظام الدولي الجديد. إلا أن الموقف الإيراني قام على عدم تصعيد التوتر مع الحفاظ على الاستقلالية بقدر الإمكان؛ فاستمرت القيادة الإيرانية في تأكيد أن سياسة إيران تقوم على تخفيف التوتر وجهودها المضادة للإرهاب خاصة في أفغانستان، كما اتفق الجميع على أهمية الدور الإيراني وأنه لولاه ما كانت مأساة أفغانستان قد سويت بهذه السهولة.
وساعدت البراجماتية الإيرانية على هذا النهج إذ عمدت إلى إزالة مواطن التوتر أو المبررات كافة التي يمكن أن تسوقها الإدارة الأمريكية للتصعيد ضدها. وبدت خطوات عدة للتهدئة منها:
أ ـ عدم تسييس المحدد الأمريكي في رسم العلاقة الجديدة مع أفغانستان.
ب ـ التوحد الإيراني خلف دعم الحكومة الانتقالية الأفغانية.
ج ـ النقد الحاد الذي وجهه خاتمي لقادة الحرس الثوري بعد تهديدهم باستهداف آبار النفط والملاحة بمنطقة الخليج العربي إن منعت إيران من تصدير نفطها وطلب منهم عدم التدخل في قضايا السياسة الخارجية.
وقد مثّل الموقف من الحوار مع الولايات المتحدة بعدا داخليا أثر في حدود حركة ومناورة النظام الإيراني فيما يخص المسألة العراقية. فلقد تحسن مستوى الاتصالات بين طهران وبين واشنطن خلال الحرب الأمريكية في أفغانستان. ولكن يمكن عد المرحلة التي تلت تصريحات بوش التي جعلت من إيران محورًا للشر مرحلة ثانية مختلفة لفترة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وقد اختلف فيها الخطاب الأمريكي، ومن ثم جاء رد الفعل الإيراني مغايرا تبعا لذلك.
فلقد تصاعد العداء الأمريكي لإيران بوصفها أحد أضلاع مثلث الشر في العالم ومع تجدد احتمالات الحرب ضد العراق بدأت إيران تواجه خطر العدوان وسط تصعيد إسرائيلي مريب لوضع إيران على أولوية الأجندة الأمريكية لمحاربة الإرهاب. وقد مثّل خطاب بوش في أوائل 2002 صدمة شديدة للإيرانيين خاصة بعد ظهور حالة من التعاطف الإيراني مع الولايات المتحدة بعد أحداث أيلول (سبتمبر)، فضلا عن الدور المهم الذي لعبته إيران من أجل إعادة بناء الدولة الأفغانية ما بعد طالبان.
“
كان لهذا الخطاب آثار سلبية على التحسن الطفيف المتوقع في العلاقات الإيرانية – الأمريكية وتدعيم موقف المتشددين الذي يقوم على عدم إمكانية الثقة في الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد شكلت هذه التصريحات عاملا دافعا للوحدة قلما وجد، إذ تقاربت وجهات نظر المحافظين والإصلاحيين بشكل واضح.
“
وركزت معظم الكتابات الإيرانية على الطابع المحافظ لإدارة بوش والذي تكرس عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر). وأعلن أنه لا شك أنها أحداث أليمة ولكنه يجب عدم تجاهل السياسات الأمريكية الخاطئة والمواقف غير المناسبة للسياسيين الأمريكيين التي مهدت الطريق لهذه الأحداث، وأدت للخسائر الكبيرة للأمة الأمريكية.
في ظرف كهذا شدد الخطاب الإيراني الرسمي على أن المشكلة تكمن في الاستكبار غير المنطقي والرؤى الخاطئة التي يتبناها المسؤولون الأمريكيون حول المسائل الدولية وعن إيران، ومن المؤسف أن السياسة المتشددة قد شكلت جانبا من الإدارة الأمريكية وهي التي تقود العالم إلى الحرب بشكل يضر بالمصالح الدولية والأمريكية نفسها. ولكن في الوقت نفسه سعت الحركة الإصلاحية الإيرانية إلى عدم إغلاق أي إمكانية للحوار المستقبلي مع واشنطن حتى بعد تصريحات بوش العدائية تجاه إيران.
