في إطار التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها إيران، تبرز عدة تطورات مهمة تعكس الصراع الداخلي بين القوى المختلفة في النظام. من جهة، تتزايد محاولات القوى المتشددة فرض مواقفها من خلال دعوات لتظاهرات تستهدف تحريك الشارع، إلا أن نتائج هذه الدعوات تظهر انعدام التأييد الشعبي الواسع لها.
من جهة أخرى، يأتي تصريح سعيد جليلي، أحد أبرز الشخصيات السياسية المرتبطة بجبهة المتشددين، ليكشف عن تباين في المواقف الرسمية حول قضايا حساسة مثل قانون الحجاب، في وقت يعكس فيه صمت المؤسسات العليا، كالمجلس الأعلى للأمن القومي، حالة من الارتباك والتنافس على النفوذ.
في هذا السياق نشرت صحيفة “جمله” الإصلاحية التحليل التالي لمناقشة هذه التطورات، مؤكدة أن هذه الانقسامات تؤشر إلى ضعف التنسيق داخل النظام الإيراني، وغياب رؤية موحدة بشأن القضايا الإستراتيجية.
منصات السوشيال ميديا تثير حفيظة المتشددين
على مدار الأيام الثلاثة التي تلت الخطوة الأولى للحكومة الإيرانية الحالية، والمتمثلة في رفع الحظر الكامل على الإنترنت، وإزالة الحجب عن تطبيق “واتساب” ومتجر “جوجل بلاي”، وقعت عدة أحداث مهمة يمكن أن تكشف العديد من الحقائق أمام الرأي العام.
أولًا: وقبل بضع ساعات من بدء جلسة يوم الأربعاء الموافق 25 ديسمبر الجاري للمجلس الأعلى للفضاء السيبراني، قام 136 نائبًا بتوجيه رسالة من ثلاث صفحات مكونة من خمسة بنود إلى أعضاء البرلمان، محذرين من أن هذا الإجراء هو في الواقع “هدية مفاجئة للأعداء في الحرب الناعمة”، مع تكرار العبارات التي يسمعها الجمهور يوميًا في المنابر والندوات.
بالنسبة لهذه الرسالة، كان الأكثر غرابة من محتواها هو أن أسماء وتوقيعات النواب لم تُكشَف. وبحسب المعلومات المتوفرة في الإعلام الإيراني، فإن عددًا قليلًا من النواب، من بينهم “مجتبی زارعي كياپي”، ممثل دائرة طهران، ري، شميرانات، إسلام شهر، وبرديس، كانوا صادقين كفاية ليصرحوا بتوقيعهم على الرسالة.
يمكن التكهن بأن التوقيعات تخص أعضاء “جبهة الصمود” الذين كانوا نشطين خلال السنوات الثلاث الماضية في قضايا مثل: قانون الحجاب وخطة الحماية السيبرانية. وأيضًا بعض النواب الذين تركوا مشاكل البلاد جانبًا، وكرسوا وقتهم يوميًا في قاعة البرلمان لتهديد الحكومة، وإطلاق تصريحات تحذيرية حول التفاوض مع الغرب.
إلا أن الغريب في الأمر، هو أن هؤلاء النواب أنفسهم لا يجرؤون على الكشف عن أسمائهم أو الإعلان عن توقيعاتهم، وهذا يعكس حقيقة أنهم يدركون أن الغالبية العظمى من الرأي العام لا تتفق مع أفكارهم ورؤاهم. هؤلاء النواب ربما يتخيلون “المجتمع الفاضل” الخاص بهم في الأحلام فقط وليس في الواقع.
كما يبدو أنهم يدركون وجود فجوة كبيرة بين أولوياتهم وأولويات ناخبيهم، ويخشون أن تُذكر أسماؤهم في الصحف وفي التاريخ كجزء من المسؤولين عن مثل هذه القرارات. وربما قبل المواطنين العاديين، سيكون أول من يحاسبهم على ذلك هم أبناؤهم وأحفادهم.
النقطة الثانية، أن هؤلاء النواب، الذين انتُخبوا في البرلمان الأقل تمثيلًا في تاريخ الجمهورية الإسلامية، يدركون أيضًا أن مطلبهم –أي استمرار الحجب– ليس له قبول حتى بين ناخبيهم، فضلًا عن الغالبية العظمى من المجتمع. ولهذا السبب يضطرون لإخفاء أسمائهم وتوقيعاتهم على مثل هذه الوثائق.
