“الثورة لا تصنع ولا تتوقف، الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به من أحد أبنائها منحها البوصلة الصحيحة بفعل الانتصارات”، هكذا قال نابليون بونابرت، بيد أن الثورة غير الناضجة عبارة عن شعارات تنادي باقتلاع شجرة الفساد وتحقيق العدالة، والتخلص من دكتاتورية الحاكم المستبد لكن حقيقتها تكمن في نزع ديكتاتور لتحقيق مصالح ديكتاتور آخر.
يحضرنا في هذا السياق مشاهد جسدها فيلم أشهر سبتمبر من شيراز Septembers of Shiraz الذي جسد جانبا من بدايات الثورة الإسلامية الإيرانية غير الناضحة، والتي تبعتها توترات واضطرابات عانت منها القومية الفارسية وأتباع المذهب الشيعي إلى جانب القوميات غير الفارسية وأتباع الديانات الأخرى غير الإسلام بوجه خاص.
شهور سبتمبر في شيراز
يجسد هذا الأمر فيلم “أشهر سبتمبر من شيراز” وهو عمل درامي أمريكي مأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه كتبتها الروائية الإيرانية ـ الأمريكية داليا سوفير، وأخرج المخرج الأسترالي ويني بلير. نشرت الرواية عام 2007 وأنتج الفيلم وعرض في عام 2015. صنفت الرواية بأنها أولى الروايات التي سردت أحداث واقعية عن إيران بعد ثورة 1979، جسدت فيها الكاتبة أحداث حقيقية عاشتها مع والديها إسحاق أمين وزوجته فرناز في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران.
هذا الفيلم ضمن الأفلام التي يعمد فيها المخرج على وضع دلالات؛ لتكون سببا لشد انتباه حواس المشاهد، وذلك بذكر حادثة ما أو كتابة مقولة ذات مدلول أو الإشارة إلى واقعية الأحداث التي ستعرض، أما فيلمنا فكانت بدايته بالإعلان عن واقعيته.
الحوامل الدلالية للفيلم
الحوامل الدلالية للمشاهد الأولية كانت وصف رغد العيش للبطل إسحاق أمين مع عائلته واحتفاله بنجاح ابنه استعدادًا للالتحاق بالجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن وجهة نظر المخرج (point of view) كانت الغالبة منذ بداية الفيلم حيث عمد على إظهارها من خلال المشاهد واللقطات والإطارات التي توضع الشخصية بداخله. مثال هذا مشهد احتفال (إسحاق أمين وعائلته) جعل المخرج فيه إطار (Frame) الممثل إسحاق أمين في الحديقة أكثر اتساعا مما فيه من دلالة على الراحة والحرية التي يشعر بها البطل فلم يشرك معه شخصا آخر في خلفية اللقطة. فجاءت لقطته في بداية الفيلم كالآتي:
بعدها تنقلنا المشاهد لنتعرف أكثر على الوضع الاجتماعي السياسي للأسرة اليهودية الثرية التي يملك الوالد فيها مصنعا للمواد الخام بالإضافة إلى مهنته كصائغ، وقد حاز على سمعة حسنة جعلت زوجة الشاه تفضل التعامل معه لجودة أحجاره وهو ما أكسبه شهرة بعد خطاب الشاه له بمهارته، والذي كان بمثابة الهبة له.
هذه الأسرة اليهودية فضلت البقاء في إيران، حتى بعد قيام الثورة والإطاحة بشاه إيران، لكن لم يعد لأسرة مثل أسرة إسحاق أمين، مكان للعيش فيها، خاصة وأن إيران بعد الثورة الإسلامية قد أعلنت قطع كل العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، وعدم اعترافها بشرعية الدولة الإسرائيلية.
كما دأب مرشد الثورة ومؤسس الجمهورية الإيرانية الإسلامية آية الله روح الله الموسوي الخميني، على تسمية إسرائيل بالشيطان الأصغر، كل هذه الأسباب كانت كافية لرفض عائلة يهودية في المجتمع الإيراني حتى لو كانت من أصل إيراني. بعدها يتوالى سياق المشاهد (Sequences) وهى مجموعة من الأحداث الدرامية في عدة مشاهد تربط بينها فكرة واحدة مثلها مثل المشهد.
وكما بدأ السياق بإعلان إسحاق عن غضبه ورفضه الأوضاع الراهنة في بلاده؛ فقد مثل هذا الإعلان بداية معاناته منذ لحظات اعتقاله حتى الإفراج عنه وهروبه خارج البلاد.
الأزمة وحدة الصراع
تصاعدت حدة الصراع عندما اعتقل إسحاق أمين من قبل الحرس الثوري، بسبب اتهامه بالتعامل مع الشاه، أيضا مواجهته بالسفر إلى إسرائيل، غير أنه صرح بأن سفره كان للقاء أخيه وهذا لا يمثل مخالفة قانونية. بالإضافة إلى تهديده بزوجته فرناز والتي تكتب مقالات يجدون فيها ترويجًا للفسق والفساد، وهي أفعال كافية لإدانته وسجنه بل قد تؤدي لقتله. لكن الحرس الثوري يأمر بسجنه ويقوم الضابط محسن بالتحقيق مع إسحاق في الاتهامات المنسوبه له.
اللافت للنظر في مشاهد السجن والتعامل مع السجناء، هو تغطية وجوه الجنود والضباط كدلالة على محاولة منهم لإخفاء حقيقة ما يظهروه للسجناء لكن سلوكهم العدواني يفضح تلك الحقيقة فكانت لقطاتهم (Shots).