إلا أن موقف مرشد الثورة الرافض للحوار مع الولايات المتحدة كان خيبة أمل للإصلاحيين الذين كانوا يأملون بفتح الحوار مع واشنطن لتلافي العدوان الأمريكي خاصة أنهم يرون أن الولايات المتحدة ستتجه بعد تغيير النظام في بغداد إلى طهران.
وبذلك فإنه كلما فتح الحوار مبكرا كان للصالح الإيراني، وأفضل من أن يتأخر وتبدأ إيران المفاوضات من موقف أضعف. لكن لا يمكن تصور فتح أي حوار مع الولايات المتحدة بدون دعم مرشد الثورة. وبين المرشد أن أمريكا تتبع أربع وسائل في مواجهتها مع إيران, وهي:
1 ـ إيجاد الرعب بين مسؤولي النظام.
2 ـ إحداث الاضطراب في النظام.
3 ـ منع تقدم البلاد.
4 ـ إحداث توتر في المجتمع وخاصة الجامعات.
لذلك تسعى إيران لإحباط هذه الوسائل من خلال التحول في أسلوب الخطاب.[1]
وكانت الخارجية الأمريكية قد أرسلت في 12 شباط (فبراير) 2002 رسالة تهنئة لإيران عبر السفارة السويسرية تؤكد فيها رغبتها في الحوار وحل الخلافات من خلال حوار هادئ، وهي الرسالة التي كانت من ضمن عوامل أخرى دعمت من رؤية التيار الإصلاحي وبعدها قرر الرئيس خاتمي إطلاق يد لجنة إدارة الأزمة في إجراء حوار مباشر مع الولايات المتحدة. فقد أكد خاتمي أنه لا توجد عداوة بين الأمتين الإيرانية والأمريكية, لكن الحوار بين الحضارات والشعوب يختلف عن العلاقات السياسية, لتدرك واشنطن أن استراتيجيات الاحتواء المزدوج لم تؤد إلى النتيجة المطلوبة.[2]
فقد اعتمدت إدارة الرئيس كلينتون سياسة الاحتواء المزدوج لكل من إيران والعراق, فيما لجأت إدارة الرئيس بوش الابن إلى الحرب في العراق, والتهديد المباشر لإيران وللدول الأخرى في المنطقة. لكن الهدف كان واحداً للإدارتين, وتحديداً منع إيران من امتلاك القدرة النووية لأنها تضر بمصالح الولايات المتحدة وبالاستقرار في المنطقة.[3]
بحلول آيار (مايو) 2002 أكد الرئيس بوش الابن أن الخطر الأكبر على الولايات المتحدة يتمثل بالتكنولوجيا المميتة التي يمتلكها قلة من الإرهابيين, ويجب إلحاق الهزيمة بهذه التهديدات, وكانت الإشارة واضحة إلى إيران التي اتهمتها الإدارة الأمريكية بإيواء الإرهاب ودعمه والسعي لامتلاك السلاح النووي.[4]
“
استهدفت السياسة الأمريكية محاصرة إيران وإجبارها على الرضوخ للمطالب الأمريكية, أو على الأقل دفعها لتغيير مواقفها السياسية.
“
وقد انطلقت السياسة الأمريكية بالتركيز على قضايا عدة في مقدمتها دعم الإرهاب الدولي, فإيران الدولة الوحيدة المدرجة بشكل دائم في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول الإرهاب, وهي وفق الرؤية الأمريكية تدعم الإرهاب الدولي, كما أن لها علاقة ببعض الجماعات الإرهابية, مثل حزب الله, وحركة حماس, وإمدادها بالسلاح لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل, وهي بمثابة أذرع لإيران في المنطقة, وأن هناك تحالفاً راديكالياً يجمع هذه الأطراف, إضافة إلى سوريا، يهدد وجودها.
