يحتل الإعلام مكانة متقدمة في أولويات النظام الإيراني الذي يعتمد على آلة ضخمة من الوكالات الإخبارية والصحف اليومية المطبوعة والمواقع الإلكترونية والأقنية الفضائية في مصفوفة سياساته الداخلية والخارجية على حد سواء، ولئن أخذ الإعلام موقعه في صدارة تراتبية صنع القرار بهذا النظام؛ إلا أن موقعه أكثر تقدما خاصة في رسائله تجاه العالم العربي من حيث معالجته الرؤية الرسمية لسياسات بلاده تجاه الدول العربية أو حتى إبداء الرأي في القضايا محل الاهتمام في هذا الصدد، ولعل الأحداث الأخيرة في غزة برهنت على تلك الزاوية في تحليل سياسات النظام الإيراني الراهن.
ومن خلال العرض التالي نحاول تقصي حقيقة موقف إيران من العدوان الإسرائيلي على غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى من خلال شرائح طولية لبعض الصحف ومراكز الفكر في هذا البلد.
أولا: الصحف الإصلاحية
(1)
نبدأ مع صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية (تعني باللغة العربية: الآمال الوطنية) التي ركزت على اللقاء الذي جمع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في طهران يوم الإثنين 6 نوفمبر 2023 وقالت الصحيفة إن قائد الثورة شدد على ضرورة أن يتزايد الضغط السياسي من جانب العراق على أمريكا والكيان الصهيوني.
ولفتت الصحيفة إلى الأهمية التي يوليها النظام الإيراني للعراق باعتباره جزءا من محور المقاومة ضد أمريكا وإسرائيل.
****
(2)
نطالع في صحيفة “اعتماد” (تعني باللغة العربية: الثقة) وهي إحدى أهم الصحف الإصلاحية الصباحية في طهران نظرا لطبيعة معالجتها للقضايا السياسية بشكل شامل، إلى جانب اهتمامها في بابي “العالم” و”الدبلوماسية” بالقضايا العربية وإفراد جزء كبير من صفحتها الأولى لمقالات الرأي والتحليلات السياسية، نطالع مقالا تحليليًا مهما بعنوان: “أيهما أصعب: بدء الحرب أم إنهاؤها؟!”.
في هذا المقال يقارن الكاتب محمد دروديان بين الحرب الراهنة في أوكرانيا وغزة وبين خبرة إيران في الحرب مع العراق (1980 ــ 1988) وقال إن كل حرب تحكمها أربع محددات في البداية، وهي: “المبالغة في قوة الطرف الآخر أو ضعفه ــ معادلة الردع واستخدام المفاجأة ــ التنسيق مع الفاعلين الخارجيين ــ المقدرة على الاستمرار في الحرب أو إنهائها”.
وخلص الكاتب إلى أن إدارة استمرار الحرب واتخاذ القرار بإنهائها أصعب مقارنة بقرار بدء الحرب، موضحا أنه قد يكون من السهل بدء الحرب بسبب الحسابات الذهنية لدى الطرف البادئ، لكن بلا شك بعد الكشف عن طبيعة الحرب وتكاليفها مقارنة بالإنجازات، سيكون من الصعب إنهاء الحرب وسيؤدي ذلك إلى تشكيل منطق الحرب الطويلة والواسعة.
ولذلك فإن الفهم العميق لطبيعة الحرب وعواقبها سيلعب دورا أساسيا في إدارة الردع وتجنب الحرب، إلا إذا كانت العواقب الضارة لتجنب الحرب أكثر من عواقب الحرب ذاتها، وفق الكاتب.
****
(3)
نبقى مع الصحف الإصلاحية والآن نقرأ في صحيفة “أفتاب يزد” (تعني باللغة العربية: شمس يزد) ويزد هي محافظة إيرانية تقع في وسط البلاد، وقد أجرت حوارا مع الدكتور عبد الرضا فرجي راد، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة طهران، وهو يركز على المقاربة الجيوسياسية لأوروبا مع أزمتي أوكرانيا وغزة.
ويرى فرجي راد أن الاتحاد الأوروبي يمر الآن بالوضع نفسه الذي عاشه في الأيام الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا فبراير 2022، بمعنى أن الدول الأوروبية المهمة (ألمانيا ــ فرنسا ــ المملكة المتحدة) توصلت إلى استنتاج مفاده أنه لا جدوى من مواصلة الحرب في أوكرانيا، ولا بد من الاستعداد لوقف إطلاق النار الدائم أو حتى السلام.
ويشير إلى أن الاتحاد الأوروبي يمارس ضغوطا الآن على البيت الأبيض لكي يصل إلى النتيجة نفسها في غزة، وهي أنه لا جدوى من مواصلة إسرائيل الحرب ضد قطاع غزة، ويجب التوصل فورا إلى قرار وقف إطلاق النار في القطاع.
****
ثانيا: الصحف المحافظة
(4)
انتقالا إلى الصحف المحافظة، نتجه إلى صحيفة اطلاعات (معاناها باللغة العربية: المعلومات) والتي تعتبر أقدم الصحف في إيران.
وفيها نشرت الكاتبة والمحللة، جميلة كديور، مقالا مهما عن الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزة، بعنوان: هل إسرائيل هي التي أنشأت حماس؟
وفي المقالة فندت الكاتبة ما وصفتها بالأكذوبة التاريخية التي حاولت إسرائيل ترديدها عن أنها هي التي أنشات حماس من أجل ضعضعة حركة فتح، وترى الكاتبة أن كل الأحداث التاريخية انتهاء بأحداث فجر السابع من أكتوبر 2023 أثبتت كذب الزعم الإسرائيلي القائل إن تل أبيب كانت من المستفيدين من تعاظم قوة حماس في غزة.