أما الأزمة في الفيلم فكانت إعلانا عن أوضاع إيران بعد الثورة الإسلامية، ووصف حالة الفوضى التي كانت تعج البلاد بلا ضابط أو قانون. بل تحكمها رغبات أنصار الثورة وما نتج عنها من خراب، وحرق دور السينما، وتعليق جثث من يتم الشك في أمره في الشوارع العامة للتمثيل به؛ لإخافة من يجرؤ على مواجهتهم أو الاعتراض على أفعالهم.
وعليه فإن رؤية الفيلم كانت في تصدير صورة الإرهاب الذي يمارسه الحرس الثوري بوصفه مجموعة حاقدين ليس على النظام السابق، بل على كل غني يتمتع بمال أو سلطة، فحقيقة تلك الضغينة كانت الانتقام والتمثيل بأتباع النظام السابق. حيث ضم هذا التشكيل شبابًا فاسدًا وجد ضالته في نسب كل ما لا حق له فيه إلى نفسه بدعوة تحقيق العدالة والمساواة.
نموذج تلك الفئة يتمحور في شخصية مهدي ابن الخادمة حبيبة، والذي يلتقطه إسحاق وزوجته من الشارع وينقذانهما من الفقر، حين يسمحان لحبيبة بالعمل لديهما خادمة ولابنها في أن يعمل في منصب مهم بمصنع إسحاق لكنه ينضم إلى الحرس الثوري، ويقرر سلب المصنع، بعد اعتقال إسحاق وكأنه حق له.
أيضا وجهة نظر المخرج كانت غالبة في المشاهد التي ضمت الضباط والجنود الملثمين، فنجده عمد على تسليط ضوء الكاميرا على الشخصية وجعل خلفيتها سوداء وكأنه إعلان صريح منه عن الجانب المظلم في شخصية المستبد، وعدم إظهار أي استعطاف معها.
غير أن الضوء أحيانًا كان يركز على شخصية الضابط محسن مظهرا نصف وجهه وسط الظلام فينقسم إلى جزئين أبيض وأسود، كدلالة على أن تلك الشخصية رغم الظلم الذي تمارسه على إسحاق تمتلك جانبا جيدا ولكنه يتساوى مع جانبها المظلم. هذا الجانب الجيد سيكون ملاذ إسحاق الأخير في نهاية الفيلم.
أيضا تضمين بعض اللقطات بإطار (Frame) واحد ذو خلفية سوداء كدلالة على الاتساع الذي منحه المخرج للشخصية لكن هذا الاتساع مقيد بأطماعه وجشعه. فجاءت تلك اللقطات على النحو الآتي:
أما لقطات مشاهد إسحاق المظلوم من وجهة نظر المخرج فكانت خلفية اللقطات أيضا سوداء كدلالة على الظلم الذي يحيط به والمعاناة التي صابته واليأس الذي سيطر عليه، وأيضا فقده الأمل في النجاة فجاءت كالآتي:
يزداد التصاعد في الأحداث عندما تبدأ حقيقة الضابط محسن – الذي عذب إسحاق بالضرب حتى سالت الدماء من قدميه والترهيب من الموت رميا بالرصاص، وسماع صوت المساجين وهم يعذبون حتى الموت، كل هذا لإجبار إسحاق على الاعتراف بثروته ومصدرها ـ في الظهور، كالتالي:
المساومة على الحرية
بعد فقدان الأمل تبدأ المساومة على الحرية. حينما أظهر محسن سبب العدواة والكراهية، هنا كان ذكاء إسحاق هو المحرك لاستعطاف الضابط، والتوسل إليه، لكن غنيمة الضابط كانت بتنازل إسحاق عن ثروته بالكامل مقابل تحريره، هنا يبدأ محسن في الإعلان عن شخصيته فيخلع القناع عن وجهه، وكأنه لم يعد هناك حاجة للتخفي من الحقيقة.
كانت الخاتمة (Resolution) مغلقة ومرضية للمشاهد خاصة بعد مشاهد الظلم والمعاناة التي تعرض لها الممثل، حيث ظهر الجانب الجيد من شخصية الضابط محسن في ختام الفيلم، والتي كانت سببا لنجاة إسحاق حينما أصدر الأوامر لرجاله بترك إسحاق وشأنه بل وإحراق رسالة الشاه له والتي كانت مصدرا كافيا لاتهامه بالخيانة.
بالنهاية تمكن إسحاق من الوصول إلى الحدود التركية في مشهد يعبر عن الانفراج بعد الشدة.
خاتمة
كانت احترافية الممثلين، وبراعة مخرج العمل ومنتجه سببا لنجاح الفيلم وحصده الكثير من الجوائز، فنرى براعة الممثل أدريان برودي في توضيح كم الرعب والألم اللذين عايشاهما. كذلك فعلت سلمى حايك لكن أداءها في تقديم صورة المرأة الإيرانية كان مبالغ فيه خاصة نظرتها الطبقية والتي كانت سببا لأحقاد حبيبة ضدها.
أيضا تصدير فكرة أن الحرس الثوري مجموعة من المجرمين، وبخاصة ممارسة الإرهاب في حق اليهود متمثلة في شخصية إسحاق أمين، هى في الحقيقة صورة مبالغ فيها خاصة وأن الأفلام الممولة من قبل شركات يهودية أو منتجيين ومخرجيين يهود تحرص دائمًا على تصدير جانب المعاناة لليهود.
كل هذه الأحداث كانت محفزا للمشاهد للبحث عن الحقيقة ووضع عددا من أسئلة عن أوضاع إيران قبل الثورة أمامه، غير أنها أسئلة بلا أجوبة الأمر الذي سيرغم المشاهد المدقق على الرجوع إلى كتب التاريخ للإجابة عنها.