والتهمة الأخرى لإيران هي السعي لامتلاك أسلحة التدمير الشامل, وتزايد تركيز السياسة الأمريكية على قضية انتشار السلاح النووي, وربطها بظاهرة الإرهاب الدولي, وهما أخطر التهديدات الأمنية التي تواجهها الولايات المتحدة, ووضع البرنامج النووي الإيراني في مقدمة ما يشكل تهديداً للمصالح الأمريكية, وكرر الرئيس بوش الابن هذه الاتهامات في خطابه عن حالة الاتحاد في 31 كانون الثاني (يناير) 2006, مؤكداً أن الحكومة الإيرانية تتحدى العالم بطموحاتها النووية, وعلى دول العالم عدم السماح للنظام الإيراني بأن يحصل على سلاح نووي, وأن الولايات المتحدة ستواصل حشد العالم لمواجهة التهديدات الإيرانية.[5]
وكان للمحدد الأمريكي تأثير في الجدل العقائدي بين معسكري الساحة الإيرانية الداخلية حتى إنه قد تبلور لدى المحافظين الرغبة في عدم ترك الإصلاحيين يستأثرون بدور المحاور مع المسؤولين الأمريكيين وحدهم. وظهرت أقاويل حول لقاءين سريين بين مسؤولين إيرانيين في مجلس تشخيص مصلحة النظام مع مسؤولين أمريكيين في قبرص في بداية شهر نيسان (إبريل) 2002، وتلا ذلك تصريحات لآية الله هاشمي رافسنجاني يعلن فيها عدم وجود حظر على اللقاءات غير الرسمية بين الإيرانيين سواء أكانوا مثقفين أو برلمانيين مع نظرائهم الأمريكيين.
ثم جاء قرار رافسنجاني بتكليف كل من حسن روحاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي ومحمد جواد لاريجاني المنظر العقائدي للتيار المحافظ بدراسة إمكانية إجراء حوار مع الولايات المتحدة، وهو ما يعد بحق انتقالة في موقف المحافظين من مسألة الحوار مع الولايات المتحدة، حيث لابد لرافسنجاني من الحصول على موافقة مرشد الثورة قبل الإقدام على استخدام هذه القضية كمنطلقة للظهور الإعلامي بقوة في الساحة الإيرانية.
وأتى هذا التحول في الموقف المحافظ بعد حملة شرسة ضد البرلمانيين الذي قادوا حملة المطالبة بفتح الحوار مع الولايات المتحدة في ظل إدارة الأزمة الأفغانية ومسألتهم أمام المؤسسة القضائية وبعد رفض مرشد الثورة اقتراح رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي الذي اقترح في آذار (مارس) 2002 إجراء حوار برلماني بين البلدين. وبذلك بدأ الحديث عن وجود سباق غير ظاهر بين الجناحين في إدارة حوار فعّال مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت.
“
يمكن ملاحظة أن فكرة فتح الحوار مع الولايات المتحدة وإن اقتصرت في البداية على الإصلاحيين فإن التطورات الداخلية والدولية المتعاقبة دفعت المحافظين إلى التغاضي أحيانا عن بعض القنوات التي من المحتمل أن يفتحها الجناح الإصلاحي. وانتقلت بذلك قضية الحوار مع الولايات المتحدة إلى دائرة القضايا التي تتداخل فيها مواقف الإصلاحيين والمحافظين ولكن بدرجة أقل من قضايا أخرى مثل الحرية السياسية والتي تتداخل فيها الرؤى بشكل أكبر.
“
ومن الملاحظ أيضا أنه بعد تصريح الرئيس الأمريكي في 28 كانون الثاني (يناير) 2003، لم تتراجع فقط الانفراجة المتوقعة في العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية بل اتجهت لاتباع أساليب غير مباشرة فقط من أهمها المحور الأفغاني، وذلك بعد أن قامت قنوات اتصال مباشرة قبل ذلك عبر الأمم المتحدة بين مندوبي البلدين، ومن خلال لجنتي الاتصال بخصوص الشأن الأفغاني اللتين جمدتهما واشنطن وكذلك لجنة الأزمة التي شكلها الرئيس خاتمي للتعامل مع الشأن الأفغاني بعد أحداث أيلول (سبتمبر) وأعطى لها بعد ذلك إدارة حوار مباشر مع واشنطن.
وقد جاء التفعيل الأمريكي للقناة الأفغانية الجديدة بعد تدارك إدارة بوش مخاطر استبعاد إيران عن الساحة الأفغانية أولا وعلى المستوى الإقليمي والدولي عامة. واتضح ذلك جليا بعد ما مثّل السلوك الإقليمي الإيراني تحديا سافرا للولايات المتحدة يهدد مساعيها، فعلى سبيل المثال: بدا أن هناك احتمالا لتطوير إيران علاقاتها مع العراق من خلال تشكيل جبهة موحدة عراقية إيرانية في وجه المساعي الأمريكية لإعادة رسم المنطقة تحت ذريعة ما يسمى بمحاربة إرهاب دول محور الشر.