ولفتت إلى أن إسرائيل أخطأت عندما وضعت حماس في المرتبة الرابعة ضمن قائمة التهديدات المحتملة بعد إيران وسوريا وحزب الله، مؤكدة أنه اتضح لتل أبيب أن حماس هي على رأس قمة قائمة التهديدات وليست في المستوى الرابع.
****
(5)
لا يمكن أن نحلل المحتوى الإعلامي الإيراني من دون أن نتطرق إلى صحيفة “كيهان” (معاناها باللغة العربية: العالم) التي تعد إحدى أهم وأشهر الصحف الإيرانية وتصدر بثلاث لغات هي: الفارسية والعربية والإنجليزية، وتعتبر أكثر الصحف محافظة في إيران، كما تعتبر من أقدم الصحف بعد صحيفة اطلاعات.
وقد أفردت الصحيفة جانبا من تغطيتها للأحداث في غزة لتصريحات أدلى بها رئيس تحرير الصحيفة حسين شريعتمداري المقرب للغاية من المرشد علي خامنئي، في حفل افتتاح إذاعة المقاومة يوم 5 نوفمبر 2023 مع مرور 30 يوما على تلك الحرب.
وقال شريعتمداري إن أمريكا ربطت ذيلها بذيل حصان خاسر، وهو إسرائيل، معتبرا أن عملية طوفان الأقصى هي بداية نهاية النظام الصهيوني، وأنها أثبتت أن هذا النظام يفشل كل مرة في توفير الأمن برغم امتلاكه كل الأدوات اللازمة لذلك.
وكشفت الصحيفة عن تطور مهم في الاجتياح البري لغزة، وهو تكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في مواجهة قوى المقاومة؛ لذلك لجأ الاحتلال إلى الاستعانة بمرتزقة أجانب للحد من الخسائر الكبيرة في الأرواح.
****
(6)
انتقالا إلى صحيفة “جام جم” الناطقة باسم هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، ويعني اسم “جام جم” باللغة العربية: “الكأس الزجاجي”، وهو معنى ذو دلالة تاريخية نسبة إلى كأس اشتهر به الملك الفارسي الأسطوري “جمشيد”.[1]
نطالع في الصحيفة مانشيتها الرئيس بعنوان: “تقرير ملحمة المقاومة”، وفي هذا الموضوع تقول الصحيفة إن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التقى مع آية الله علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في طهران، وفي هذا اللقاء قدم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس تقريرا حول آخر التطورات في غزة وجرائم النظام الصهيوني في غزة، فضلا عن التطورات في الضفة الغربية.
وتنقل الصحيفة عن خامنئي أنه ثمن صبر ومثابرة أهل غزة الصامدين، وأعرب عن أسفه العميق لجرائم النظام الصهيوني التي يرتكبها بدعم مباشر من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية.
وأكد خامنئي على السياسة الثابتة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في دعم قوى المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني. كما أكد آية الله خامنئي على ضرورة التحرك الجاد من قبل الدول الإسلامية والمنظمات الدولية لتقديم الدعم الشامل والعملي لشعب غزة.
****
ثالثا: مراكز الفكر والدراسات
(7)
يعد “معهد أبرار للدراسات والبحوث الدولية المعاصرة ـ طهران” من مراكز الفكر النشطة حاليا في العاصمة الإيرانية، وقد نشر مقالا مهما للباحث حسین آجورلو، بعنوان: “عملية طوفان الأقصى وأفول القصة الصهيونية على الساحة الدولية”.
ويرى آجورلو أن عملية طوفان الأقصى أدت إلى 3 نتائج مباشرة تصب في صالح القضية الفلسطينية مثل: “البرهنة على الفشل الاستخباراتي والعسكري للكيان الصهيوني ــ إضعاف عملية التطبيع التي كانت تل أبيب تخطط لها مع الرياض ــ تحسين مستوى قوة محور المقاومة”.
ويضيف أن هذه العملية كان لها أيضا بعد آخر، وهو تراجع صدقية القصة الصهيونية على الساحة الدولية؛ وهي قصة تقوم على ادعاء الحق لأقلية نازحة من مظلومية المحرقة، وقد سيطرت بقوة السلاح على أرض ليست أرضها وطردت منها الشعب الأصلي والسكان العرب بدعم غربي واسع النطاق.
ويشير إلى أن الصهيونية العالمية تفقد اليوم زخم تلك القصة بعد الإدانات المتكررة من منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة والأونروا وغيرها من المنظمات الدولية، وبالتالي أدت عملية طوفات الأقصى وما استتبعها من عدوان إسرائيلي على غزة إلى تراجع الصورة الذهنية عن إسرائيل على الساحة الدولية.
رابط مرجعي:
مقابلة للدكتور محمد محسن أبو النور مع الكاتب الصحفي سيد جبيل على قناة نعرف عبر يوتيوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الملك جمشيد هو شخصية تاريخية أسطورية (غير واقعية) ذكرها الفردوسي في كتاب الشهنامة، ويشار به إلى القوة، كما يشار بكأسه إلى أداة كان ينظر فيها فيرى العالم الخارجي.