هذا العام ليس ككل الأعوام، فمنذ أن رحل الشاه محمد رضا بهلوي يوم 27 يوليو بالعام 1980 تحرص زوجته الأخيرة الإمبراطورة “الشهبانو” فرح بهلوي على تنظيم وحضور مراسم عزاء إجلالا لذكراه، وتضع إكليلا من الزهور أمام قبره الرخامي المهيب الكائن في مسجد الرفاعي بحي القلعة، لكن هذا العام قُدِّر للشهبانو الغياب للمرة الأولى منذ سنوات طويلة؛ بسبب توقف حركة الطيران على خلفية تداعيات تفشي مرض كوڤيد – ١٩.
هذا التغيب لم يحدث في أربعين عاما إلا لظروف نادرة مثل: عدم الاستقرار السياسي الذي أعقب ثورة ٢٥ من يناير بالعام ٢٠١١، ومن يحضر تلك المراسم كل عام أو يقرأ عنها، يرى الحزن والشجن شاخصا ومخيما على الأجواء، وفيها تلقي فرح خطابا لمحبي الأسرة البهلوية مفعما بالحزن على رحيل زوجها وما آلت إليه إيران، من وجهة نظرها.
وبالرغم من كل هذا الحزن في تلك الأجواء الدرامية التراجيدية إلا أن مراسم العزاء كانت تعني أن فرح لديها متسع من المكان والزمان لتفريغ شحنة الشجن التي تصاحبها منذ العام 1979 وحتى الآن، وبالتالي تخفف زيارتها لضريح زوجها ألم الرحيل ومأساة حياة الوحدة الموحشة في باريس، لكنها هذا العام لم تتمكن حتى من أن تحزن، ولا من أن تعبر عن الأسى الساكن في داخلها؛ لذلك فإن الكلمة الأكثر دلالة التي يمكن وصف حياة فرح ديبا بها هي “الدراما”.
“
المتتبع لتاريخ هذه السيدة يرى الشجن عَلَمًا على سيرة حياتها تلك التي مرت بعدد بالغ من مراحل الأسى والفقد والحرمان.
“
ولعل أخطر هذه المراحل على الإطلاق ليس عدم تمكنها من إقامة مراسم العزاء هذا العام، لكن حين رأت زوجها أقوى رجال الشرق الأوسط وإمبراطور البترول والشرطي الفعلي لمنطقة الخليج العربي يقصى عن الحكم ويغادر بلاده بعد نحو 38 عاما قضاها على عرش الطاووس، أو كما يوصف فى بلاد فارس “العرش الشاهنشاهي المنيع”.
ومن خلال العرض التالي يمكن إلقاء الضوء على هذه المراحل الثلاث.
المرحلة الأولى: الثورة والرحيل
ولدت فرح ديبا فى 14 أكتوبر من العام 1938م، ومنذ نعومة أظافرها عاشت حياة منعمة ومرفهة، فهي ابنة للجنرال العسكرى، سُهراب ديبا، الذي كان يعمل ضابطا في الحرس الإمبراطوري الإيراني، وينحدر من أذربيجان الإيرانية لعائلة شديدة الثراء والعراقة، وشغل جدها منصب سفير بلاد فارس لدى موسكو (قبل أن يحولها الشاه رضا بهلوى إلى اسم إيران) ورفلت في النعيم وتعلمت في المدارس الفرنسية وتنقلت بين طهران وباريس، كما يتنقل المرء بين غرفتي المعيشة والنوم في منزله.
بين عشية وضحاها تحولت حياتها جذريا، عندما رآها الشاه الإيرانى محمد رضا بهلوي، فى حفل أقامته السفارة الإيرانية بباريس، وهو الرجل المثقل بالأسى والمحمّل بخيبة أمل من زيجتين لم يكتب لهما النجاح والاستمرارية.
“
وقتها وقعت عينا الشاه على الفتاة الرشيقة فارعة الطول، والتى تبلغ من العمر 21 عاما، فأسرته حتى أعمق الأعماق ومن فوره قرر أن تحمل اسمه وتكون شريكة حياته.
“
استمر الزواج سعيدا هانئا ولم يمض وقت طويل حتى أنجبت ديبا الولد، رضا بهلوي الثاني، يوم 31 أكتوبر بالعام 1960م، الذي كان يتمناه الشاه وأصبح ابنها وليا للعهد الشاهنشاهي وتربعت على قمة السلطة كزوجة للإمبراطور وأم محتملة للإمبراطور المحتمل.
بين عشية وضحاها انقلب الوضع تماما في طهران، وثارت البلاد ضد زوجها في أكتوبر 1977، ومع الثورة العارمة التي امتدت إلى بداية العام 1979 اضطر إلى مغادرة بلاده فى يوم 16 من يناير بالعام 1979م، متوجها إلى مصر وكانت تلك أولى مراحل الشجن الكبرى في حياة فرح، التي رأت زوجها فيها هشا ضعيفا لا حول له ولا قوة، مغادرا عرشه وعرينه وهيلمانه، بعد أن كان ذات يوم الرجل الأقوى في الإقليم برمته.