المطلب الثاني:
العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية والقضية النووية الإيرانية في عهد أوباما (2009 ـ 2017)
لقد أوضحت إدارة الرئيس بوش الابن بكل جلاء أن امتلاك إيران قنبلة نووية يعد تهديداً لا يمكن السكوت عنه. ويؤكد الرئيس بوش الابن “أن على المجتمع الدولي أن يوحد كلمته ليوضح لإيران بأنه لن يتساهل مع قيامها بصنع سلاح نووي, فإيران ستصبح مصدر خطر إن هي امتلكت سلاحاً نووياً… لن نتحمل قيام إيران بتطوير أسلحة نووية… الحكومة الإيرانية ليست على استعداد للتخلي عن برنامج تخصيب اليورانيوم القادر على إنتاج المواد التي تدخل في صنع الأسلحة النووية. وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها والوكالة الدولية للطاقة الذرية لتضمن وفاء إيران بالتزاماتها وبعدم تطوير أسلحة نووية”.[6]
وارتكزت الإدارة الأمريكية في هذه الأزمة على خمسة عناصر رئيسة:
أولها: الإصرار الدائم على نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات دولية عليها.
ثانيها: إبداء قدر من المرونة في طرح هذا الطلب في اجتماعات مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ثالثها: تكثيف الضغوط على الدول التي تقدم التكنولوجيا والمعرفة والمساندة الفنية للبرنامج النووي الإيراني.
رابعها: المزاوجة بين الخيار الدبلوماسي واحتمالات استخدام القوة العسكرية ضد إيران.
خامسها: تأكيد أن الخيار العسكري يظل وارداً بقوة, لاسيما في حالة انسداد فرص تسوية الأزمة سلميًا.[7]
“
هناك من عارض رؤية الإدارة الأمريكية هذه, وأكد أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من مشكلة فهم إيران, فغيابها لوقت طويل عن التواصل مع إيران وأن تكون موجودة في داخلها قد أضعف الفهم الأمريكي للواقع الإيراني الداخلي, ولدورها الإقليمي, ودينامياتها الخارجية.
“
فإيران أمة ذات إرث تاريخي عريق, وينبغي أن يكون لها دور مهم في المنطقة, وهناك العديد من الاعتبارات التي تقف في طريق شن هجوم عسكري عليها, فالعمل العسكري الأمريكي سوف يكون عملا من أعمال الحرب في غياب تهديد إيراني وشيك, ما سيضاعف من ردود الفعل الإيرانية المختلفة, وسيرفع بشكل سريع أسعار النفط, ويؤثر في الاقتصاد العالمي, وبالنتيجة ستكون الولايات المتحدة هدفا للإرهاب وأكثر عزلة, وبعيدة عن حلفائها الإقليميين.[8]
بدأ الرئيس أوباما عهده برغبته في سلوك القنوات الدبلوماسية تجاه إيران, عبر توجيه نداء إلى الشعب والقيادة في إيران, عرض فيه بداية جديدة لحوار دبلوماسي يطوي صفحة ثلاثة عقود من الخلاف المستحكم بين البلدين عبر الانخراط النزيه المبني على الاحترام المتبادل كبديل عن التهديدات, والاستعداد للحوار المباشر دون شروط مسبقة, من خلال مجموعة الدول الست, وصولا إلى تفاهم يتيح لإيران تطوير برنامج نووي سلمي وينزع فتيل الأزمة بين الجانبين.[9]
وأطلق أوباما على سياسته اسم سياسة المسارين تجاه إيران وهما:
المسار الأول: زيادة الضغوط المالية.
المسار الثاني: منح قادتها نافذة من الانفتاح الدبلوماسي للتوصل إلى اتفاق بشأن القضية النووية.
وجه رسالتين سريتين للمرشد الأعلى بعد أشهر فقط من توليه منصبه عام 2009, واستجاب المرشد الأعلى للمرة الأولى بالتواصل المباشر مع الولايات المتحدة, في محاولة من قبل الولايات المتحدة لإنهاء البرنامج النووي, وبما يمهد الطريق أمام الطرفين للتعاون معاً على استقرار البلدان القابلة للاشتعال في الشرق الأوسط, بما في ذلك العراق وأفغانستان, ولاحقا سورية. ويمكن أن يساعد التقارب أيضاً في مد الجسور مع العالم الإسلامي الأوسع نطاقاً.[10]
وتضمن عرض الحوار الأمريكي ثلاثة جوانب مهمة هي:[11]
الجانب الأول: احترام حق إيران في امتلاك الطاقة النووية ضمن معاهدة حظر الانتشار النووي والالتزام بالبرتوكول الإضافي.