تحريك الشارع في وجه حكومة بزشكيان
بعد أن أزال المجلس الأعلى للفضاء السيبراني الحظر عن “واتساب” و”جوجل بلاي”. بعض السياسيين المؤيدين للحجب، مثل “قديري أبيانه”، ادعوا في وسائل الإعلام الاجتماعية أن الحكومة الرابعة عشرة تسعى لتحويل إيران إلى “تايلاند”، وهو ادعاء لا يستحق التعليق.
أنصار هذا التوجه دعوا أيضًا إلى تنظيم مظاهرة بالدراجات النارية والسيارات في طهران، وقد انتشر هذا الإعلان بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. حتى إن بعض الناشطين والشخصيات السياسية البارزة، المؤيدين للحكومة والغالبية الشعبية في هذا الشأن، طلبوا من الجهاز القضائي التعامل مع الأمر، ومنع إصدار تصريح لهذا التجمع، ربما لتوقعهم أن يحظى هذا الإعلان بتأييد من قاعدة اجتماعية تمثل التيارات المتشددة.
ومع ذلك، أُقيمت مظاهرة الدرجات النارية والسيارات يوم الجمعة الماضي بالفعل، إلا أن بعض المقاطع المصورة أظهرت مشاركة عدد قليل فقط منها. ووفقًا لموقع “انتخاب” الإيراني، فإن عدد المشاركين بلغ عشرة أشخاص فقط، ورغم قلة العدد، فقد أثاروا ضجة كبيرة، وحذروا مما وصفوه بـ”فتنة مرجفون” ومثيري الفوضى.
إثارة سعيد جليلي للجدل حول قانون الحجاب
بدأ “سعيد جليلي”، المسؤول الحكومي الذي كان يعمل في الظل لفترة طويلة، في الآونة الأخيرة بالظهور العلني نتيجة الضغوط التي أعقبت هزيمته في 15 تير 1403 ه.ِش (الموافق 5 يوليو 2024م). وفي تصريحاته الأخيرة، أدلى جليلي بملاحظات مثيرة، وتحدث في شأن المجلس الأعلى للأمن القومي.
مرشح الانتخابات الرئاسية المفضل لـ”جبهة الصمود” ادعى أن وقف قانون الحجاب لا علاقة له بالمجلس الأعلى للأمن القومي (شعام)، وأن المجلس لم يصدر أي قرار بهذا الخصوص.
جاء ادعاء سعيد جليلي في وقت أعلن فيه البرلمان رسميًا أن تنفيذ قانون الحجاب تم تعليقه من قبل المجلس الأعلى للأمن القومي، وأن الحكومة طُلب منها تقديم ملاحظاتها بشأن القانون إلى البرلمان، ليقوم البرلمان بإجراء التعديلات اللازمة، ثم يجبر الحكومة على تنفيذ القانون. بعد ذلك، يُصدر رئيس البرلمان هذا القانون.
إذا كان ادعاء سعيد جليلي صحيحًا، ولم يصدر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أي قرار بشأن قانون الحجاب، فلماذا امتنع رئيس البرلمان، الذي سبق أن وعد بإصدار القانون في 23 آذر 1403 ه.ش (الموافق 13 ديسمبر 2024م)، عن تنفيذ وعده؟. وفي حال صحة ادعاء جليلي، يكون محمد باقر قاليباف قد ارتكب تقصيرًا واضحًا في مهامه.
علاوة على ذلك، فإن المجلس الأعلى للأمن القومي هو هيئة عُليا تعمل تحت إشراف القائد الأعلى للثورة “علي خامنئي”، وتُنفذ قراراته فقط بتوقيعه. إذا كان كلام سعيد جليلي صحيحًا ولم يصدر المجلس أي قرار، فلماذا التزم الصمت ولم يصدر بيانًا أو تكذيبًا؟ ولماذا أصلاً يتحدث سعيد جليلي في هذا الشأن ويصدر تكذيبات؟ هل هو المتحدث الرسمي باسم المجلس الأعلى للأمن القومي؟
جملة ما سبق أن هذه التطورات تشير إلى فوضى سياسية داخل النظام الإيراني، حيث تتنازع أطرافه على تشكيل صورة السلطة في ظل الضغوط المحلية والدولية، ما يعكس هشاشة التنسيق بين مؤسسات الدولة وغياب رؤية موحدة بشأن قضايا استراتيجية تمس المجتمع والدولة على حد سواء.
—————-
مقالة مترجمة عن صحيفة جمله الإصلاحية بعنوان “نامزد ناكام جبهه پایداری، سخنگوی شعام؟ – هل المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي المعروف اختصارًا بـ “شعام” هو المرشح الخاسر لجبهة الصمود؟ بتاريخ 8 دي 1403 هـ. ش. الموافق السبت 28 ديسمبر 2024م. على الرابط التالي: http://surl.li/fgjfay