المرحلة الثانية: انتحار الأميرة الحزينة
ولدت الأميرة ليلى بهلوي في طهران يوم 27 من مارس بالعام 1970م، وكم مثّل قدومها إلى الدنيا فرحة لا تضاهيها فرحة، لأبيها وأمها، وكانت بمثابة آخر حبة حلوة في عنقود الأسرة البهلوية المتربعة على عرش الشاهنشاه منذ 45 عاما.
كانت ليلى نضرة مشعة لا تقل جمالا عن أمها ورثت من أمها العنفوان والجمال، لكنها ورثت من أبيها هشاشة في الذات، وحين غادر أبوها السلطة كان عمرها 9 سنوات ولم يمكنها عودها الطري الأخضر من احتمال حياة المذلة والانتقال بين بلاد الله بعد أن كانت أهم طفلة في بلاد فارس وربما في البلاد المجاورة.
“
تنقلت ليلى مع أمها من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى المغرب وبنما وإلى مصر مرة أخرى وأخيرا إلى باريس بعد رحيل والدها فى 27 يوليو بالعام 1980م.
“
احترفت ليله الترجمة ولأنها تتقن الفارسية والفرنسية والإنجليزية اكتسبت قوتها من تحويل النصوص بين اللغات الثلاث، لكنها عاشت تعيسة تعاني من مرض الأرق النفسي ومن مرض فقدان الشهية العصبي ونادرا ما كانت تخلد إلى النوم بسبب الكوابيس والأحلام البشعة التى تراها في ليلها على خلفية الدعاية والأخبار التي تقرأها عن “فساد أبيها” و”فساد عمتها الأميرة أشرف”، وفق ما تنشره القنوات والصحف حول العالم.
في صباح يوم الأحد 10 يونيو من العام 2001 تلقت فرح ديبا أسوأ خبر يمكن أن تتلقاه أم، حين عرفت أن ابنتها وحبة قلبها انتحرت في غرفتها وعلى سريرها فى فندق ليونارد بلندن بعد تناولها جرعة زائدة قدرت بخمسة أضعاف الجرعة القاتلة من دواء “سيكونال حامض برتيوريت” والذي يستخدم لمعالجة الأرق إذ تناولت 40 حبة من الدواء بدلا من حبتين.
ويبدو أن الجسد الفارسي الملكي النحيل الممشوق والمنحوت على وقع العذابات والآلام، والبالغ أقصى ذورة فى شبابه، لم يتحمل الجرعة الرهيبة فلقي نهايته في عالم مفعم بالأحزان والشجون، وخلّف في قلب أمه جرح لم يندمل برغم مرور السنين.
المرحلة الثالثة: انتحار نجم العائلة
ثانى اثنين صبيين ولدا لفرح ديبا وزوجها الشاه، الأمير علي رضا بهلوي الذي عاش بين يومى 28 إبريل 1966 و4 يناير 2011م، حياة متقلبة تنقل فيها بين كونه الابن الثاني للشاه وولي ولي العهد والفتى الوسيم المرغوب من كل بنات فارس، وبين الترحال بالبلاد والعباد طريدا في أوروبا وأمريكا بفعل زخم الثورة وفعل الثوار.
كان علي وسيما يحب الحياة ونال منها كما نالت منه، وأهلته نزعاته الشخصية إلى دراسة الفن والحضارة، وبالفعل حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون من جامعة برنستون ودرجة الماجستير في الفنون من جامعة كولومبيا، وقبل وفاته سجل درجة الدكتوراه في جامعة هارفارد الأمريكية متخصصا في الدراسات الفارسية القديمة وحضاراتها، لكنه لم يمهل نفسه الوقت ليصبح أول حامل للدرجة العلمية الرفيعة في أسرته.
يا للحزن ويا للشجن، سيدة تفقد عرشها وتفقد ولدين لها فى حياتها.
كيف تحملت فرح ديبا كل هذا الألم؟! كيف صبرت على فراق فلذتي كبدها على هذا النحو؟! كيف تمكنت من التقلب بين نيران الفقد والنوى من دون أن يجن جنونها أو تفقد صوابها؟! كيف استحال قلبها إلى مضغة تعتصرها الدموع وواصلت حياتها بإيمان ويقين؟!
“
دق جرس هاتف فرح ديبا في يوم الثلاثاء بالساعة الثانية والنصف صباحا، الرابع من شهر يناير عام 2011م، فعرفت أن ابنها الأمير علي رضا بهلوي انتحر في شقته بـ”ساوث إند” القريبة من بوسطن بولاية ماساتشوستس بعد معاناته من الاكتئاب.
“
قتل الأمير الشاب نفسه رميا بالرصاص وتوفي متأثرا بجراحه في الساعة الثانية صباحا، تاركا وراءه أُمّا اعتادت على الأسى ومرت على محطاته بصبر ويقين، مسلمة نفسها إلى هويتها وقضيتها ووفائها لزوجها الذي تحرص على تحويل حزمة سنوات حياتها معه إلى حزمة من الزهور تضعها برفق ومودة أعلى قبره ومشهده في مسجد الرفاعى بحي القلعة بالقاهرة يوم 27 يوليو من كل عام.