الجانب الثاني: التخلي عن هدف تغيير النظام الإيراني والعمل على ترتيبات إقليمية تعترف بوزن إيران الإقليمي.
الجانب الثالث: التطبيع الكامل للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين شريطة وقف إيران دعمها للإرهاب.
حاولت إدارة الرئيس باراك أوباما مكافحة الانتشار النووي, وإقامة عالم خالٍ من الأسلحة النووية, ومقاربة تقوم على التلويح بالانفتاح, وصولاً إلى استكشاف فرص إبرام صفقات كبرى ذات طابع مؤقت, مع إيران.
وعرضت الإدارة فتح قنوات حوار مباشر واسع النطاق مع إيران, ووجه الرئيس أوباما رسالة في آذار (مارس) 2009 لقادة إيران وشعبها, تصلح مثالا لطبيعة دبلوماسيته العامة إقليمياً, وربما انطوت ضمناً على رفضه خياري الضربات الاستباقية وتغيير النظام.[12]
وطرحت واشنطن مبدأ المسار المزدوج بمعنى الضغط واستخدام العقوبات لتحقيق الأهداف, من دون اللجوء إلى الحل العسكري إلا اضطراراً وعلى نحو محدود, وتأكيد الإدارة على أهمية الحلول السياسية مع روسيا وإيران, وقد سوّغ الرئيس أوباما ذلك بأن أمريكا أمة استثنائية في القيم والمبادئ الأخلاقية, واتباع سياسة استثنائية للحفاظ على سمعة الولايات المتحدة والتبشير بمبادئها.[13]
لكن الاستراتيجيات الأمريكية المتعاقبة لم تتضمن خططاً واضحة لإقامة أمن إقليمي حقيقي ينبع من المنطقة, ويعبر عن مصالح أطرافها كافة, بل عملت على استبعاد فرص إقامة أمن تعاوني, وكرست الأمن الاستراتيجي, الذي ولّد العديد من الحروب في المنطقة. ولم تستهدف هذه الاستراتيجيات الحفاظ على أمن منطقة الخليج بشكل مستقل وفقا لأهميتها البالغة للأمن القومي الأمريكي خاصة, والدول الغربية عامة, وإنما جاءت ضمن الصراع العالمي, والحيلولة دون ظهور قوة إقليمية تهدد المصالح الغربية في المنطقة.[14]
“
لا يمكن عزل الملف النووي الإيراني عن طبيعة العلاقات الأمريكية – الإيرانية والذي يثير الاهتمام والمخاوف والضغوط والتهديدات. وأن هذه الأزمة المفتوحة التي تهدأ حيناً وتشتعل حيناً آخر ستبقى على حالها من التردد والتفاوض, وتحت سيف التهديد الأمريكي, وإعادة هذه الأزمة ممكن في أي وقت, وكذلك استئناف التفاوض وتبادل الاقتراحات لأن المطلوب هو تقييد إنتاج إيران للطاقة النووية وتأخير هذا الإنتاج وجعله في حده الأدنى, حتى لا تتمكن من تحويله إلى السلاح النووي.
“
ومن الطبيعي أن يستمر التجاذب بهذا الشأن النووي طالما استمرت استراتيجية المصالح الأمريكية على حالها في حماية أمن إسرائيل وفي عزل واحتواء أدوار الدول الإقليمية المهمة.
وكل ذلك لن يمنع ـ على الرغم من كل الجهود المبذولة والعراقيل والتهديدات الموجهة إلى إيران ـ من أن يجد المجتمع الدولي نفسه أمام إيران نووية في السنوات القليلة المقبلة.[15]
واعتمدت الولايات المتحدة أسلوب إيجاد تحالفات سياسية في التعامل مع قضية البرنامج النووي الإيراني, وبرز ذلك من خلال الآتي:[16]
أ ـ التحالفات الأمنية ودعم الحلفاء من دول الخليج العربي, ودعم هذه الدول في مواجهة التهديد الإيراني وتزايد القدرات العسكرية. وتعزيز قدرات الردع لدى الحلفاء, وتضخيم ثقة حلفائها العرب بأنفسهم.
ب ـ التنسيق الوثيق مع إسرائيل حليفها الاستراتيجي في المنطقة, وتعزيز القدرات الاستخبارية داخل إيران من أجل تحديد أهداف الغارات الجوية وشن عمليات داخلية لزعزعة الأمن, والسعي لإثارة الخلافات الإثنية والطائفية داخل إيران تحسباً وتحضيراً لحرب مقبلة.
ج ـ ممارسة الضغوط على الدول الداعمة للأنشطة النووية الإيرانية, وتحديداً روسيا الاتحادية بوصفها الدولة الأكثر تعاوناً مع إيران في تطوير قدرات البرنامج النووي.
مجمل ما أعلاه أن الاستراتيجية الأمريكية لأمن الخليج والتعامل مع إيران في الفترة محل البحث نهضت على أربعة عوامل، وهي:
1 ـ التحكم في شبكة المعلومات الأمنية والعسكرية للمنطقة.
2 ـ تأمين صفقات التسلح وضمان عدم استخدامها ضد المصالح الأمريكية.
3 ـ ربط أمن الخليج بمنظومة الدرع الصاروخية الأمريكية.
4 ـ الاحتواء المزدوج لإيران والعراق.
ــــــــــــــــــــ
[1] محمد السعيد عبد المؤمن، العلاقات مع أمريكا بين خامنئي ورفسنجاني، مجلة مختارات إيرانية، العدد 142، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، مايو 2012، ص61- 62.
[2] ريتا فرج، إيران والنفوذ الإقليمي من الخمينية إلى النجادية، مرجع سابق، ص436- 437.
[3] إياد سكرية، إيران والشرق الأوسط بعد أحداث 11 أيلول 2001 حتى عام 2010، دار المنهل اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، ص146.
[4] شحاتة محمد ناصر، السياسة الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي, الاستمرارية والتغيير، دار العين للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015، ص203.
[5] أشرف سعد العيسوي (معداً)، السياسة الأمريكية تجاه النظام الإقليمي الخليجي (2001 – 2008)، مركز الخليج للدراسات، دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر، الشارقة، 2010، ص239 ـ 241.
[6] نقلاً عن: جيفري كيمب، تأثير البرنامج النووي الإيراني في أمن الخليج، في جمال سند السويدي (محرراً)، الخليج: تحديات المستقبل، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2005، ص246- 247.
[7] أحمد إبراهيم محمود، البرنامج النووي الإيراني.. آفاق الأزمة بين التسوية الصعبة ومخاطر التصعيد، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2005، ص189.
[8] نصار الربيعي، خبراء السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، دار الكتب العلمية، بغداد، الطبعة الأولى، 2018، ص452- 453.
[9] بشير عبد الفتاح، واشنطن وطهران.. هل مازال التقارب ممكناً؟، ملف الأهرام الاستراتيجي، العدد 177، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، سبتمبر 2009، ص103.
[10] جاي سولومون، حروب إيران, ألعاب الجاسوسية, والمعارك المصرفية, والصفقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط، ترجمة: فواز زعرور، دار الكتاب العربي، بيروت، 2017، ص198- 199.
[11] شحاتة محمد ناصر، مرجع سابق، ص309- 310.
[12] ماثيو رودس، الولايات المتحدة الأمريكية الزعامة ما بعد القطبية الأحادية، في جرايمي هيرد (محرراً)، القوى العظمى والاستقرار الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين, رؤى متنافسة للنظام العالمي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2013، ص193.
[13] عبد الحسين شعبان، في ثلاثية الإرهاب الدولي.. المراوحة والمناورة ومحاور التوظيف، مجلة حمورابي للدراسات، العدد 7، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، بغداد، تشرين أول (أكتوبر) 2013، ص11.
[14] أشرف محمد كشك، مراجعات تكتيكية: أبعاد السياسة الأمريكية تجاه أمن الخليج، مجلة السياسة الدولية، العدد 195، يناير 2014، ص10- 11.
[15] إياد سكرية، مرجع سابق، ص156- 157.
[16] سعد شاكر شبلي، السلوك الدولي تجاه أزمة البرنامج النووي الإيراني، دار زهران للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2014، ص93- 95.